عاشت الولاياتالمتحدةالأمريكية ومعها الاقتصاد العالمي خلال الأيام الأخيرة فترات عصيبة، نتيجة الصراع الدائر بين الجمهوريين وساكن البيت الأبيض حول إشكالية تدبير القضايا المالية الشائكة المطروحة على الدولة القوية، التي لازالت إلى يومنا هذا ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاديات الكونية، انهيارها ماليا معناه سقوط كامل للأسواق العالمية وتأثير مباشر على قوى أخرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي واليابان وجزء كبير من آسيا بالإضافة إلى الدول الناشئة اقتصاديا. ما وقع في الولاياتالمتحدة يتعدى في اعتقادنا المتواضع خسارة 24 مليار دولار، جزء من صناع القرار الاقتصادي والسياسي يتجنبون قول الحقيقة، فالسياسي في عالم اليوم وبالرغم من شرعية صناديق الاقتراع، يجد نفسه مطوقاً باختيارات دوره فيها أصبح يقتصر على تأثيت المؤسسات وليس الجرأة في اتخاذ القرارات الحاسمة. هذه التوطئة تجرنا إلى طرح سؤال لم يعد مسكوتاً عنه هو هل العالم يتجه نحو انهيار مالي قد يجرنا إلى أزمة اقتصادية أم أن ما يحصل هو مجرد صعوبات عابرة تقع هنا وهناك ؟ الأزمة ليست وليدة اليوم الأزمات المالية المتتالية ليست وليدة اليوم، بل لها جذور تعود إلى أواخر التسعينات، المعالجة كانت تتم دائماً برؤية تدبير أزمة عابرة عوض البحث في عمق بنيات النظام الرأسمالي العالمي، هكذا وبالرجوع إلى عملية التصدع التي أصابت سوق تمويل العقار في الولاياتالمتحدةالأمريكية في أواسط سنة 2006، اتضح لبعض المختصين بأن ما جرى يتعدى ذلك بكثير، لاسيما عندما بدأت مجموعة من المؤسسات التمويلية رغم حجمها وثقلها، تعلن إفلاسها بحيث تعدى الرقم 92 مؤسسة بنكية سنة 2011، بموازاة ذلك ما بين 2007 وسنة 2008 تم إنقاذ وبصعوبة 12 مؤسسة بنكية أوروبية، الأزمة إذن حاضرة بقوة سواء في الولاياتالمتحدةالأمريكية أو في بلدان الاتحاد الأوروبي بالرغم من بعض الانتعاشات الطفيفة هنا وهناك، لكنها تواجه بمسكنات وليس بإصلاحات جريئة، لتأكيد هذه المقاربة يكفي بالنسبة للقارة العجوز الرجوع إلى دراسات قامت بها مجموعة من الاتجاهات طرحت بدائل اقتصادية تهم إصلاحات هيكلية، انطلقت من استقراء الماضي القريب لتؤكد أن سياسات التقشف التي تنهجها جل دول الاتحاد الأوروبي ليست بجديدة، قد بدأت منذ أكثر من عشرة سنوات، وكمثال على ذلك دولة هنغاريا التي كانت أول بلد تضرر من الأزمة المالية ابتداء من أكتوبر 2008، إذ تقرر آنذاك ضخ 20 مليار أورو في اقتصاديات هذا البلد موزعة ما بين صندوق النقد الدولي 12,3 مليار أورو والاتحاد الأوروبي 6,5 مليار أورو والبنك الدولي 1,2 مليار أورو، في مقابل ذلك تم الرفع من الضريبة على القيمة المضافة لتصل إلى 25%، رفع سن التقاعد إلى 65 سنة مع تجميد أجور الموظفين لمدة سنتين وحذف الشهر 13 بالنسبة للمتقاعدين. في نونبر من نفس السنة، أوكرانيا وللحصول على قرض بمبلغ 16,4 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، تم وبشكل قبلي الضغط على البرلمان للتصويت على برنامج للتقشف مصحوب بعملية خوصصة للمؤسسات المنتجة مع الرفع من سن التقاعد