المشاهدات: 1٬491 هوية بريس – متابعة الإثنين 29 فبراير 2016 في أوائل القرن العشرين الميلادي أحس المغرب بتآمر بضع الدول الأوربية عليه وحرصها على إحداث الفتن الداخلية فيه لينهار تماسكه وتضطرب أحواله ووجد نفسه وجها لوجه أمام دسائس خطيرة أدت في النهاية إلى سقوطه في قبضة الفرنسيين والإسبانيين رغم مواقفه البطولية ورغم محاولاته المتواصلة لإثبات ذاته ولإشعار العالم بما يحاك حوله من دسائس. وكان الاستعمار العالمي آنذاك يهدف إلى تقسيم الدول العربية وبعض الدول الإسلامية مهولا وانتهت المعاهدات السرية بالسماح لفرنسا باحتلال المغرب وبالسيطرة عليه على شرط الإبقاء على جزء منه بيد الإسبانيين وعلى شرط عدم التدخل في مصير مصر إذا أرادت انجلترا أن تحكمها وعلى شرط غض الطرف فيما تقوم به إيطاليا في ليبيا وعما تقوم به دول أخرى في أجزاء من إفريقيا. ومع ذلك فإن المغرب كان حذرا واستطاع بما له من حنكة في الحكم الذاتي أن ينتزع الاعتراف الدولي بشخصيته وكيانه سواء في مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 أو في معاهدة الحماية التي أملتها الإدارة الفرنسية على المغرب سنة 1912 ، فلقد كان المولى عبد الحفيظ دقيق النظر قوي التبصر حينما احتاط في المعاهدة فلم يفرط فلي السيادة الوطنية رغم الضغوط الأجنبية ورغم كثير من التنازلات التي جعلت التسيير الإداري والاقتصادي والعسكري في يد الفرنسيين بحيث جعل ضمن بنود الحماية حفظ الكيان الديني وكيان العرش وكيان الوجود المغربي فلم تستطع فرنسا أن تبتلع الشخصية المغربية وأن تقضي عليها ومع ذلك فإن المولى عبد الحفيظ أحس عند تطبيق بنود الحماية بتلكؤ الفرنسيين في قبو ل التصرف وفق الحرية التي تخولها له المعاهدة فاضطر أمام الضغط الذي مارسوه ضده أن يتنازل عن العرش وأن يكره على الإقامة الإجبارية بفرنسا، ولقد كان بوده بعد التنازل أن يقيم بمصر أو بالحجاز ليكون قرب الحرمين الشريفين، ولكن الفرنسيين حرموه من ذلك وألزموه بالذهاب إلى فرنسا بعيدا عن أهله محروما من ماله ولعلهم فعلوا ذلك خوفا من أن يجد في منفاه وسيلة للثورة أو طريقا لرد الفعل، فهم كانوا يرغبون في أن يعيش تحت سمعهم وبصرهم. ولم يكن المغاربة الأحرار ليقبلوا الاستمرارية على وضع غير عادي فهم لم يعهدوا أنفسهم مقيدين مضطهدين لذلك واصلوا الكفاح من أجل إبعاد شبح الحماية عن بلادهم فما خلق المغرب ليكون مستعبدا ومن اجل ذلك احتدمت الثورة في كل مكان وتعالت الاحتجاجات من زعمائه وأبطاله وتحولت تلك الاحتجاجات إلى رفض بات لكل ما يتصل بالحماية سواء في ذلك من كان من المغاربة يعيش تحت حماية الفرنسيين ومن كان منهم تحت لحماية الإسبانيين، ووجدت الثورة في العلماء سبيلا إلى رفع المعنوية أمام المواطنين لذلك كانت الثورة الريفية التي تزعمها الفقيه محمد بن عبد الكريم الخطابي من أشهر الثورات التي زعزعت الوجود الاستعماري، وأفسدت عليه استقراره، فقد استطاعت هاته الثورة أن تقاوم بكل بسالة تدوس كثيرا