بعد تعيين الوزير الأول، تعين يوم الأربعاء الحكومة الفرنسية على أساس أن تعقد أول اجتماع لها، اليوم، الخميس. والمطلوب من هولاند أن يتوفر على فريق محترف وله ألفة بالملفات وقادر على احتواء الأزمة في ظرفية يتهدد أوروبا تسونامي الأزمة الاقتصادية كما سيكون على فرانسوا هولاند أن يخوض الصراع على أكثر من جبهة. في الوقت الذي سيستأنس بالملفات والوجوه الجديدة للشخصيات السياسية، محليا ودوليا حافظ الرئيس الجديد على «السيسبانس» إلى آخر لحظة، تاركا التكهنات تأخذ مجراها حول المستوزرين والمستوزرات. ويبدو أن فرانسوا هولاند عازم على إحداث القطيعة مع أسلوب التسريبات والمزايدات المعمول بها إلى الآن. وقد وردت في تكهنات المراقبين والمتتبعين للشأن السياسي أسماء بمناصب قد تبدو مجانبة للحقيقة. وإلى غاية كتابة هذه السطور، لا نعرف بعد كاستينغ الحكومة الفرنسية الجديدة التي سيعلن عن تشكيلتها بالكامل يوم الأربعاء أو الخميس. لكن الأسماء التي ترددت بإلحاح لمناصب رفيعة تشمل كلا من بيار موسكوفيتسي، ماونيول فالس، مارتين أوبري، جان-مارك آيرو، ميشال سابان، آرنو مونتبورغ، سيسيل ديفلوه. المهم أن فرانسوا هولاند والوزير الأول يرغبان في حكومة متقلصة ومتكافئة بين الرجال والنساء. وقبل تعيين الحكومة، ترأس فرانسوا هولاند، رفقة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، مراسم نقل السلطة. وقد حرص الرئيس الجديد على أن تتم هذه المراسم في ظروف بسيطة وبلا تكلف بروتوكولي. يتماشى هذا الحرص مع فلسفته القاضية بعدم إضاعة الوقت في بروتوكولات شكلية ومعقدة والتطرق رأسا إلى معالجة المشاكل التي تشغل بال الفرنسيين، خصوصا أن الذين منحوه ثقتهم ينتظرون منه الشيء الكثير. هكذا فبعد تسلم مهامه على الساعة العاشرة صباحا، نزل في موكب بجادة الشان-إيليزيه على متن سيارة مكشوفة للترحم على قبر الجندي المجهول،بعدها حل بحديقة التويلري لتخليد رمزين من رموز المعرفة والعلم: جول فيري، الذي كان وزيرا للتربية الوطنية في الجمهورية الثالثة، والذي سن مجانية وإجبارية التعليم وكان ايضا من المناصرين للعلمانية، والعالمة ماري كوري بولندية الأصل، الحائزة على جائزتي نوبل للفيزياء والكيمياء. في هذه الالتفاتة إشارة إلى حرص فرانسوا هولاند على إعطاء التربية المقام اللائق بها، وكذا الشباب، والعلمانية، بعدما حولها ساركوزي إلى تربية نخبوية. ولم تفوت بعض شخصيات المعارضة الفرصة للطعن في اختيار جيل فيري. جاء أول رد فعل على لسان حفيد جيل فيري، الفيلسوف لوك فيري، الذي استغرب هذا الاختيار بحكم أن جيل فيري كان المدافع الشرس عن الاستعمار وعن الرق. بعد هذه «الالتفاتة» في حق هذين الرمزين، قام فرانسوا هولاند بزيارة لبلدية باريس، حيث استقبله عمدتها الاشتراكي بيرتران دولانوييه، الذي طرح ترشيحه للانتخابات التشريعية للحصول على ولاية ثانية، فيما يذهب البعض إلى أنه مرشح لمنصب وزير للعدل. بعد أن عين فرانسوا هولاند جان-مارك أيرو، وزيرا أولا، طار إلى برلين للتباحث مع أنجيلا ميركيل للتباحث معها في ورقة الطريق، التي يقترح طرحها على المجموعة الأوروبية في اجتماع 23 ماي القادم، والتي تلخصها الصيغة السحرية التالية: التنمية كعلاج للركود. وقد حل الرئيس الفرنسي على برلين في أجواء منتكسة خيمت عليها الهزيمة التي تكبدها، يوم الأحد الماضي، حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي الذي تتزعمه أنجيلا ميركيل.. كانت هذه الانتخابات الجهوية بمثابة اختبار سياسي لوزن وتجاوب الناخبين مع سياسة التقشف التي تنهجها