بالنسبة للنساء من 55 إلى 60 سنة. في شهر دجنبر من سنة 2008، ليتوانيا دخلت هي بدورها في دوامة أزمة مالية، صندوق النقد الدولي مرفوقاً بالاتحاد الأوروبي وبعض دول شمال أوروبا، التزموا بقرض يصل مبلغه إلى 7,5 مليار أورو، بمقابل ذلك التزمت الحكومة ببرنامج تقشفي من خلال خفض الإنفاق العمومي بما يساوي 15% من الناتج الداخلي الخام، خفض عدد الموظفين، خفض الأجور بنسبة 25% مع الرفع من الضريبة على القيمة المضافة والتي انتقلت من 18 إلى 22%. في السنة الموالية وبالضبط في مارس 2009، رومانيا بدأت التفاوض لاقتراض 20 مليار أورو موزعة ما بين 12,9 مليار أورو من صندوق النقد الدولي و5 مليار أورو من الاتحاد الأوروبي و1,5 مليار أورو من البنك الدولي، أما الباقي فهو من مؤسسات وأبناك أوروبية مختلفة، في مقابل ذلك تم إجبار هذا البلد على تطبيق برنامج تقشفي بدأ بخفض التعويضات عن البطالة والولادة والتقاعد ب15%، الرفع من سن التقاعد في أفق الوصول إلى 65 سنة، والرفع من الضريبة على القيمة المضافة والتي انتقلت من 19% إلى 24%. إلى حدود هذه الفترة كان الاعتقاد السائد هو أن المكونات الضعيفة اقتصاديا في الاتحاد الأوروبي هي التي تتعرض بنياتها الإنتاجية والمالية لأزمات تتطلب تدخلا مباشراً من المؤسسات المانحة للقروض، إلى أن استفاقت أوروبا ومعها العالم على دوي أزمة هزت أركان الاقتصاد اليوناني، مما استدعى تدخلا عاجلا من طرف صندوق النقد الدولي، وذلك بوضع قرض وصل مبلغه إلى 110 مليار أورو موزعة على ثلاثة سنوات، في مقابل خطة تقشفية قاسية اجتماعاً شبيهة بتلك التي تفرض على دول العالم الثالث المتخلفة والمتمثلة في حذف منحة الشهر 13 و14 بالنسبة للوظيفة العمومية وتعويضها بمنحة 1000 أورو سنوياً، تجميد أجور الموظفين لمدة ثلاثة سنوات مع التزام الحكومة بحذف مناصب شغل عديدة في أفق 2015، ربط سن التقاعد بمعدل متوسط السن، رفع الضريبة على القيمة المضافة لتصل إلى 23% عوض 13%، حذف التعويضات التضامنية الخاصة بالبطالة الطويلة المدى وتخفيض التعويضات الخاصة بالمعوقين، خوصصة أهم وأكبر المقاولات قصد جلب 50 مليار أورو في حدود 2015، على المستوى السياسي، الوزير الأول الاشتراكي يغادر رئاسة الحكومة ليعوض بالمسؤول الثاني سابقا بالبنك الأوروبي، فاتحا المجال لحكومة وحدة وطنية آنذاك، السؤال الذي كان مطروحا ومقلقا للدوائر المتحكمة في القرار الأوروبي هو هل الوضعية الاقتصادية الكارثية بهذا البلد تهدد الديمقراطية الفتية، لاسيما بعد ظهور تعبيرات سياسية متطرفة بعمق نازي، بدأت تكتسح الحقل السياسي وتتوغل في الأوساط الشعبية. هذا ومعلوم أن بعض المؤسسات ذات الاهتمام بقضايا البحث الاستراتيجي، قد حملت في تقاريرها السنوية المسؤولية للأبناك الأوروبية، مؤكدة أن جل الأبناك الألمانية والفرنسية كانت تقرض اليونان بفوائد ضعيفة حتى سقط في فخ المديونية المثقلة، فالأبناك الفرنسية توجد على رأس قائمة المؤسسات الحاضرة بقوة في المديونية الخارجية اليونانية ب40% أي ما يعادل 44 مليار أورو ما بين القروض المتجهة إلى القطاع الخاص والقروض المتجهة إلى المؤسسات