إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره. عم برحمته جميع العباد، وخص أهل طاعته بالهدى والسداد، ووفقهم للأعمال الصالحات، ففازوا في الحياتين ببلوغ المراد. واشهد ألا إله إلا الله وحده، تنزه عن الشركاء والنظراء والأنداد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ـ أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، فأقام أركان الحنيفية وأشاد. صلى الله و سلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه. آمنوا بربهم، وجاهدوا مع رسولهم، وعملوا الصالحات فطابت حياتهم، وحسنت عاقبتهم وصاروا مناراً لمسالك الخير والإسعاد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد. أما بعد: العمل الصالح والإيمان فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به و يغفر لكم. اتقوا الله واعملوا صالحا: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). أيها المسلمون،العمل الصالح في كتاب الله قرين الإيمان، وكل بني آدم خاسر إلا من آمن وعمل صالحا. العمل الصالح ميدانه واسع، ومفهومه شامل، ينتظم أعمال القلوب والجوارح، في الظاهر والباطن، في القوى والملكات، والمواهب والمدركات، أعمال خاصة وعامة، فردية وجماعية. إن من الأعمال الصالحة ما يمتد إلى ما بعد الممات. من الصدقة والعلم والذرية الطيبة. إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. أيها الأخوة، إن من الأعمال التي يقوم بها الإنسان أعمالاً يومية معتادة، بل منها ما هو من لوازم بناء الحياة، و لكنها تكون أعمالا صالحةً محسوبةً في ميزان العبد، إذا صحت بها النوايا، واستقامت على الطريقة، وأتقن أداؤها. احفظوا أوقاتكم، ولا تحقروا من الأعمال شيئا، فكل عمل في الإسلام معتبر، مهما قل أو صغر (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). العمل الصالح بشتى أنواعه وألوانه. يحفظ على المرء دينه وعرضه، ويكسب الحياة المطمئنة، ويقوده إلى الخير وراحة البال. وأعمالكم سوف يراها ربكم ونبيكم والمؤمنون: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). الأعمال واسعة وميادينها فسيحة، في أعمال بدنية ولسانية وقلبية. فالشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج في مقدمة الأعمال الصالحات، وبقية الفرائض والواجبات والمندوبات والمستحبات من الأعمال الصالحات، وفي الحديث الصحيح: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. الأعمال البدنية وإن شئتم مزيدا من الأعمال البدنية، فاذكروا بر الوالدين، وصلة الأرحام، وإكرام الضيف والجار، والجهاد في سبيل الله، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم. ومن الأعمال الجليلة الجميلة ـ أيها المسلم ـ أن تواسي فقيرا، وتكفل يتيما، وتعود مريضا، وتنقذ غريقا، وتساعد بائسا، وتنظر معسرا، وترشد ضالا، وتعين رجلاً في مركوبه ليركب، وترفع متاعه عليه ليحمل، تسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بقوة ساعديك لتعين المحتاج والضعيف. ولا يقتصر العمل الصالح على الإنسان وأخيه الإنسان. استمعوا إلى هذا السؤال الطريف من الصحب الكرام مع الجواب الحصيف من النبي عليه الصلاة والسلام: فقد سألوا وقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: في كل ذات كبد رطبة أجر. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الرفق بالحيوان عمل صالح، ركوبه بإحسان عمل صالح، والإحسان في ذبحه عمل صالح: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته. من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. سقي الحيوان وإطعامه عمل مبرور بل أكل الطير والبهيمة من حقل الإنسان وزرعه فيه صدقة وأجر. ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة. متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. وحينما رأى الصحابة ـرضوان الله عليهمـ سعة دائرة العمل الصالح استطردوا في السؤال قالوا: أيأتي أحدنا شهوته و يكون له فيها أجر؟ فكان الجواب النبوي الكريم، قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر. من حديث أبي ذر رضي الله عنه. الأعمال اللسانية أما الأعمال اللسانية فبابها كبير ذكر و دعاء، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وتعليم العلم النافع، ناهيك بالشفاعة الحسنة، تفك بها أسيراً، وتحقن بها دماً، وتجر بها معروفاً وإحساناً وتدفع بها مكروهاً (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى). والتبسم في وجوه الإخوان عمل كريم، ينضم إلى ذلك الإصلاح بين الناس، ورد السلام وتشميت العاطس، وكل قول جميل، وكلام طيب. منطوقاً ومكتوباً، ومذاعاً ومنشورا. الأعمال القلبية أما ميدان الأعمال القلبية فواسع. من الإيمان بالغيب، والحب والبغض، والغضب والرضا، والخوف والرجا، والخشية والصبر، والتذلل للمولى جل وعلا، والانكسار بين يديه، وتعلق القلب بالمساجد، ومن ذلك الأعمال الفكرية، من التخطيط والتفكير والتأمل والعزم والتصميم. بل النيات والمقاصد لها في الإسلام شأن عظيم، فإنما الأعمال بالنيات. واستمعوا ـرحمكم الله ـ إلى هذا الحديث الجامع: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنا قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعا أو تصنع لأخرق قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك. من حديث أبي ذر رضي الله عنه. أعمال نزيهة معاشر الأحبة: من هذه الدائرة الواسعة للأعمال الصالحة، فإن صاحب المال ينفع بماله، وذا النفوذ يفيد من نفوذه، ورب الجاه ينفع الناس بجاهه. أما العمل للاقتيات، والكسب من أجل التعفف، والكد على العيال فمن شيم الأنبياء والمرسلين، زراعة وصناعة، وتجارة وحرفة، وإجارة ورعياً، وهو من بعدهم من سمات المسلمين المتبعين، وعلامة من علامات الاستجابة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومظهر من مظاهر العزة والكرامة، وملك من مسالك الفقه في الدين والحياة. أعمال نزيهة شريفة محكومة بإطار متين من العفة والصدق، والعدل والرحمة. مر عمر بن الخطاب ـرضي الله عنه ـ على زيد بن مسلم وهو يغرس في أرضه فقال له عمر: أصبت. استغن عن الناس يكن أصون لدينك، وأكرم لك عليهم. ومن مقولات علي ـرضي الله عنه: التجارة ثلث الإمارة. مكاسب طيبة وأعمل صالحة، ودروب خيرة مبرأة من الحرام بعيدة عن المشتبهات. (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين). نفعني الله وإياكم بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وألهمنا الدعاء والتسبيح والاستغفار. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، ومن كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله جل جلاله، وعظم ثناؤه، وتقدست أسماؤه، سبحانه وبحمده، لا تحصى نعماؤه. أحمده سبحانه واشكره و توب إليه واستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث بالهدى ودين الحق، ارتفعت به أعلامه، وعلا ضياؤه ـصلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ـهم بدور الدجى وسناؤه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله ـعباد الله ـ، شريف النفس عظيم الهمة من أحس في نفسه القدرة على العمل، وقضى أعماله بنفسه، وباشر حاجاته بيده، ليس من الأعمال المباحة شيء يزدرى، فلأن يأخذ الرجل الحبل. فيحتطب على ظهره. خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه أو منعه. والبطالة تلبس ثوب الحقارة، والعمل يكسو رداء العزة والكرامة. وما يصير إلى العجز والكسل إلا ساقط الهمة. فاتر العزيمة، ولا يقعد عن العمل إلا ضعيف الإرادة، قد هان على نفسه ينتظر إحسان المحسنين، وصدقات المتصدقين، ألف الراحة، وأنس البطالة، هان عليه أن يجعل من الاستجداء والسؤال حرفة، إن هذا وأمثاله ممن اعتادوا على التردد على أبواب الناس، يمدون أيديهم، ويذلون أنفسهم، يستجدون ويسألون، منذرون بسوء العاقبة والخزي يوم البعث: ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة و ليس في وجهه مزعة لحم. فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ، واستعيذوا مما استعاذ منه نبيكم محمد ـصلى الله عليه و سلم ـ استعيذوا من العجز والكسل، والجبن والبخل..