المستشارة الألمانية، وهي السياسة التي فرضتها على شركائها الأوروبيين. وقد حصل الحزب على أسوأ نتيجة منذ الحرب العالمية الثانية في منطقة الريناني من شمال الويستفالي، المنطقة التي تسجل أكبر عدد من السكان بألمانيا والأكثر ثراء من بين جميع مناطق ألمانيا. وستؤثر هذه الخسارة على حظوظ المستشارة في الطموح إلى ولاية ثالثة. مما قد يضعف من مواقفها أمام الرئيس الفرنسي. يصل فرانسوا هولاند، إذن، معززا بهذه النتيجة. السؤال هو: هل ستدفعها هذه الانتكاسة حقا إلى التلطيف من مواقفها أم ستبقى على تشددها لكي لا تتقدم بوجه ضعيف؟ على كل الجبهات بعد تعيين الوزير الأول، تعين يوم الأربعاء الحكومة الفرنسية على أساس أن تعقد أول اجتماع لها، اليوم، الخميس. والمطلوب من هولاند أن يتوفر على فريق محترف وله ألفة بالملفات وقادر على احتواء الأزمة في ظرفية يتهدد أوروبا تسونامي الأزمة الاقتصادية، والتي بدأت تباشيرها تلوح من جديد باليونان ويمكن أن تطال دولا أخرى مثل إسبانيا، خصوصا أن اللجنة الأوروبية تكهنت بانهيار في الحسابات العمومية أكثر مما هو متوقع. تخليق الحياة السياسية سيكون على فرانسوا هولاند أن يخوض الصراع على أكثر من جبهة. في الوقت الذي سيستأنس بالملفات والوجوه الجديدة للشخصيات السياسية، محليا ودوليا، سيكون أيضا مطالبا بالإعداد للانتخابات التشريعية لشهر يونيو، التي تعقد دورتها الأولى في العاشر من يونيو والثانية في السابع عشر منه. فاليمين واليمين المتطرف وكذا جبهة اليسار ستكون له بالمرصاد. لم يهضم الاتحاد من أجل حركة شعبية خسارة رئيسه، نيكولا ساركوزي، وقد وطد العزم على إلحاق الهزيمة باليسار وبالأخص بالحزب الاشتراكي. لذا شرع في تنقية أجوائه الداخلية لامتصاص المقاومات التي أبداها بعض النواب على إثر تعيين مرشحين آخرين مكانهم. مثل إنزال فرانسوا فيون بالمقاطعة السابعة التابعة لرشيدة داتي، أو إنزال كلود غيان، وزير الداخلية الأسبق. كما توعدت مارين لوبين، بعد حصولها على الرتبة الثالثة بنسبة 17,9%، بتفجير حزب ساركوزي من الداخل. لكن الاستراتيجية التي اعتمدها هذا الأخير هي استراتيجية رص للصفوف. وتسعى الجبهة المتطرفة إلى تشكيل فريق نيابي لتحويل البرلمان إلى «آغورا»، (ساحة عمومية) لإسماع صوتها وتمرير أفكارها العنصرية. وتراهن على الحصول على 17 نائبا، مما قد يشكل تحولا خطيرا في حياة الجمهورية الفرنسية، قد تحسب ضد الاشتراكيين، الذين قد يكونوا فتحوا باب البرلمان لأول مرة لفريق متطرف.
صراع الجبهتين وستكون أحد الرهانات القوية لمعركة الانتخابات التشريعية من حول سد الأبواب في وجه اليمين المتطرف أم دخولهم من الباب الواسع للبرلمان. وإن لم توضح أحزاب اليمين، والحزب الاشتراكي والخضر استراتيجيتهم لمجابهة اليمين المتطرف، فإن جبهة اليسار، بزعامة جان-لوك ميلنشون، قررت حمل المواجهة إلى قلب اليمين المتطرف. وعليه سيكون صدام الجبهتين (الجبهة الوطنية المتطرفة وجبهة اليسار بزعامة جان-ليك ميلنشون)، إحدى اللحظات الساخنة في الاقتراع التشريعي. وستتم المنازلة بين الجبهتين ببلدة هينان بومون بشمال فرنسا. تذكرنا البلدة بمدينة خريبكة أو اليوسوفية. لم يبق من المجد الصناعي للمدينة سوى أهرامات الفحم والقرية المنجمية القاتمة والفقر وبعض من الأمراض المزمنة بعد إغلاق المناجم. في بداية الستينات، وصل المغاربة إلى با دو كاليPas de Calais ، ليوزعوا على آبار الفحم المنتشرة في المنطقة، وليجدوا البولنديين وبعض الفرنسيين أسياد الميدان وبامتيازات اجتماعية حصلوا عليها بمساندة النقابات