العمومية عبر ضمانات حكومية. في نونبر 2010، إيرلاندا بدورها تسقط في فخ الأزمة المالية، 85 مليار أورو مشتركة بين الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي تخصص لهذا البلد، السبب الرئيسي حسب المختصين، هو الاستثمارات في قطاع العقار من طرف الأبناك الرئيسية، مما اضطر معه المسؤولين إلى تأميم أهمها مع وضع برامج تقشفية لاقتصاد 21 مليار أورو التي تعادل 20 نقطة من الناتج الداخلي الخام، هكذا تم تخفيض الحد الأدنى للأجور، الرفع من الضريبة على القيمة المضافة من 21% إلى 22% سنة 2013 ثم 24% في أفق سنة 2014، تخفيض معاشات التقاعد ب4% في القطاع العام والتي يفوق دخلها 12000 ألف أورو سنويا، التخفيض من الإنفاق في مجال التغطية الصحية ب2,8 مليار أورو إلى حدود سنة 2014، التخفيض من الإنفاق في مجال الصحة ب1,4 مليار ثم الرفع من سن التقاعد في أفق الوصول إلى 67 سنة في 2018. في أبريل 2011 طالبت البرتغال صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي بقرض يصل مبلغه إلى 78 مليار أورو، كان جواب المؤسسات المانحة والذي اعتبر بمثابة تدخل في الشأن الداخل لهذا البلد ومساس بسيادته وسابقة خطيرة، هو مطالبة الأحزاب الرئيسية بعدم التراجع عن البرامج التقشفية في حالة فوزها في الانتخابات السابقة لأوانها آنذاك. شروط المؤسسات المانحة قبلتها الطبقة السياسية مما أدى إلى تخفيض أجور الموظفين قصد الوصول إلى تخفيض كتلة أجور الوظيفة العمومية بنسبة 5% ثم رفع الضريبة على القيمة المضافة من 21% إلى 23%، تخفيض التعويض عن الهشاشة الاجتماعية بالنسبة للفئات المحرومة من أي دخل مادي ب20%، الرفع من الضريبة على القيمة المضافة بالنسبة للغاز والكهرباء والتي انتقلت من 6% إلى 23%، حذف الشهور 13 و14 بالنسبة للموظفين والمتقاعدين الذين يتجاوز دخلهم 1000 أورو شهريا، تبسيط مساطر تسريح العمال، اعتماد برامج استثنائية للخوصصة للحصول على 5,5 مليار أورو عند نهاية سنة 2013، وذلك بوضع لائحة تضم 30 مقاولة عمومية أساسية وحيوية بالنسبة لاقتصاد البرتغالي. بالنسبة للجارة إسبانيا، أزمة العقار كانت هي المحرك الرئيسي لسقوط البلاد في صعوبات مالية أدت إلى تصدعات سياسية واجتماعية عميقة لازالت تداعياتها قائمة إلى اليوم، لفهم ما جرى اقتصاديا يجب الرجوع إلى ما قبل 2006، حيث كان قطاع البناء وحده يشكل 15% من الناتج الداخلي الخام، كانت إسبانيا وحدها تشيد من العقارات ما مجموع ما يشيد وما يُبنى في ألمانياوفرنسا وإنجلترا مجتمعين، سقوط هذا القطاع الحيوي أدى إلى انهيار التمويل البنكي نظراً لحجم الأموال التي تم منحها لشركات العقار الكبرى، تدخل الوزير الأول السابق زاباتيرو واتخذ الإجراءات اللاشعبية مثل تخفيض أجور الموظفين ب5% سنة 2010 ثم تجميدها سنة 2011، برمجة عملية تسريح 13000 ألف موظف من الإدارات العمومية، تخفيض نسبة 5,2% من التعويضات الممنوحة للعجزة، تخفيض تعويضات السكن ب16%، حذف التعويضات الخاصة بالولادة والتي كانت تصل إلى 2500 أورو، تجميد معاشات التقاعد، سن قوانين تمس سوق الشغل لاسيما المتعلقة بالتسريحات، الرفع من الضريبة على