من القوى الاستعمارية الغاشمة ولولا تعاون الإسبانيين والفرنسيين معا على محاربته وصبرهم على مقاومته وإنفاقهم الكثير على التغلب عليه ما استطاعوا أن يهزموه وأن يضعوه أسيرا بين أيديهم، ومع ذلك فإن الثورة الريفية لم تطفئ جذوتها ولم تقهر مبادئها ، فهي إذا قهرت عسكريا فإن جذورها الثورية انتشرت في المغرب وأصبح المغاربة يفكرون من جديد في طريقة الخلاص، ورأى عدد منهم أن المغرب في حاجة إلى إصلاح جذري وأنه لا تقوم له قائمة إلا إذا انتشر العلم بين ربوعه وعمت الوحدة بين سكانه وزاد المغاربة إيمانا بذلك حينما أعلن رجال الحماية عن خطتهم التفريقية فيما سموه بالظهير البربري سنة 1930. لقد توهموا أنهم ضيقوا الخناق على التشريع الإسلامي وعلى اللغة العربية وجعلوا المغرب أقاليم مختلفة يخضع بعضها للعرف وبعضها للشريعة الإسلامية، فإنهم سيملكون زمامه وسيتحكمون فيه كما شاؤوا ، لكن رد الفعل كان شديدا بحيث أصبحت المقاومة المغربية شديدة والتحمت القوي وأعلن كل من البربر والعرب أنهم إخوان متحابون يجمعهم التاريخ ويجمعهم الدين، ويجمعهم الأمل في التخلص من الاستعمار ووجدوا في الظهير البربري سندا دوليا يبينون به النوايا الحقيقية لهؤلاء المستعمرين، لذلك خرجت القضية المغربية بسببه من الإطار الداخلي وأصبحت مدوية في العالم العربي والإسلامي وتبناها عدد من الأحرار في العالم الأوربي أيضا. ولم يرض المغاربة بعد هذا الظهير أن تبقى قضيتهم مرتبطة بالمواجهة الشكلية ، لذلك حاولوا أن يؤسسوا حزبا وطنيا مبنيا على أسس عصرية وراسما لخطة عمل وكانوا في حاجة قبل تأسيس هذا الحزب إلى تهيئ الشعب لمبادئه وأفكاره وإلى إعداد المواطنين أعدادا يجعلهم يؤمنون بالإصلاح ويؤمنون بالكفاح. وتوجهت الفكرة الإصلاحية إلى أمرين: الأمر الأول يتصل بمحاربة التقاليد ويدعو إلى تحرير الفكر من التبعية للخرافات الضالة مع تيسير سبل الاجتهاد وفتح الرأي العام حول المبادئ الإسلامية السليمة من شوائب الجهل والضلال. الأمر الثاني يتصل بالدعوة إلى العلم والسعي من أجل إبعاد الناس عن الرضوخ إلى الغزو الفكري الأجنبي ، لذلك سعى هؤلاء الداعون إلى تأسيس مدارس حرة لتضيق المجال على الدولة الحامية وتسعى في نشر المبادئ الوطنية في مختلف الآفاق المغربية. وأمر كهذا لم يكن الذين يحكمون البلاد من الفرنسيين ليقبلوه لأنهم اعتبروه خطرا حقيقا على سياستهم لذلك تصدوا لهاته الحركة التحريرية بعنف وعملوا على التضييق عليها وعلى خنق مجال الحريات وعلى إدانة كل من تزعم هاته الحركة أو دعا إليها فملؤوا السجون وقتلوا الأبرياء وأيتموا الأطفال وأثكلوا الأمهات واستخفوا لكرامة البشرية ولقي من جراء ذلك عدد من الأحرار مصيرهم المنتظر، فاستشهدوا وهم لا يبالون بما سيلقونه لأنهم يعلمون أن الجنة مصير الشهداء. وكان من بين هؤلاء الضحايا أديب من أدباء المغرب وفقيه من فقهائه آمن بالحق المطلوب وعلم أن الحرية لا تنال بالأقوال فقط، ولكنها تحتاج على معاناة ومواجهة وتيقن أن