عُذّبوا لإيمانهم، وفتِنوا عنْ دينهم، وسجنوا لعقيدهم.... وتحمّلوا من العذابِ صُنوفاً، ولقوا من العذابِ ألواناً، ولا ذنبَ لهم إلا أن يقولوا ربُّنا اللهُ، فلجأوا لمّا اشتدّ عليهم الأمرُ ولم يعُدْ في قوْسِ صبْرهم منْزعٌ، لجأوا إلى من يشهدون صادقين مُصدّقين، بإيمانٍ ويقينٍ، راسخ مكينٍ، أنّه رسولٌ من الله مُبلّغٌ أمينٌ، فكاد قلبُهُ، وهو رؤوفٌ رحيمٌ، يتقطّعُ ويتفطّرُ، رحْمةً ورأفةً، وهو منْ وصفه ربُّه تعالى في كتابِه الحكيمِ، بأنّه: «بالمؤمنين رؤوف رحيم» (التوبة: 128)، فلم يأمْرهم بعُنفٍ يرُدُ السَّيّئة بمثلها أو بأسوأ منها، فهو (رحمةٌ للعالمين)، وما بُعِثَ إلاّ بالإسلام والسّلّم والسّلام، فقال لهُمْ في عزْمٍ وحزْمٍ: «تفرّقوا في الأرض». ولم يَكُنْ يَخْطُرُ منهم على بال أن هذا سيكونُ الجوابَ: هجرة الإخوان والخِلاَّن والبنينَ والأوطانِ، ومع ذلك لم يتردَّدوا في التَّسَاؤل الذي يُنتظرُ من كلِّ مؤمنٍ عميقِ اليقينِ راسخ الإيمان: «أين نذهبُ يارسولَ اللَّه؟»، دعاهم الرسولُ فأجابوهُ، أمَرَهُم فأطاعوه، إنَّهم يُحبُّونه فوقَ حُبِّهم لأنفسهم وذويهم.. فما كان منهم إلاّ أن أجابوه بلِسان الحالِ بعد المقال: «السَّمْعُ والطَّاعَةُ لك يارسولَ الله، صلّى اللهُ عليك وعلى آلك وصَحْبِك، وعلى كلِّ من والاك، وعادى من عاداك، سَنُهاجِرُ... ولكن إلى أين الهجرةُ والمسيرُ؟ فأشار إلى الحبشةِ، حيثُ كانتِ الهِجرةُ الأولى؛ معظمُ القلَّةِ المؤمنةِ آنَئِذٍ هاجَرَتْ، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بمُفرده، لَمْ يَحْبِسْهُم شيءٌ عن الهجرة إلى الله ورسوله، لا مالٌ ولا كَسْبٌ مادّيٌّ ولا أهلٌ ولا ولدٌ ولا أصحابٌ، ولا أيُّ آصِرَةٍ مادِّيَّةٍ، ولا رابطةٍ دنْيَوِيَّةٍ، هاجَروا إلى اللّه ورَسولِهِ، لِيَعْبُدوا اللهَ وحدَهُ مخلِصين له حُنفاءَ، ويقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتوا الزَّكاةَ، ويُطيعوا اللّهَ ورسولَه، وليُؤَدّوا شعائرَ دينِهم ويقيموا عِباداته ومعاملاته مع كلِّ الخَلْقِ في سِلْمٍ وأمْنٍ وأمانَةٍ واطْمِئْنانٍ، لايُشَوِّشُ عليهم منافِقٌ لئيمٌ، ولا يَفْتِنُهُم كافرٌ فاسِقٌ زَنيمٌ. والنِّفاقُ دائما حليفُ الكُفْرِ، لاتُعْوِزُهُما الحيَلُ ولا تنقصهما المكائدُ، فسرعان ما أشاعا كَيْداً ومَكْراً وخِسَّةً ولُؤْماً أنَّ الأمرَ بين الشِّركِ والإيمانِ قدِ استقرَّ، ولَنْ يَسْتَقِرَّ أبدا، فَوَصَلَتِ الأخبارُ بذلك إلى المهاجرينَ في مَهْجَرِهِمْ، وقد برَّح بِهمُ الشَّوْقُ إلى وَطَنِهم مكَّةَ، وإلى ذويهم وأحْبابِهم، واشتدَّ بِهِمُ الحنينُ، فلم يتحرَّوا ولم يتثَبَّتوا أوْ يتأكَّدوا، وعَجلوا بالعَوْدَةِ مُهْرَعينَ فما كان من المُشْركين إلى أن سَطَوْا بهم، واشتدوا في تعذيبهم والتَّنْكيل بهمْ، بما يعْجِزُ القلمُ واللِّسانُ عن وَصْفِه.. ومع ذلك صَبَروا وتَحَمَّلوا، ولم يَرَدّوا بالمثل - سرّا أو علانيَّة - وذاك شَأْنُ المسلمين في كلّ مكانٍ وزمانٍ، حلمٌ وعلمٌ... والكفر والنفاق في تحالُفهما - حيثما كانا - ومتى كانا - عَكْسُ ذلك: جهل وظلم. وقد حدَّثت بعض المسلمين نفسُه بالعودة إلى الهجرة، فلم يَجْرُؤْ، إلا بعد استئذانِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فالمُؤْمنون، أفراداً وجماعاتٍ، شعوباً وقبائلَ، حكَّاماً ومحكومين، لايتصرَّفون إلاّ بعد الشورى والاستئذان، وبعد تيقُّنِهم من حُكْمِ الله في ذلك التَّصرُّف... فتحمّلوا - رضوانُ الله عليهم - صنوفَ الأذى الشديد وألوانَه، حتَّى أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، عن أمْرِ الله تعالى، بالهجرة من جديدٍ، فكانتِ الهجرةُ الثانية إلى الحبشة، وكانوا يعْرِفون هذه المَرَّةَ وِجْهتَهُم ليتيمَّمُوهَا، ولكنّهم يريدون رسول الله أن يكون معهم.. ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم المهاجرُ الأوَّلُ في كلِّّ وقْتٍ وحين.. مهاجرٌ وإن أقام بمكة.. فالهجرة هي إلى اللّهِ أوَلا ثم إليه ثانيا.. والمهاجرون لا يأسفون بهجرتهم على أحد أو على شيءٍ، فأسفُهم هو على رسول الله الذي لا يطيقون فراقَه، وهم معه بمكة، فكيف تُفرقُهُم عنه المسافات البعيدة الشاسعةُ؟ كيف تحول بينه وبينَهُم البحارُ والأنهارُ والجبالُ والوِديانُ والصَّحارى؟ ولم يجد أحد منهم الجُرأَةَ ليَبُثَّ مشاعرهم هذه إلى الرَّسول الحبيب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، إلاَّ ذا النّورَيْن الحييَّ الراشد الرشيد الشهيد السعيد، صهرَهُ وصاحِبَه، عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاهُ ، فإنَّه توجَّه إلى رسول الله حبيبه وصهره بهذه الكلمات والخواطر الحييَّة المليئة حبا ورجاءً ، يتحدث فيها بالأصالة عن نفسه، وعن زوجه ابنةِ رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبالنيابة عن الصحب المهاجرين الكِرام من ذكور وإناثٍ، «يا رسول الله» هِجرتنا الأولى كانت إلى الحبشة عند النجاشيِّ، وهذه الأخرى إلى نفس الوِجهة، ولست معنا في كِلْتَيْهما!؟»، خطاب بالتعظيم والإجلال والتكريم والاحترام: «يا رسولَ اللَّهِ» وهو أعظمُ وصفٍ يليقُ به ويصدُقُ عليه «هاجرنا الهجرة الأولى إليك ولم تكن معنا بجسدك، وإن لم تُفارِقْنا بروحِك وتوجيهاتك وتعليماتِك، وآيات الله التي أوحى بها إليك، وهذه هِجرَتُنا الثانيةُ، وهي أيضا إليك بعد اللَّه... ولَسنا نخشى عليك بعدنا أذى الكفار أو بَطْشَهم.. فمنك بعد الله كنا نستمدُّ القوَّةَ والقُدرَةَ على احتمالِهما، ولن نزال... لقد كُنتَ مثَلَنا الأعلى في ذلك الصَّبْر، وذلك الاحْتمال.. وكُنْتَ إسْوَتَنا الحسنةَ في عدم ردِّ الأذى بمثله أو بأسوأَ مِنه... ونحن نعلم علم اليقين أنَّ بَطشهم لن يفُتَّ في عضُدكَ ، ولن يوقفَ من عزمك على المُضيِّ قدما، متوكلا على الله، مُفوضا أمرَكَ إليه جلَّ جلالُه في الدَّعوةِِ إليه ونشر دينه وإعلاء كلمته، وهي العُليا دائما... واللَّهُ يعصمك ويحميك ويقيكَ ويحفَظُك ويرعاك، فأنت مُصطَفاهُ ومُجتباهُ وخيرتُهُ من خلقه، وإمامُ رُسُله وخاتِمُهُم، وإنّ هجرتَنا الأولى كانت ولم تكُنْ معنا تُرافِقنا بشخصك، وهاهي الثانية نُقبل عليها بإذنك، ولستَ معنا فيها بشخصك، ونحن لا نطيق فراقَك وبعادَك؛ فنحن معك وبك وفي صُحبَتِك وتحت ظل رعايتك نرتفِعُ ونسمو إلى جَوِّ من العُلُوِّ والسُّمُوِّ نحسُّ معه، وفي سناه وسنائه كأنَّ الملائِكَة تُصافِحُنا، وأنت يا حبيبَنا، يا سيِّدنا يا رسولَ اللَّهِ، أحبُّ إلينا مِنْ نفوسنا التي بين جنوبنا، ففراقُك وبُعدنا عنك أشدُّ مضاضةً علينا من تعذيب الكُفَّار وأذاهم وبطشِهم، وأوْقعُ في نُفوسِنا من وحشَةِ الغُربةِ وألَمِ البُعد وحنين البَيْنِ.. «هذه هِجرتنا الآخرة وأنت لستَ معنا؟» لم يقلْ سيدنا عثمان رضي اللّه وأرضاه: هذه هجرتُنا (الثانيةُ)، بل قال: (الآخرة) ثقة منه باللّه وبنصْره وبوعده الحقّ بالتأييد لعباده المؤمنينَ المهاجرينَ... قال واثقاً مطمئناً: (الآخرةُ)، لأن المؤمنين في أسْوإ ما يبدو أنه يمر بهم ويعانونه من الأحوال والأحيان، دائما متفائلون - حتى في أحْلك الظروف - لأنّهم يستندون إلى وعد اللّه لهم بالنّصر بعد التمحيص، ولأنّهم يعتمدون على وعيد اللّه للظالمين بما يتستحقون جزاء وفاقاً، ولات مناصَ... ولكنّهم يريدون رسول اللّه معهم، وهو معهم بدعوته، وهو معهم بتوجيهاته وتعاليمه، وهو معهُم بوحي اللّه الذي بلَّغهم إياهٌ، ليحييهُم حقّ الحياة... فبماذا أجاب سيّدنا وحبيبُنا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم صهرَهُ وصاحبَه وخليفته سيّدنا عثمانَ بن عفّانَ رضيَ اللّه عنه المؤمنين والمؤمنات من المهاجرين والمهاجرات: «أنتم مهاجرون إلى اللّه وإليَّ، لكم هاتان الهِجرَتان جميعاً، فقال عثمان رضي اللّه عنه بلسانِ الجميعِ راضينَ مرْضيّين: «حسْبُنا يا رسولَ اللّه». وهجرة جميع المؤمنين في كلّ مكان وزمان ماضية إلى يوم القيامة، بهجران الكُفر والنّفاق والشقاق... بهجران كلّ ما نهى اللّه عنه.. هجرة جميع المؤمنينَ والمؤمنات أمْس واليومَ وغدا إلى اللّه ورسوله حقيقةُ إيمانيةُ سلوكيّةٌ تاريخية وهي أيضا رمز روحي سامٍ.. إنها أيضاً رجاءًٌ وأمل لابد أن يتحقق في مستقبل إنساني عام شامل سنيّ سعيد، يرفع قدرَ الإنسان بما كرّمه به اللّه وفضّله في كلّ فتراتِ حياته على هذه الأرض الطيّبة كلّها... وقد علمنا رسولُ اللّه أن كرامة الإنسان وفضله يتحقّقان في الإسلام للّه؛ وحقُّ الإسلام للّه تعالى تجده الإنسانيةُ في قلبِ كلّ من ألقى منها السّمع وهو شهيدٌ، حين يتلقّى بقلبه وعقله ووعيه كلّ ما علّمه رسول اللّه الصادق المصدوق بالوحي الكريم: «المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (البخاري). هذه حقيقة إنسانية للمسلمين في إسلامهم للّه ولرسوله. وهي كرامة لهذه الإنسانية.. وهي جوهر فضلها وتفضيلها.. وهي لب هجرة كل مؤمن مهاجر إلى الله ورسوله، قولاً وفعلا، وشكلا ومضموناً.. وهي سرّ ما علمنا إياه سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، مبلّغاً صادقاً عن ربّه جلّ وعلا. بهجرة الإنسانِ لما نهى اللّه عنهُ يكون حقا مسلما مؤمناً مهاجراً إلى اللّه وإلى رسوله، وتمضي به هذه الهجرة من هذه الدنيا إلى يوم القيامة مكرّما مفضّلا مرزوقاً.. وذاك ما أراد اللّه لهُ.. أراد له ولهم أن يسلموا ويسلم من سوء النوايا والطوايا، ليُحققوا معه إسلامهم الحقّ وهجرتهم الكفر والنفاقِ.. وإنما هي عين مواجهتهما، لأنها ليستْ فراراً منهما، بل هي فرارٌ إلى اللّه... تلك هي حقّ الهجرة إلى اللّه، مصداقا لقوله تعالى: «ففروا إلى اللّه إني لكم منهُ نديرٌ مبين» (الذاريات 50). وهذه الهجرة بهذا المعنى هي أفضلُ الإيمان، فقد سأل الصّحابيّ الجليلُ عمرو بن عنبسة رضي اللّه عنه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «أيّ الإيمانِ أفضلُ؟ فقال: الهجرةُ». فقال الصّحابيّ: «وما الهجرةُ؟» فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «أن تهجرَ السّوءَ».