القيمة المضافة من 16% إلى 18%. إيطاليا بدورها عرفت بوادر أزمة مالية، ففي يوليوز 2011 تم التصويت من طرف البرلمان على خطة لاقتصاد 48 مليار أورو خلال ثلاثة سنوات، في نفس السنة وبالضبط في شهر سبتمبر، برنامج آخر أكثر تقشفاً لاقتصاد 54,2 مليار أورو تجسد في رفع الضريبة على القيمة المضافة من 20% إلى 21%، تجميد أجور الموظفين لمدة ثلاث سنوات، رفع سن التقاعد بالنسبة للنساء العاملات في الوظيفة العمومية وفي القطاع الخاص، تخفيض الميزانيات المخصصة للسياسات الاجتماعية من 185 مليار أورو إلى 52 مليار أورو، حذف صندوق خاص بالسياسات الاجتماعية للجهات والتي كانت ترصد له ميزانية تقدر ب187 مليار أورو، سياسيا تم تعويض برلسكوني بماريموتي، مسؤول أوروبي سابقا كما كان له موقع متميز في بنك الأعمال كولدمان ساش، في نفس الوقت الدول الأوروبية المعروفة باقتصاديات قوية لم تسلم هي الأخرى من مرحلة الصعوبات المالية، هكذا في ماي 2010، الوزير الأول البريطاني دافيد كامرون يقرر ضدا على حلفائه في الحكومة، برنامجاً لاقتصاد 95 مليار أور وعلى امتداد أربعة سنوات، في ألمانيا والتي تعتبر نموذجاً أوروباً للتدبير الاقتصادي المحكم، اضطرت هي بدورها في بداية يونيو 2010 وفي أفق 2014 اقتصاد 80 مليار أورو، هذا التوجه الانكماشي في الميزانيات المتعاقبة مس بالدرجة الأولى المجالات الاجتماعية عن طريق تخفيض الإنفاق في الميزانيات الاجتماعية ب30 مليار أورو، حذف 15000 ألف منصب وظيفة في القطاع العمومي. فرنسا ومع بداية 2010، بدأت تحس أنها جزء من الأزمة المالية التي تضرب القارة العجوز، لذلك تم اتخاذ مجموعة من القرارات في نفس السنة لتخفيض النفقات العمومية قصد اقتصاد 45 مليار أورو، مع حذف مناصب شغل في الوظيفة العمومية انطلاقاً من قاعدة شخص واحد يعوض في حالة ذهاب شخصين للتقاعد، تجميد الأجور في الوظيفة العمومية، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، الوزير الأول السابق فيون يعلن عن برنامج آخر تقشفي لاقتصاد 65 مليار أورو في أفق 2016، نفس الاتجاه سار فيه الاشتراكيون بعد وصول هولند إلى قصر الإليزي. هل هناك بدائل أخرى غير سياسات التقشف ؟ لقد بدأت بعض التوجهات الاقتصادية تطرح وبفعل توالي الأزمات، شرعية الديون العمومية المتراكمة ومدى المسؤولية المشتركة في هذا المجال بين صناع القرار السياسي في الأجهزة التنفيذية والمؤسسات المانحة، مصداقية هذا التساؤل تنطلق من أن الديون العمومية ارتفعت بشكل صاروخي عندما قامت الحكومات المتعاقبة ما بين 1980 و2000 بتخفيض الضرائب اتجاه الشرائح الغنية والمقاولات الكبرى، وكمثال على ذلك ففي فرنسا الفئات الغنية تؤدي ضرائب أقل ب37% على ما كانت تؤديه خلال 30 سنة الماضية، في نفس الاتجاه وحسب تقرير لجنة المالية والاقتصاد والميزانية المؤرخ ب30 يونيو 2010، لوحظ بأن ميزانية الدولة الفرنسية خسرت ما بين 101,2 مليار أورو و119,3 مليار أورو، كمداخيل ضريبية في الفترة الممتدة ما بين 2000 و2009، في أمريكا وإلى حدود سنة 1981 كان هناك توازن بين المديونية والناتج الداخلي الخام، بوصول الرئيس رونالد