المصير المشرق لا يكون بالجمود والتقليد والتبعية، وإنما يكون بالتحرر والاجتهاد والاستقلال، ودعا إلى العلم وسعى في نشر أفكاره بين الناس لكنه لاقى المواجهة من المستعمرين الذين لم يكونوا براضين عنه وعن خطته فقاومهم إلى أن لقي الله شهيدا. إن هذا الفقيه الأديب المقاوم هو الشاعر محمد القري المولود صبيحة يوم الأربعاء رابع رمضان 1317ه. كان هذا الفقيه مومنا بالدور الإيجابي الذي يتحمله رجال العلم في التوعية الشعبية وكان يعتبر الأدب التزاما لذلك وجه عنايته إلى صقل ملكته الشعرية لجعل ذلك الشعر أغرودة تتلقاها الأسماع وترددها الألسنة، وليجعله رسالة وطنية تحملها أوراق المجلات وتذاع من منابر المنتديات وتنشد في المحافل والمهرجانات، كما تعهد أسلوبه الخطابي ليكون مؤثرا في مستمعيه وحاول أن يبتز معاصريه، لذلك أكثر من حفظ الأشعار وحفظ المتون وتيسر له منذ طفولته أن يجد أبا حريصا على أن يجعل من ابنه صورة للمثقف المغربي الذي لا يكون له وجود إلا بعد حفظ القرآن الكريم. ولما نهل من قريته ما يمكن نهله، وتم حفظ القرآن وبعض الدواوين الشعرية جاء به والده إلى مدينة فاس ليتلقي العلم من جامعة القرويين. وفي مدينة فاس تفتحت عيناه على حركة وطنية تهدف إلى تحرير الوطن من ربقة الاستعمار وعلى حركة سلفية تهدف إلى تحرير المسلمين من التقليد، فاستأنس بالحركتين معا وسار في ركابهما ووجد في بعض أساتذته ما يحببه في هاته الدعوة التحريرية وعلى رأسهم العالم الشهير المصلح سيدي محمد بن العربي العلوي. إن القري رحمه الله كان ينسب إلى شيخه هذا جميع ما يعتنقه من مذاهب الحرية فلقد أرشده إلى أمهات الكتب الإسلامية والأدبية ودعاه إلى الاعتزاز بالشخصية الإسلامية وحبب إليه الأدب وعلمه كيف يواجه المواقف بحزم وثبات. ولعل ذكاء القري أثار في وجهه بعض المشاكل داخل مدينة فاس، خصوصا حينما ظهر نبوغه المبكر، وحينما وجد نفسه لا يملك عصبة تحميه ولا مالا يغنيه فاضطر إلى اللجوء إلى المكلف بشؤون التعليم بفاس وهو المعروف بمسيو مارطي، فطلب منه أن يساعده على وظيفة تحميه من الضياع، فهو قد ضاق ذرعا بمناوئيه الذين إذا ساروا في الطرقات ساروا كأنهم سكارى أو مقيدون في الأصفاد ظنا منهم بأن العلم لا تكون له هيبة إلا إذا كان مرتبطا بهذا التظاهر المزيف، وكانت هذه الرسالة الموجهة عبارة عن قصيدة ظلت إلى الآن تعد في تاريخ الأدب المغربي الحديث عند بعض النقاد ممثلة لحالة ضعف طارئة تسلطت علي القري، فأخرجته من التزامه وجعلته ينساق إلى انفعال لا يتجاوب مع غيرته الوطنية، ومن الذين وضعوه في هاته التهمة الأستاذ الدكتور إبراهيم السولامي في كتابه الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية، فهو بعد حديثه عن شعر المقاومة وضع فصلا عن الدعوات المضادة وفي هذا الفصل قال: (ص 168)، «وإذا كانت حناجر الشعراء العاقين لوطنهم قد ساندت دولة الغاضبين فإن بعضهم تردد في شعره نزوع للإصلاح أو التغني بحب الوطن، كما سنرى عند شاعر