وتظهر الأولوية الشرعية من وجوه: 1- حديث: "لأن أمشي مع أخي حتى أقضي حاجته خير من أعتكف في مسجدي شهرا" (صححه الشيخ الألباني في الصحيحة) ودلالته واضحة: فلو خير المتدين -مثلا- بين عبادة "الاعتكاف شهرا في المسجد النبوي" وعبادة "تولي منصب سياسي برلماني أو جماعي بنية قضاء حوائج الناس" لكان اختيار الثاني أولى لمن استطاع إليه سبيلا وهذا المعنى يتجلى فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" (رواه أبو داود وصححه الألباني) وشتان بين صالح معتكف في المسجد، وصالح يكابد أنواع الأذى في البرلمان أو المجلس البلدي أو الجماعي..، أو غيره من مؤسسات الدولة التي يتهارش فيها الفاسدون لأكل أموال الناس بالباطل.. ووالله إن مكتب رجل صالح فيها يقضي حوائج الناس بلا رشوة ولا ابتزاز، ويتقي الله ما استطاع؛ خير من مائة سجاد في مسجد.. 2- حديث النفر من مضر في صحيح مسلم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بتحسين ظروفهم المعيشية قبل تعليمهم أمور دينهم عن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر. فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء:1] إلى آخر الآية، {إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء:1] والآية التي في الحشر: {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله} [الحشر:18] «تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره -حتى قال- ولو بشق تمرة». قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل، كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». 3- حديث: "خير الناس أنفعهم للناس" وأعلى درجات هذا النفع: نفع الناس في دينهم ويليه: نفعهم في معاشاتهم فهو أولى من الزهد بمعنى الانقطاع عن الدنيا، والاعتكاف في المساجد 4- حين نركز على أهمية الاهتمام بتحسين الظروف المعيشية للناس من خلال العمل السياسي.. نركز عليه لأنه باب من أبواب الخير زهد فيه الصالحون والمتدينون.. بل تم صرفهم عنه واعتباره شيئا مذموما! بل وضعت مخططات متكاملة لشيطنتهم تحت مسمى: (الإخوانية) والافتتان بالسياسة والسلطة ! ولا نركز عليه لأنه الأهم؛ بل العمل التربوي والدعوي له الأولوية من حيث الأصل، وإن كان العمل السياسي قد يكون هو الأولى بالنسبة للبعض وفي بعض الأحوال كما يدل على ذلك حديث المضريين .. 5- الممارسة السياسية لا تتنافى مع سلوك الزهد وما هو أعلى منه من معاني الصلاح والتقوى.. وزهد الصحابة رضي الله عنهم؛ لا يتنافى مع الغنى وخلق الثروة والاشتغال بالسياسة (الراشدون رضي الله عنهم كلهم كانوا أغنياء وسياسيين، وهم أئمة الزهاد بالمعنى الشرعي للزهد وليس بمعناه الصوفي) بل: المتدين السياسي المشتغل بتحسين الظروف الاقتصادية لوطنه والظروف المعيشية لمواطنيه، مع نظافة اليد والشفافية في التدبير؛ هو الزاهد الحقيقي وهو أعلى درجة من المتدين المعتكف في المسجد؛ وفي كلٍّ خير.. 6- تتأكد أولوية العمل السياسي بنية "تحسين معاشات الناس"؛ حين يغلب على السياسيين الفساد واستغلال المناصب السياسية لأكل أموال الناس بالباطل .. فالحاجة للصالحين -والحال هذه- تصير ضرورة ملحة وأولوية لا ينبغي التهاون فيها ولا التهوين من شأنها.. لأن هذا التهوين والتزهيد؛ يزيد من تغول الفاسدين واستبدادهم واستئثارهم بالسلطة والثروة بشكل يعمق معاناة المستضعفين ويهدد التماسك والتوازن المجتمعي والوطني 7- لقد كتبنا وتكلمنا كثيرا -معشر الدعاة- في بيان فضل العلم والدعوة والتربية؛ وهذا حق لا يكتمل إلا بإنصاف المجال الآخر الذي فرطنا فيه كثيرا؛ فالتركيز عليه لا يعني أنه أعلى في سلم الأولويات، ولكن لأننا تأخرنا وفرطنا فيه بشكل كبير.. ومن هنا فنحن مطالبون بإحداث توازن يأخذ فيه كل باب من أبواب الإصلاح حظه من العناية وفق الترتيب التالي: أ- الإصلاح العقدي والفكري ب- الإصلاح التربوي والأخلاقي ت- الإصلاح السياسي ومن هنا أهيب بإخواني من العلماء والدعاة أن يغيروا خطاب "التنفير والتزهيد" إلى خطاب "التحفيز والترشيد" وليأخذوا زمام المبادرة والرجوع لممارسة دور العالم في توجيه وترشيد السياسي برفق وحلم وحكمة.. فإن السياسي إذا صلح؛ صلحت بصلاحه كثير من المجالات.. نريد علماء ودعاة من قبيل: أبي شعيب الدكالي وبلعربي العلوي ومحمد المهدي الحجوي والمكي الناصري وَعبد الله كنون وأحمد الريسوني وعادل رفوش ومولود السريري.. وَعَبد الله باها رحمه الله.. جزى الله الجميع خيرا وكثر من أمثالهم.. حاجة الأمة لهؤلاء عظيمة.. وقد تضررت الأمة بالعالم الأعرج الذي يمشي برجل واحدة ولا يواكب حركة التطور البشري المتسارعة والمحتاجة لإشراف العالم الرباني المصلح.. وأكبر من ذلك؛ معاناتها من العالم المشلول شللا نصفيا الذي لا يتكلم إلا في الدعوة، ويهجر السياسة بالكلية فيتركها عارية عن توجيهات وإصلاح الشرع الحنيف.. وأضر منه: المشلول شللا رباعيا؛ فلا يتكلم إلا بما ترخص به السلطة بل المطلوب: العالم الذي يهرول في طواف الإصلاح، ويسابق كبار العداءين في حلبات التغيير، ويسبقهم بما يحمل في صدره من علم الوحي الذي جاء من عند الله لإصلاح أحوال الناس في معاشهم ومعادهم..