ريغان إلى الحكم ومن ورائه المدرسة النيوليبرالية، اتخذ مجموعة من الإجراءات زعزعة التوازن القائم في موازنة الدولة عن طريق تخفيض الضرائب على الأغنياء، مما جعل الخزينة الفدرالية في عجز، ترتب عنه آنذاك تجميد الأجور والاقتطاع من الميزانيات ذات الطابع الاجتماعي تحت مبرر قليل من الدولة وكثير من مبادرات القطاع الخاص. بالعودة إلى الأرقام التي تنشرها بعض المؤسسات الدولية فالأجور لم تعد شكل في مجموع الدول الغنة إلا 57% من الناتج الداخلي الخام، بعدما كانت في أواخر الثمانينات تصل إلى 67%، فالاقتصاد أصبح ينمو عن طريق الديون المدعمة للقدرة الشرائية عوض الأجور، إذن بعد أكثر من ثلاثين سنة ملايير من الدولارات استفادت منها الأسواق المالية عوض الأجور، من هنا يطرح السؤال عن مدى شرعية السياسات التقشفية التي تتحملها الفئات المسحوقة في حين أنها غير مسؤولة عن السياسات الضريبية التي تتهجها الحكومات المتعاقبة والتي حرمت خزانة دولها من مداخيل مهمة، هل يعقل في بلد مثل إيرلاندا اضطرت حكومته إنفاق 70 مليار أورو لإنقاذ بعض البنوك من الإفلاس أي 45% من الناتج الداخلي الخام، مما جعل مديونية هذا البلد تنتقل من 47 مليار أورو سنة 2007 إلى 148 مليار أورو سنة 2010. منذ مدة والجمع يتحدث عن البطالة والهشاشة الاجتماعية، عن عجز الميزانيات، هذه التحاليل لم تعد صادمة بل أصبحت معتادة، فهل سيستمر الوضع على هذا الحال إلى أن تعجز الحكومات يوماً ما عن تأدية واجبات التقاعد وأجور الموظفين وباقي التزاماتها اتجاه مواطنيها، آنذاك سنكون في وضع أخطر من إفلاس مؤسسة بنكية، إنه بداية إفلاس دولة ككل، من هذا المنطلق فالحكومات ومعها الطبقات السياسية الشجاعة في حاجة إلى تشخيص حقيقي يتجاوز الأطروحات التدبيرية التي سادت خلال أربعين سنة الماضية، ولنأخذ العبرة بالمبادرات الجريئة التي واجه بها الرئيس الأمريكي روزفلت الأزمة الاقتصادية عندما وجد 14 مليون أمريكي عاطلين عن العمل، انخفاض مهول في الإنتاج الصناعي وصل إلى 45%، شعور بالإحباط السياسي لدى عامة الشعب لدرجة أن الجمع كان ينعت السياسيين بالكلام في غياب الأفعال، خلال ثلاثة أشهر تم التصويت على ترسانة من القوانين عجز سلفه عن القيام بها خلال أربعة سنوات، بعض القوانين تم تقديمها ومناقشتها والتصويت عليها خلال اليوم الواحد، أهمها تلك المتعلقة بالفصل بين الأبناك العامة وأبناك الأعمال، خلق ضريبة فيدرالية على الأرباح، خلق ضريبة على ذوي الدخل العالي، هذه الإصلاحات القوية ظلت حاضرة في الاقتصاد الأمريكي لمدة 50 سنة على الأقل. هناك نقاش قوي ناضج بدأ يظهر مؤخراً، يطالب النخب السياسية بمراجعة قناعاتها فيما يخص التعامل مع المؤسسات المانحة لاسيما صندوق النقد الدولي الذي فقد جزء كبير من مصداقيته، عندما اعتبر سنة 2007 في تقرير منشور ومحفوظ في أرشيفات هذه المؤسسة، بأن الأبناك التجارية والاستثمارية الأمريكية في صحة مالية جيدة، قراءة كذبتها الأزمات المتتالية التي عرفها هذا القطاع في السنوات الأخيرة. هذه المراجعة ليست جديدة، مارستها مجموعة من الدول على أرض الواقع عندما قامت بقراءة نقدية