تستطيع رِئَتا قلبِك أن تستنشقَ نسيمَ فصلٍ رَبيعيٍّ بكامله، وأنت تُطالع أُفُقَ الدَّعوة إلى الله تعالى.. لكنْ هذا لن يُعفِيَك من صقيعِ عَصرٍ جليديّ بأكمله، وأنت تَنزل إلى واقع من تُخاطبهم.. وبين مُداعبةِ النّسيم لك وإحكامِ قبضةِ الصَّقيع عليك،ِ لا يبقى لك مفرّ من الفرار إلى من تجد نفسَك بين يَديْه مُنْزِلاً حِمْلَك ومُناجِياً بَقَايا ما سَلِمَ فيك مِن عَدْوَى مُصاحبةِ واقِعِهِمْ لتُناجِيَ بها من عليه يكون توكُّلُك حتّى تستمدَّ استقرارَ ذلك النّسيم في فؤادك لِتستطيعَ -به- استشعارَ دِفءٍ تَصهرُ به الجليد الذي يتربَّصُ حَواليك وعليك.. …. أجل تبدو هَذَيَاناً لُغويا غارقا في الذات.. إذ الأمر ليس بهذا التعقيد.. لكن، لربما هي تلك الحُرقة الشَّديدة على النّفس.. وتلك الحسرة في هَجْمَتِها تَفْرِضُ عليك أن تبحث بين المادّة عمّا عُلِّمْتَ من أسمائها.. لتُنطِقَ ما يعتمل فيك من وهنٍ.. فيجدها سامعك مبالغةً واستِعراضاً لفنون البلاغة.. بينما أنت في قرارة نفسك تقول مُستَضْعَفاً: صدِّقني أنا لا أعرف من اللغة إلا ما اتصل منها بالإحساس.. أما ما كان منها قاعدةً فما ارتَدْتُ لها في المدارس إلّا بقدر حظّ المبتدئ من الأبجديات.. …. لا لا، قطعا لن أعترض عليك في كون الأشعار والإيغال في الوصف لا يكاد ينجو من ادِّعاءٍ وتكلُّفٍ قد يَفِْرضُهُ الوزن والنظم والسجع وتلكم الموازين الثِّقال.. لكن هل تستطيع أن تُجيب صادقا عمّا إذا كان كلُّ أولئك ينطِقون عن مكنوناتٍ حاصلةٍ فعلا أم هم مجرّد أدعياء؟! ألست تجدُ أنّ في العاجزين عن إدراك قوّة الحب، مَن لم يستوعب انصراف الصَّحب عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة ما ألمَّ بِهِم من همٍّ وكربٍ.. وغيرهم ضاقت على وعيه أن يقبل إقدامه صلى الله عليه وسلم على الانتحار وقد فارقه الوحي، ذلك الوحي الذي تستمدُّ به روحه الشريفة نعيمها.. هذا والبُخاري -صاحب أشهر ميزان في قبول الحديث وردّه- أوردها في جامِعِه؟! ولم يتحرّج منه إذ فهم أن الأمر يُنبي عن درجات عالية من الحب يحتاجها من يأتي باب السِّيرة مُتعلِّماً.. …. صحيح، إنّ عجزنا عن إدراك درجات نفس الآخَر وتأثُّره وانفعاله، أمرٌ بديهي.. لكن إذا قدّمنا في ذلك ميزان الشَّرع وأنّ اختلافنا سُنّةٌ إلهية مسبوقٌ تقريرها في الأزل.. أدركنا أنّ في تعبير البعض إنّما هو بُعيْض إعرابٍ عن حربٍ ضخمةٍ تعتمل في داخله لا تكاد نارها تستكين حتى تلتهب.. لذلك اختلفت الهمم بنا، فمنا المجاهد مستقبلا ساحات الوغى، ومنا المتخلّف ركونا إلى الهوى، وبينهما مثبّطون وكذّابون ومُشفقون.. وألوان النّفوس.. …. هيا لا عليك.. المهم.. علينا أن نمضي في هذا الطريق.. فلم يعد هناك من مجال لنكون من العوامّ ونركن إلى وسائلهم في إخماد هذه الحرب الداخلية.. لقد بِتُّ أعتقدُ أنّها تُمِدُّنا بنوعِ حياةٍ أو بِمعنى لحياتنا.. علينا أن نُكمل مشواراً نهايته عند ذلك الانفصال بين الرُّوح و الجسد.. في طريقها -الروح- لَِتلَقِّي أنباءَ الجزاءِ المُعَدّ لها.. فاللهم خيرا.. …. حسنا تأكّد نحن بِحربِنا ونيرانها الملتهبة أفضل حالا من الأموات الذين يَدِبُّون بيننا في خُطى تقهقرية إلى حيث الشّتات والضّياع.. فإنْ علمتَ ذلك.. وأيقنتَ أنّه ما من إكسير لحياتك غير هذا.. أصبح لابدّ عليك من التّموقع في الصّفّ.. واستصحاب صدق التّوكّل.. والله المُستعان..