الحمراء ، لكن الحال يصبح أشد تعقيدا لدى الباحث حين يعثر على شعراء وطنيين داخل دائرة الملق مرة أو أكثر لسبب أو أسباب خاصة، أو وقتية وهي ظاهرة يجب أن نقف عندها مستدلين دون أن نعفي أحدا من مسؤولياته ودون أن نلجأ إلى نشدان التبرير». وفي هذا القسم أدخل القري رحمه الله. والواقع يثبت أن القري إذا انساق إلى الالتجاء إلى مسؤول عن التعليم ، وكتب إليه شخصيا دون أن يتغنى بأمجاد الفرنسيين ولا بإصلاحاتهم في بلادنا ، فإن ذلك لا يمكن أن يجعله في إطار المتعلقين ولا أن يدمجه في فصل يتحدث عن الدعوات المضادة خصوصا إذا ما اطلعنا على هاته القصيدة التي تضع القري في قفص الاتهام ففيها يقول: لكم محل فؤادي إذا قبلتم ودادي وإن أصختم لشعري الذي أنابه شاد يمثل الشكر مني لكم بكل اتناد يصوغه مقول الشا عر البليغ الحداد فلست اغمط فضلا إذا أحبتم مرادي ولم تبالوا بشان وحاسد ومعاد فإنما الناس أغروا بأن يكونوا أعادي لكل مرء غريب مقابل بالتعادي ما إن له من مجيب لو للإخاء ينادي وهبه مرءا له في كل العلوم أياد ما أن يترجم إلا بالغمر في كل ناد حدثهم عن ثمود أو عن مواقف عاد فما تقابل منهم إلا بكل انتقاد لو أن قولك ماش على سبيل الرشاد وإنني اليوم أملي عليكم من فؤادي شكوى بقومي فقومي الأعداء لي باتحاد لا يأبهون لقدر امرئ حليف السهاد فيما يود على قو مه ينفع البلاد ويبتذل العمر مهرا على صلاح العباد كي ينهضوا من مهاو وينهضوا من وهاد إني امرؤ لم أرد غير نصحهم باجتهاد وغير خدمة شعبي بعدتي وعتادي يا سامح الله قومي وإن رموني بواد وقابلوني على ما أتيتهم باحتقاد وهكذا تستمر القصيدة في الإفصاح عن أعماق هذا الرجل المكافح الذي يعلن فيها أنه سيبذل عمره مهرا لصلاح العباد ، وكذلك كان وعده حقا فالتزم بالدعوة الإصلاحية إلى أن وهب حياته فداء لها وأصبح من شهداء المعركة، فكيف يمكننا أن نجعل هذه القصيدة منطلقا لاتهام القري بالملق وأن نضعه بسببها مع أصحاب الدعوات المضادة، إن ذلك مرجعه إلى الصورة المثالية التي يراها الدكتور إبراهيم السولامي للوطنية الصادقة التي تجعل هاته القصيدة خدشة في المرأة الصافية التي كان يود أن تبقى صافية دون أن يعتليها صدا وإن كان ضئيلا. إن الروح الوطنية هي الروح المهيمنة على الشاعر القري رحمه الله، وقد جعلت منه داعية للأخلاق والفداء، وحملته على أن يختار لشعراء أخف الأوزان وأسهل الألفاظ، وأن يتجاوز أحيانا حدود التعهد الدقيق للفن الشعري لأن الغاية أصبحت لديه لا تتعلق بالاهتمام الفني المحض، وإنما أصبحت الغاية إحياء روح ورفع معنوية وحضا على جهاد. وكان المنطلق الذي ينطلق منه في خطته يهدف إلى نشر العلم وإلى الدفاع عن الحق وإلى تيسير اللغة المعبرة وإلى المساهمة في وضع أناشيد سهلة يسهل حفظها وتداولها فإني لحد الآن ما أزال أتذكر مطلع نشيد كنت أحفظه وأنا طفل صغير يقول فيه القري رحمه الله: علمونا علمونا أو إلى الموت ادفعونا إن الدعوة إلى العلم وإلى التمسك بالأخلاق الفاضلة وإلى