لعلاقتها بهذه المؤسسة من منطلق الدفاع عن مصالحها، فمنذ 1946 إلى يومنا هذا أكثر من 169 دولة أعادت النظر في تعاملها مع صندوق النقد الدولي فيما يخص الالتزام بتسديد الديون أهمها روسيا سنة 1998 والأرجنتين سنة 2000. ففي حالة الأرجنتين في دجنبر 2001، صندوق النقد الدولي يرفض منح هذا البلد قرضاً كان مبرمجاً من قبل رغم التزامه سياسات تقشفية مكلفة اجتماعياً، الرئيس آنذاك فيرناندو دولاخويا تعرض لهزة شعبية المعروفة بانتفاضة 19 و20 دجنبر 2001، بعده تعاقب ثلاثة رؤساء في ظرف وجيز على الحكم إلى أن وصل إدواردو دوهالدي إلى السلطة في 2 يناير 2002، هذا الأخير قرر توقيف تسديد الديون الخارجة والتي وصلت إلى 100 مليار دولار سواء اتجاه المانحين الخواص أو الدول المجتمعة في نادي باريس، صندوق النقد الدولي ومعه الدول الغربية تحدثوا عن نهاية الاقتصاد الأرجنتيني، العكس هو الذي حصل بحيث أنه ما بين 2003 و2011 نسبة النمو وصلت إلى 7% سنوياً، تم تسديد وبطريقة قبلية سنة 2005 نسبة كبيرة من الديون الخارجية مع العلم أن الجزء الأكبر منها موروث عن المرحلة الديكتاتورية ما بين 1976 و1983، ثم مرحلة حكم كارلوس منعم المعروفة بالرشوة والمحسوبية والتي امتدت من 1989 إلى 1999، حالياً الأرجنتين لازال بذمتها 6,5 مليار دولار اتجاه نادي باريس، سدادها توقف منذ 2002 نادي باريس لا يتحدث إعلاميا عن هذا الموضوع خوفاً من أن تنتقل العدوى إلى دول أخرى، الأرجنتين خرج منتصراً مادام أنه ينتمي اليوم إلى الدول العشرين الأكثر تصنيعاً ويبقى في مجال تدبير الديون الخارجية مثالا ونقطة ضوء يجب دراستها، فنسبة الدين العمومي الداخلي والخارجي لا تتجاوز 46% من الناتج الداخلي الخام في مقابل 160% سنة 2001. رئيس دولة الإكواتور كوريرا أعلن في سنة 2007 تأسيس لجنة وطنية قصد دراسة الديون المتراكمة على بلده، بعد مدة من الاشتغال تقرر توقيف تسديد بعض الديون، حكومة الإكواتور خرجت منتصرة من هذا الضغط، اشترت بعض ديونها ب900 ملون دولار عوض تأدية 3,2 مليار دولار، خزينة الدولة ربحت 7 مليار دولار في معركتها مع المؤسسات المانحة مما سمح لها بسن سياسة اجتماعية حقيقية في مجال الصحة والسكن والتعليم. روسيا في سنة 1998 أعلنت بشكل أحادي توقيف تسديد دونها نحو نادي باريس بعدما تراجعت مداخيل البيترول ومداخيل الضرائب، هذا القرار أدى بالجهات المانحة إلى خصم نسبة مهمة من ديون هذا البلد كما أن صندوق النقد الدولي استمر في الاستجابة لطلبات روسيا خوفاً من انتقال العدوى إلى دولة أخرى. الدولة النرويجية في سنة 2006، اعترفت وفي مبادرة فريدة من نوعها بمسؤوليتها اتجاه إثقال كاهل بعض دول الجنوب بديون كان اقتصادها في حاجة إليها، من بينها مصر وإكواتور وجامايكا والبيرو وسيراليون، ما بين 1976 و1980 النرويج صدَّرَت 156 باخرة اتجاه 21 بلداً ينتمون إلى الجنوب بمبلغ 440 مليون أورو وذلك دعماً لقطاع الصناعات البحرية النرويجية الذي كان في الأزمة آنذاك، السلطات النرويجية اعتبرت فيما بعد أن لا شرعة لهذه الديون فتم حذفها بكاملها. هل نحن أمام خطر احتمال سقوط النظام الاقتصادي