بقلم: أحمد الفراك الهجرة لغة من الهجر وهو الفصل، ضد الوصل، هجره بمعنى فارقه وانفصل عنه، ووردت مادة "هجر" في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرة، تفيد معنى الزيال والمفارقة والانفصال، والانتقال من حال إلى حال، والابتعاد عن الشيء وتركه.وتكون الهجرة حسية مثلما تكون معنوية، فهي حسية بمعنى هجر الحيز المكاني إلى حيز آخر يفضله، قال الله تعالى: ومن يهاجر في سبيل الله يجد مراغما كثيرا وسعة ، ومعنوية بالانتقال الروحي الإيماني القلبي من حال إلى حال يفضله، قال الله تعالى: واهجرهم هجرا جميلا ، وقال أيضا: والرجز فاهجر . وقد جمعت الهجرة النبوية بين المعنيين معا. الهجرة سلوك إيماني جهادي اختياري حسي ومعنوي، شامل لكلية المؤمن وممتد في الزمان، يستجيب لأمر الله، ولا يريد إلا وجهه "إني مهاجر إلى ربي" فهي هجرة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.هي استجابة لنداء الله تعالى لرسوله وللمومنين معه. استجابة لا يعبأ بها إلا الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، الذين سبق لهم من الله التوفيق والهداية وبرهنوا على صدقهم بالبذل والاستقامة. حتى تكون هوية الهجرة هي العبودية لله تعالى. الهجرة معالجة ربانية نبوية لواقع التكذيب والسخرية والظلم. لم يكن حدث الهجرة النبوية من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة حدثا منفصلا معزولا عن مجموعة الأحداث والمعاني الإيمانية التي سبقته وأسست له ونظمته في سياق تعبدي جهادي، إذ ليس فعل الهجرة الحسي المتمثل في الانتقال من مكان إلى مكان، إلا وجه واحد من أوجه الهجرة الشاملة، ومرحلة واحدة من مراحل الدعوة الدائمة التي تتداخل فيها جملة من الأعمال القلبية والجوارحية والتنظيمية الأخرى كالصحبة والجماعة والتوبة والنية واليقين والاقتحام والجهاد. فالهجرة هي هذا المجموع المنهاجي الذي لا يتجزأ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" ، فهي هجرة مستمرة لا تنقطع إلى يوم القيامة، مقام بعد مقام ومرحلة بعد أخرى، في بداية السير وفي وسطه وفي نهايته، ولا ينتهي السير إلا بالموت في حق الفرد، وبالقيامة في حق الجماعة. الهجرة فرار إلى الله ولجوء إليه، هجرة قلبية إلى حماه من كل صنوف الشرك والغفلة والنفاق والقعود. قال صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" ، فلا يستحق صفة المهاجر بحق إلا الذي تاب إلى الله توبة نصوحا، وقطع مع حبال الجاهلية: ظنها وحميتها وتبرجها وحكمها.وأحب في الله وأبغض فيه. في دار الأرقم بن أبي الأرقم تربت الجماعة الأولى بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدق والمحبة والجهاد ، حتى تخرج ذلك الجيل القرآني الفريد الذي لا تنتهي ذلته على المونين ولا تنثني عزته على الكافرين، وصفهم الذي كلأهم بعنايته ورعايته فقال: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، معه، معه، معه كانوا أشداء رحماء.نسبة إليه لا إلى أنفسهم.لما أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، قال له سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "الصحبة يا رسول الله"، قال له: الصحبة. وما سمي الصحابة صحابة إلا لصحبتهم خير الخلق صلى الله عليه وسلم. ومن كان في معية الحبيب الطبيب فهو بلا شك في معية الحسيب الرقيب، قال سبحانه لموسى وهارون: إنني معكما أسمع وأرى ، وعلى لسان موسى: كلا إن معي ربي سيهدين ، لا تحزن إن الله معنا ، الأمن من الله ومع الله. لم يأذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في الهجرة حتى ألف جماعة المسلمين الأولى ورباها ونظمها، فربط قلوب المؤمنين برباط التقوى والمحبة في الله وألف بين قلوبهم، ولو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ، فجاء فعل الهجرة تتويجا لعمل تأسيسي سابق هو تربية جند الله وتنظيمهم لاستقبال النصر والفتح والتمكين. أما