نعم، فعلتها غزة مجددا وهزت إيوان كسرى المؤثث بشعارات العدالة وحقوق الإنسان، والحرية وأخواتها من القيم التي تبين أنها لا تناسب سوى الإنسان الأبيض. وانكشفت غواية القوانين الإنسانية والأخلاقية التي لايجوز مد بساطها ليطأه الآخرون. ألم يقل أوليفر كرومويل يوما: إن الله رجل إنجليزي؟ وعلى ذكر الإنجليز فمن المعروف لدى بحارتهم أن الصبية الذين يصطحبونهم على متن السفن، والذين عُرفوا لاحقا ب"غلمان السفينة"، كانوا في النهاية عرضة للذبح والسلخ باعتبارهم زادا احتياطيا من اللحم الطازج. ويحتفظ أدبهم الشعبي بقصائد تتغزل باللحم الطري، ومن ذلك قصيدة "بيلي الصغير" التي تتحدث عن ثلاثة بحارة نفد زادهم، فما كان منهم إلا اقتراح بيلي الطري لسد جوعهم. يقول واحد منهم للآخر: هذا بيلي الصغير، إنه يانع وطري ونحن كبار أشداء، فهي نأكله يا بيلي إنا سنقتلك ونأكلك فحل عرى قميصك! ما جرى إذن من تقتيل ونثر لأشلاء الصغار في غزة منذ السابع من أكتوبر ليس مجرد هجمة شرسة، أو خطأ في التصويب أدى إلى إزهاق صغار في عمر الزهور، إنه تجلّ آخر لتلك العقيدة الثابتة التي تؤمن بالتفوق العرقي للإنسان الأبيض، ودوره الخلاصي للعالم، بما يعنيه ذلك من حق التضحية بالآخر، سواء في كنعان القديمة كما يُجسدها الكيان الصهيوني، أو في أمريكا حيث كنعان الجديدة التي أبيد سكانها الأصليون، وتطهروا بكل ألوان التعذيب حتى من أسمائهم وثقافاتهم، كما تنطق بألم آلاف الوثائق التي عرض المؤرخ الفلسطيني منير العكش مقتطفات منها في كتابه (أمريكا والإبادات الثقافية). سرعان ما ارتدى بايدن قبعة الكاوبوي، وسحب خنجره؛ تماما مثلما فعل أسلافه في قنصه للهندي وسلخ فروة رأسه. لا فرق بين الأمس واليوم سوى أن الذبح المعاصر يجري تحت مظلة قوانين ومواثيق ترعاها المنظمات الدولية، وتُلّوح في ثنايا عباراتها بأن المآسي التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية درس لن يتكرر، ولا حاجة لشلال دماء كي يسترجع كل ذي حق حقه. جو بايدن، وقبله خمسة وأربعون رئيسا، هم مجرد هوامش على الأسطورة المؤسِّسة لفكرة إسرائيل، ومقتنعون بأن الخريطة الوحيدة للعالم هي التي عبّر عنها الأسقف الإنجليزي لانسلوت أندروس: "الأرض صحن من اللحم موضوع على المائدة، يقطع منه الإنسان الأبيض ما يشتهي". قد يتخذ أحدهم موقفا يثير استياء تل أبيب ومعارضتها، كما فعل أوباما لما دعا لقيام دولة فلسطينية على أساس حدود 1967، أو سلفه جورج بوش الأب حين اشترط تقديم المساعدات مقابل وقف بناء المستوطنات غير القانونية، لكنها مواقف لا تفسد للود قضية. إن إدانة العالم للأشلاء المتطايرة جراء القصف المدمر للمستشفيات والمدارس، والمباني الآهلة بالسكان وضمنهم الأطفال، هي إدانة أقرب إلى الاعتراض على مشيئة إله غامض، لايراه ولا يُعبر عن إرادته سوى رجال البيت الأبيض وجماعات الضغط الصهيونية. بهذا المنظار تُنتزع البشرية من العدو صغيرا كان أم كبيرا، ويصبح الذبح إنهاء لأمم تقع خارج الزمان والمكان، ويقفز من اللاوعي الأمريكي تعبير والت وايتمان في حديثه عن الوطن" أنا وحدي أمثل السعة في ذرى الزمان". يعود منير العكش في سرديته حول إبادة الأطفال الهنود إلى مدارس التأهيل التي تجسدت داخلها أبشع صور التعذيب والاغتصاب، ليخلص إلى أن الطفل الوحيد الذي ينجو من القتل هو الذي ينظر إلى العالم بعيون الغُزاة. وتلك حقيقة مغروزة بخبث في مبادئ الرؤساء الأمريكان، منذ مبدأ مونرو وحتى عقيدة بايدن التي تدعم الحقوق العالمية للإنسان، واحترام سيادة القانون، ومعاملة كل شخص بكرامة ! في الثاني عشر من أكتوبر تراجع البيت الأبيض عن تصريح لبايدن بشأن رؤيته صورا لرؤوس أطفال إسرائليين قطعتها المقاومة في غزة. واعترف المسؤولون في الإدارة الأمريكية أن تصريحاته انبنت على مزاعم إسرائيلية وتقارير محلية، في غياب صور أو أدلة قاطعة. هذا الدور المخجل كوكيل للدعاية الصهيونية المضللة لا يثير حرجا في نظر سياسي مخضرم وسادس أصغر سيناتور في تاريخ بلده، فقد عاد يوم الثامن عشر لتأكيد الخبر الزائف بنفس ملحمي شبيه بمحاضر جلسات الكونغريس القديمة. تقول الترجمة العربية لخطابه على موقع وزارة الخارجية الأمريكية: " لقد ذُبح الأطفال. ذُبح الأطفال. ذُبحت عائلات بأكملها. وارتكبت جرائم الاغتصاب وقطع الرؤوس وإحراق أجساد الناس وهم على قيد الحياة. لقد ارتكبت حماس فظائع تُذكّر بأسوأ ويلات داعش..لا يوجد تبرير لذلك". لايملك المرء أمام خطاب يدع الحليم حيران سوى أن يستعيد الوصف الذكي للسياسي الفرنسي جورج كليمنصو حين قال: إن أمريكا هي الأمة الوحيدة عبر التاريخ التي انتقلت من الهمجية إلى الانحطاط، دون المرور بمرحلة الحضارة المعروفة.