الفرنسية. بوصولهم إلى عين المكان، دفع بهم إلى أحشاء المناجم. وقد صنع العمال المغاربة المجد الصناعي للمدينة قبل أن يضحي بهم الباطرونات والنقابات. وقد حمل عبد الله سماط المشعل للدفاع عن حقوق المغاربة لكي يحصلوا على نفس القوانين الإدارية والمهنية الممنوحة التي يحصل عليها المنجميون ذوو الاصول الفرنسية والبولونية. اليوم يعيش هؤلاء المتقاعدون وضعا مزريا، بحيث أصبحوا غير قادرين حتى على تأدية فاتورات السكن. هكذا بنى اليمين المتطرف سمعته على بؤس العمال المغاربة. فهل سيمنحون صوتهم في الانتخابات التشريعية القادمة لجان ليك ميلنشون ومعاقبة اليمين المتطرف؟
العمال والفلاحون وقود المعركة الإيديولوجية خلال الاقتراع الرئاسي، اقترح جان ليك ميلنشون على مارين لوبين حسم الصراع، بل ظهر العداء بينهما على حلبات قنوات التلفزيون أمام المشاهدين. وكان ميلنشون الخطيب المحنك والمفوه على يقين بإسداء الضربة القاضية لخصمته أمام ملايين المشاهدين، ومن تم بهدلة رئيسة الجبهة وتقليص نفوذها. لكنها رفضت العرض مستخفة بالاقتراح وبصاحبه. ولدى إعلان النتائج لم تتردد في التنديد بتشدق ميلنشون الذي لم يحرز سوى على 11,1%، فيما حصلت هي على 17,9%. لم يستسغ ميلنشون هذه المراوغة ولا هضم النتيجة التي أحرزتها، لذا «التحق» بمارين لوبين لمواجهتها في أحد حصونها الانتخابية: هينان-بومون. وستكون المواجهة «دامية» بين الإثنين. جبهة ضد جبهة. خطيب ضد خطيبة، وستكون الشعبوية سيدة الموقف. كما قد تتحول هذه البلدة الفقيرة وهي مرآة لعطب التصنيع الذي يضرب أكثر من منطقة بفرنسا، تتحول إلى مختبر شعبوي. الغريب أن المرشحين يتقاسمان بعض الافكار الاقتصادية: الفكرة الأولى هي نقد العولمة، حيث يعتبران أن العولمة تسببت في إغلاق المعامل أو نقلها إلى بلدان تعرف باليد العاملة الرخيصة وبضعف التكلفة. القاسم المشترك الثاني هو دعوتهما للخروج من منطقة الأورو للحفاظ على السيادة الفرنسية la souveraineté française. ، النقطة الثالثة هي التصدي لسياسة الأبناك وجشعها. لكن ما يفرق بين زعيمي الجبهتين أكثر مما يوحد بينهما. ففي الوقت الذي تدافع فيه مارين لوبين عن إعطاء الأسبقية للفرنسيين «الخلص» أو «الأصليين»، وتندد بما تسميه أسلمة المجتمع الفرنسي، وتدعو إلى الحد من تدفق المهاجرين على فرنسا، يسعى جان ليك ميلنشون إلى إنجاز مجتمع تشاركي، وتحقيق فكرة العيش المشترك، مجتمع تعادلي يوفر الفرصة للجميع. لم ينس ميلنشون على النقيض من ساركوزي أصوله الأجنبية التي بقيت جسرا لهويته التعددية. طموح ميلنشون هو خوض معركة أيديولوجية ضد مارين لوبين. «هل يعقل أنه في بداية القرن الواحد والعشرين، يختار الحوض المنجمي، الذي هو مهد الحركة العمالية، نائبة من اليمين المتطرف أو محسوبة على الاشتراكية التاريخية؟» يتساءل زعيم جبهة اليسار في مقابلة مع صحيفة ليبراسيون نشرت بعدد الإثنين؟ رحى الصراع هي بالكاد أيديولوجية، لكن أقطابه الرئيسية هم الفلاحون والعمال. كانوا القاعدة الانتخابية الأساسية للحزب الشيوعي ولقوى اليسار. لكن هذا الأخير ضحى بهم أيام الاشتراكيين ليضعف بذلك نفوذ الحزب الشيوعي وليساهم بذلك في ارتماء هذه الطبقة في أحضان اليمين المتطرف. اليوم وضع جان ليك ميلنشون نصب أعينه استرجاع هذه القاعدة «الضالة» إلى أصلها الطبيعي. وقد توفر له بلدة هينان-بومون مختبرا لذلك. لو نجح في مهمته الصعبة وهزم مارين لوبين، سيكون قد حقق إنجازا كبيرا وإلا دخلت مارين لوبين رحاب البرلمان من بابه الواسع لتلويث الأجواء بأفكارها العنصرية السامة.