العالمي، سؤال يؤرق مجموعة من المسؤولين لاسيما بعد توالي الصعوبات المالية، لقد جسدت سنة 2011 هذا التخوف بشكل علني، بحيث لم تعد الشخصيات الوازنة اقتصادياً أو فكرياً تخفي قلقها؛ مثل المفكر الفرنسي ادغار موران الذي اعتبر في نوفمبر 2011 أننا نسير نحو الكارثة. خلال ندوة علمية نظمتها جريدة ليبراسيون الفرنسية يوم 29 يناير 2012، بشراكة مع مجلة ماريان بمدينة غرونبل، اعتبر متدخل عن الحزب الاشتراكي الفرنسي أن وضعية فرنسا في تلك الفترة شبيهة بوضعية سنة 1997، هذه المقارنة دفعته إلى التأكيد على أن الانتصار الانتخابي في ماي سيسمح للاشتراكيين بطرح مشروع اقتصادي بديل، في نفس القاعة شكَّكَ البعض في هذه الإمكانية لأن الأرقام الاقتصادية القادمة من الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين تؤكد أن هامش التحرك أصبح ضيقاً، هذه الملاحظات لم يخطأ أصحابها فمنذ وصول هولاند إلى الحكم تبخرت كل الأحلام واصطدم الشارع الفرنسي بسياسة تقشفية شبيهة في اختياراتها بتلك التي طبقها اليمين الفرنسي منذ سنوات عدة. قد يعتقد البعض أن الاقتصاد الصيني يمتلك المناعة الكافية وله القدرة على الوقوف في وجه العواصف القادمة، تصور لم يعد يملك الأغلبية في كل الأوساط، فالبلد راهن اقتصادياً على اكتساح الأسواق الخارجية، انكماشها يعني دخول الصين في دوامة تدبير الصعوبات، بكين تحاول الدفع باستثمارات قوية وذلك بإعطاء إشارات للأبناك قصد قبول تمويل الطلبات الموجهة إليها، العقار هو على رأس هذه الاستثمارات، انخفاضه بنسبة 5% في السنوات الأخيرة مؤشر غير مطمئن للقادة الصينيين، فأزمة آسيا العقارية حاضرة في أذهانهم، في حالة صعوبات اقتصادية لا وجود لتغطية صحية شبيهة بتلك الموجودة في الدول المتطورة اقتصادياً، غياب التعويضات عن العطالة أو على دخل كحد أدنى اجتماعي للعيش مما يجعل إمكانيات تدخل الدولة اجتماعياً في حالة أزمة محدود. خلاصة: عندما ظهرت أزمة تمويل العقار في أمريكا، لم ترتعش الأوساط الاقتصادية العالمية طويلا، نظراً لثقتها آنذاك في صلابة وقوة الاقتصاد الأمريكي، كما أن سقوط مؤسسة مالية من العيار الثقيل مثل ليمان بروتز أحدث ارتباكاً لم يتعدى بضعة أيام، ذلك أن الرئيس بوش ومعه كاتب الدولة في الخزينة آنذاك وعدوا بوضع 700 مليار دولار على الطاولة لمواجهة إفلاس هذه المؤسسة، عادت الثقة بسرعة لأن تدخل السلطات الأمريكية كافياً، ثم لا أحد كان يشك في قدرة ومصداقية الحكومة الأمريكية، اليوم إذا وقعت أزمة مشابهة ل2007، لن يستطيع الرئيس أوباما تقديم وعود بوضع نفس المبلغ على الطاولة، فإمكانيات تدخل البيت الأبيض تراجعت بشكل كبير نظراً لثقل مديونية الولاياتالمتحدةالأمريكية، أليس هذا دليل على أن العالم قد يتجه نحو انهيار اقتصادي قد يؤدي إلى هزات تنهي المرحلة الذهبية لاقتصاديات السوق، فالعولمة بشكلها حالي استفاد منها الرأسمال الذي همش الدولة والفاعل السياسي لدرجة أن الاعتقاد السائد حالياً في أوساط عامة الناس هو أن المؤسسات الحزبية والمنتخبة تحولت رغم شرعيتها الجماهيرية إلى أدوات تابعة وليست صانعة لقرارات مؤثرة اقتصادياً.