تبدو المسافة شاسعة بين ما تراكمه الأممالمتحدة من أدبيات عن العدالة الاجتماعية وبين واقع الممارسة على الأرض، بشكل يعزز اليقين بأن العالم لازال بعيداً تماماً عن كسب رهان العدالة الاجتماعية. لإثبات ذلك هناك عدة مظاهر تظهر حيناً في المعارك الانتخابية والسجالات السياسية، وفي أحيان أخرى تظهر عبر أبحاث ودراسات علمية موضوعية، كمثال على ذلك نستحضر صورة انعدام العدالة الاجتماعية في المجتمع الفرنسي كما صورها في تجمع انتخابي سابق، الوجه اليساري البارز جان-لوك ميلنشون المرشح السابق للرئاسيات الفرنسية وأحد الوجوه السياسية القليلة على الساحة الفرنسية التي لازالت تحاول أن تعطي مضموناً مختلفاً للسياسة في المرحلة المعاصرة. ذكر ميلنشون بحجم الفوارق الصارخة في الأجور، مذكرا بأن المليارديرات الفرنسيين في 19 شهراً التي تغطي فترة جائحة كورونا، حصلوا على 236 مليار أورو وهو ما يعني 12 مليار شهرياً، 414 مليون أورو في اليوم، 17 مليون أورو في الساعة، 287 ألف أورو في الدقيقة و4790 أورو في الثانية، بينما هناك 17 مهنة حددتها وزارة العمل الفرنسية نظير العمال المنزليين، لا يتعدى معدل أجورهم ما بين 682 أورو في الشهر، لعمال الإصلاحات و766 أورو في الشهر للصرافين والصرافات و859 أورو في الشهر لعمال البستنة والعاملين في القطاع الفلاحي، ثم ما بين 787 و1023 أورو في الشهر لحراس الأمن. أما بالنسبة لحمالي السلع داخل المخازن فلا يتعدى دخلهم الشهري 1035 أورو، وعمال البناء لا يتعدى دخلهم الشهري 1145 أورو في الشهر، والعمال المؤهلين للأشغال العمومية فلا يتجاوزون 1400 أورو في الشهر. هذه الفوارق الكبيرة التي توجد في واحدة من نماذج الدول الغربية الرأسمالية لا تمثل حالة خاصة، بل هي تعكس حقيقة الواقع الذي يعرفه الاقتصاد المعولم. كوفي عنان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة أكد سنة 2004 أن العالم لم يشهد ما يعادل حجم الفقر الذي ينتشر منذ أربعين سنة التي هي عمر العولمة، كما أن نفس الفترة لم تسجل خروج أي بلد من دوامة الفقر وذلك منذ السبعينات من القرن الماضي، بل على العكس من ذلك هناك دول انزلقت إلى الفقر أو شارفت على ذلك كما تمثله تجربة الأرجنتين التي عادت بصعوبة من الهاوية بعد خصوعها الكامل للمؤسسات المالية الدولية. في الضفة الغربية للمحيط الأطلسي، لا يوجد هناك اختلاف عن المشهد الذي صوره ميلنشون في فرنسا، بل ربما مظاهر توحش الرأسمالية هناك تظهر بشكل أكبر وأبشع، حيث يقدم الاقتصادي الجزائري/الكندي عمر أكتوف، وهو يفسر مفهوم العولمة، أرقاما صادمة تبرز حجم الفوارق الصارخة بين الدخل المالي لرموز العولمة، مقارنة، ليس فقط مع باقي العاملين في الحقل الاقتصادي حيث يحصل مثلاً كل عامل من بين ستة عمال كنديين على أجر يعادل عتبة الفقر وفي الولايات الأميركية المتحدة نجد عاملاً من بين أربعة أو خمسة عمال يحصل على أجر يعادل عتبة الفقر أي ما بين 40 و 60 مليون أميركي، بل مع متوسط الدخل لسنوات بعدد من الدول عبر العالم ومنها الولاياتالمتحدة