الذين نافقوا وتربصوا وقعدوا ونكصوا وارتابت أيمانهم وظنوا بالله الظنون وترددوا وقعدوا، فلا يستحقون ولاية المومنين ، قال الله تعالى: والذين لم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء في الحديث "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" [1]، فنية الهجرة من الهجرة، وبحسب طبيعة النية تكون نوعية الهجرة، وعلى قدر همة ونية المهاجر يعطى، وفي الحديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته لما هاجر إليه" [2]، لا يستوي من يريد وجه الله مع من يريد فتات الدنيا. فقد يكون الحدث واحدا لكن بحسب النية تتفاضل الأعمال منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . وقد هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يريد امرأة. قال الله تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ، فلا يمكن لقوم أن يحملوا سراج الهداية للخلق إن لم يكونوا على يقين بما هم فيه، لذلك استمر صلى الله عليه وسلم مع الصحابة رضي الله عنهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعرفهم علم اليقين. ومنذ أن قال صلى الله عليه وسلم: "رأيت في المنام أني مهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي يثرب" والصحابة يعدون لذلك اليوم بكل صدق ويقين، وها هو صلى الله عليه وسلم يلقن أبا بكر درسا من اليقين في الله لما كانا في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه، وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم . فأبو بكر لا يخاف في الله لومة لائم، ولكنه يخشى أن يلحق بالمصحوب الأعظم أذى، فأجابه سيد الموقنين والمتوكلين: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" . فالله تعالى يؤيد عباده الصادقين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فهم ثابتون كالجبال، لا تنكسر عزيمتهم ولا تلين قناتهم أمام التهديد والتخويف والاستضعاف. لأن الله معهم إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنونوإن الله مع الصابرين وإن الله لمع المحسنين . أما الذين لا يوقنون فهم معرضون على الدوام للشك والتقاعس والتردد. قال صلى الله عليه وسلم: "العبادة في الهرج كهجرة إلي" [3]، والهرج هو القتل بغير الحق، والفتنة أشد من القتل . والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتم إلا باقتحام عقبات النفس والمال والناس وممانعة عوارض الطباع والأهواء والإغراء، والتسلح بإرادة الجهاد، بالتحمل والصبر والتؤدة والقطع مع الحضوض النفسية والاجتماعية والمالية التي تعارض السلوك إلى الله وتعطل الدعوة إليه.معية الرسول تصح بالتلمذة والمحبة والخدمة والإتباع والتعزير والتوقير، في الشدة والرخاء، في المنشط والمكره، في الأخذ والعطاء. البيعة النبوية بيعة على تحدي الواقع العنيد ومقاومته وتغييره، وليست انبطاحا وتمسكنا وتثاقلا. الهجرة النبوية جهاد ومجاهدة وتدافع ومقاومة ومقارعة لقوى الباطل والظلم والكفر، وإعداد واستعداد واستمداد، وبذل سخي للمال والنفس لإعلاء كلمة الله تعالى في أرضه ونصر دعوته في خلقه. فقد تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه الصحابة الكرام رضي الله عنهم أذى الكفار وتآمر المنافقين، وتعرضوا منهم للسخرية والاستهزاء والتكذيب، بل للضرب والحصار والسجن والتعذيب والقتل، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما أعطوا الدنية في دينهم ولا اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. حتى نصرهم الله وأعز دينه وأتم نعمته ورضي عن المجاهدين المخلصين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وخاب المشركون وخسروا، ولا منتهى لخيبتهم. قال العليم الخبير: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين لماذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل خوفا؟ هل طمعا؟ ومتى هاجر؟ ومن اقترح عليه فعل الهجرة؟ ومن دله على الوقت المناسب؟ ماذا كان ينتظر تلك المدة الطويلة؟ وهل الهجرة بداية أم نهاية؟ وهل الهجرة في ذاتها نصر أم هزيمة؟ وهل بانتهاء الهجرة انتهت المحنة والبلوى أم تضاعفت البلايا وتعددت المحن؟ ثم هل بقيت هجرة اليوم؟ و ماهي؟ ومع من؟ و من ماذا؟ وما هي موانعها؟... لقد هاجر صلى الله عليه وسلم لابتغاء مرضاة الله تعالى، لا خوفا من الناس، ولا يأسا من التبليغ، هاجر لينشر دعوة الله في جميع أرض الله، بما آتاه الله. فقد تعرض عليه الصلاة والسلام لمختلف فنون المساومة والمداهنة فضلا عن التخويف والتجويع والحصار. وهو محتسب وصابر وموقن بالفتح والنصر والتمكين، لكنه لم يهاجر إلا بعد أن أذن الله له بالهجرة، ورأى في منامه أنه سيخرج من مكة وقالها لصحابته فاستبشروا بها خيرا وشمروا لإعداد العدة والخطة ليستقبلوا القدر-البشرى(الهجرة)، آخذين بالأسباب ومتوكلين على رب الأسباب، وهم على ذلك صامدين غير مستعجلين. حتى طلع عليهم صلى الله عليه وسلم ذات يوم بالخبر: "لقد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب" . تضاعف الحمل بمفارقة الأصحاب والأحباب والبلد والعشيرة، والخروج عن العوائد والمألوفات لمعانقة القدر الإلهي، لا لإنهاء فترة الدعوة -فالدعوة لا تعرف النهاية- وتقديم الإستقالة، وإنما للإنطلاق من جديد في رحلة مفتوحة على الزمان والمكان، بدأت كي لا تنتهي، ولن تنتهي حتى تطلع الشمس من مغربها. يرى المعياريون والماديون أن الهجرة النبوية هروب ويأس وقنوط ، ينظرون إليها كظاهرة اجتماعية معزولة صانعها بشر في بشر، أنتجتها ظروف "سوسيو اقتصادية" و"سوسيوثقافية"، وليست خبرا من السماء ولا رؤيا ولا تأييد ولا فتح ولا سنة لله في نصرة رسله وأنبيائه وأوليائه. وهم بذلك يحرمون التوفيق في الفهم فيوكلون إلى ظنونهم وتخميناتهم. كيف نهاجر اليوم؟ قال الله عز وجل: وكان حقا علينا نصر المومنين ،وقال أيضا: إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور . فنصر الله للمومنين ودفاعه عنهم، بل ومجالستهم وذكرهم، ففي الحديث القدسي: "أنا جليس من ذكرني" مستمر إلى أن يرث سبحانه الأرض ومن عليها. وما على المومنين إلا أن يتوبوا إلى الله توبة صادقة وينكسروا بين يديه خشوعا وتذللا، وينهضوا متعاونين لمعانقة وعده، ووعده الحق، موقنين بالفتح والنصر لهذه الأمة إن شاء الله . مهاجرين أوضاعهم السيئة على جميع الأصعدة، التربوية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية. إن التاريخ اليوم يستقبل الخلافة على منهاج النبوة، فماذا أعددنا من أوعية لاستقبال هذا القدر؟ والإقبال على القادر المقدر؟ وهل استخرنا الله وسألناه في نياتنا وأعمالنا؟ أم أننا نخوض معتدين بحولنا وقوتنا وعقلنا وسادتنا وكبرائنا؟ وهل ألححنا في دعائنا على الله كي يجعلنا من عباده الصادقين ومع الصادقين المتحابين المتزاورين المتبادلين المتواصلين المتناظرين؟ أم طلبنا الدنيا؟ فسينجز الله وعده وينصر عباده ويهزم عدوه ويعلي كلمته ويمضي سنته. لكن هل تجاوزنا عقبات وموانع الهجرة من أنانيات معجبة بذاتها وشرك ومعصية وغفلة وسوء ظن وقعود ويأس وبلادة وتنطع وحب للدنيا والجاه وعافية الجبناء؟ هل انخرطنا فعلا في مشروع تجديد ديننا، كل ديننا، إيمان وحكم واقتصاد وأخلاق؟ هواء في هواء ونفخ في الرماد إن لم نتب إلى الله توبة كلية وندعو الناس للتوبة توبة جماعية يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله جميعا لعلكم تفلحون . وإن لم نهجر الظلم ونقاطعه ونبني على غير أساسه.... روح الهجرة النبوية والهجرة على منهاج النبوة هي: صحبة صالحة، ونية صادقة، وتوبة نصوحة، ويقين عازم، واقتحام دائم، وجهاد شامل. اللهم إنا نسألك النية واليقين. ----------------------------------------- 1 رواه الدارمي عن ابن عباس 2 رواه البخاري 3 رواه مسلم عن معقل بن يسار من موقع جماعة العدل والاحسان