الأميركية نفسها، إذ نجد أن معدل أجور المدراء ورؤساء المجالس الإدارية وكبار المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى الكندية في الساعة، يتراوح ما بين 6 آلاف دولار و73 ألف دولار، بل إن ثلاثة أشخاص وهم: جاك ويلش الرئيس التنفيذي السابق لجنرال إليكتريك وغراسو الرئيس السابق لهيئة مكافحة الفساد بنيويورك ثم الرئيس المدير العام لكارفور الفرنسية، سيحصلون كمنحة نهاية الخدمة بعد الإحالة على التقاعد على ما يعادل 20 ألف سنة من متوسط الدخل الأميركي، و200 ألف سنة متوسط الدخل الجزائري، و600 ألف سنة من متوسط الدخل في البنين، ومليون و200 ألف سنة من متوسط الدخل في بنغلاديش. في وقت يعيش فيه 3 ملايين إنسان بأقل من دولار واحد في اليوم، في مقابل 3 دولارات يومياً لكل بقرة أوروبية وأميركية كدعم لإغناء أصحاب الضيعات الذين هم أغنياء في الأصل، يبرز وجه اللامساواة في اقتصاد عالمي غارق في المضاربة وبعيد عن الاقتصاد الحقيقي، ولا يمثل سوى محرقة كبيرة وقودها الأساس هو الطبقات الفقيرة بما فيها الطبقة المتوسطة التي تآكلت بفعل الأزمات المالية وجشع الرأسمال. الحماية الاجتماعية تعتبر إحدى وحدات قياس مؤشرات العدالة الاجتماعية.. ولأهمية الحماية الاجتماعية نجدها في المغرب قد شكلت على مدى سنوات، أحد أهم المواضيع التي أثارت نقاشات واسعة في علاقتها بأدوار الدولة وحجم تدخلها، وظلت دائما في صدارة المطالب التي عبرت عنها فئات إجتماعية مختلفة. كما أن غياب الحماية الاجتماعية اعتبر نقطة ضعف كبيرة في السياسات العمومية التي اعتمدها المغرب منذ عقود، بل إن كثيراً من التقارير الدولية التي قامت بتقييم عدد من البرامج التنموية المغربية، خلصت إلى أن تلك البرامج بالرغم من أهميتها وحجم الموارد التي تم استثمارها لتحقيقها، فإن عائدها الاجتماعي بقي ضعيفاً مقارنة مع تجارب مقارنة أنجزت بتكلفة أقل خاصة في أميركا اللاتينية. موضوع الحماية الاجتماعية يثار أيضا في سياق نقاش دولي أوسع، يتمثل في مساءلة أدوار الدولة خاصة بعد رفع يدها عن عدد واسع من القطاعات ذات الطابع الاجتماعي. ففي أوج انتشار جائحة كورونا، انكشفت كثير من الأعطاب المتعلقة بالخدمات ذات الطابع الاجتماعي، خاصة في قطاعات الصحة والتعليم، وفي ظل استمرار التنظير لضرورة الحد الأدنى من الدولة من خلال دفعها للتخلي عن وظيفتها الاجتماعية والتركيز فقط على أدوارها الأمنية في استعادة لأطروحة الثنائي تاتشر وريغن بداية ثمانينات القرن الماضي، اختار المغرب أن يسبح ضد التيار، إذ أعلن الملك محمد السادس في خطاب العرش لسنة 2020 وفي عز أزمة كوفيد-19 عن إنطلاق أكبر ورش إجتماعية في تاريخ المغرب حتى دون انتظار نتائج اللجنة التي كانت تعمل منذ أكثر من سنة على نموذج تنموي جديد، ويتعلق الأمر بتعميم الحماية الاجتماعية لتشمل أزيد من 20 مليون مغربي في أجل أقصاه خمس سنوات وبتكلفة تبلغ 51 مليار درهم. فهل ينجح المغرب في كسب رهان الحماية الاجتماعية ومنه تحقيق العدالة الاجتماعية في حدودها المقبولة؟