الاعتزاز بالتربية الدينية هي الشعارات الأساسية التي كان يرددها في شعره نشيدا كان أو قصيدا، فهو الذي يقول في مقطوعة من شعره: زاد في الطين بلة وفسادا من على الجهل والضلال تمادى يظهر الحق للعيان فيبدي مع بيان الدليل منه عنادا ما على الحق من خفاء ولكن ضل قوم فموهوه كادا إيه ما أبين الحقائق للناس وهم كلهم يرون السدادا هم بخير في أمرهم ما أقاموا الدين والعلم واستبانوا الرشادا فإذا ما عملوا عن الحق بادوا واضمحلوا ثنى ثنى وفرادى فبمثل هذه الأشعار كان يخلد أفكاره ويدعو إليها وكانت نفسه تواقة إلى البحث عن المناسبات التي يعلن فيها عن مبادئه وآرائه الإصلاحية لذلك نراه يساهم مع جماعة من طلبة القرويين آنذاك يتزعمهم المرحوم محمد علال الفاسي في إقامة حفل تأبيني لأمير الشعراء أحمد شوقي فقد أقيم الحفل في اليوم الرابع والعشرين من رجب سنة 1351ه وشارك فيه القري بقصيدة طويلة يقول في مطلعها: شوقي وما أدراك ما شوقي شوقي إمام القول عن حق شوقي الأمير وغيره خدم لكلامه في الغرب والشرق كما شارك بقصيدة أخرى على وزن المتقارب لحنت ورددت على شكل نشيد في الحفل التأبيني يقول فيها: وم على الشاعر العبقري سلام على ناصر الأدب أمير البيان أمير القريض وحامي العروبة والعرب تركت الرعية تبكي عليك بكاء اليتيم حنان الأب تركت العروبة ثكلى عليك حياتك تبكي على شجب فمن للعروبة بنصرها ومن ذا يقوم مقام الأب ومن ذا يجدد بهجتها ويبرزها غضة الحب ويبني لها المجدين الورى ويبلغها كل مطلب وينشر آياتها الزهرات ويبدي مكانتها للغبي ويعلي لها القدر فوق السما وفوق المساكين والشهب ويبلغها كل أمنية ويبلغها غير ما مأرب فمن مثل شوقي يصوغ القريض لحلي الجواهر في اللبب ومن للثقافة يوردها على المشرق الفذ والمغرب ومن ذا الذي ينير سبيل الهدى لمسترشد ولمستطلب ويملأ أفكارنا بعلوم تثير التعجب للمعجب أندبه وهو يندبنا لأنا من الجهل في غيهب ولم تدر بعد شوقي الحياة وما نحن منها على مذهب وقد بح في صوته داعيا بشعر له معجب مطرب وما من مصيخ إلى قوله ولو دام يصرخ في لجب على أنه مل من نصحه لفرد بليد وفرد غبي لذلك فضل نقلته إلى عالم هانئ طيب على أنه لم يمت من له جليل المآثر في الأدب أشوقي عليك أمان السلام من الله في ظلم التيرب ومن خلدت يده عمره فما هو بالميت النسب فنم في مقيم الهناء وفي هناء النعيم على طرب أشوقي هنيئا بدار الخلود هنيئا لمرقدك الطيب ولا شك أن الهيئة الوطنية اهتمت بالجانب الإيجابي في أدب شوقي خصوصا بعد منفاه وبعدما أصبح شعره مخلدا لآثار العرب والمسلمين ومرددا لبطولاتهم ومعبرا عن إحساسهم بوجودهم لذلك عمدت إلى إقامة هذا الحفل ودعت إلى المشاركة فيه واستغلت كل ما يتصل بالجانب الوطني والقومي فضخمته وجعلته الصورة الإيجابية التي ينبغي أن توجه إليها العناية في التربية الوطنية وفي نشر المقومات الأساسية لخلق كيان متماسك يدعو إلى العزة ويومن بها ويسعى لنيل المتمنيات عن طريق العزم والإقدام فما أصلح شعر شوقي لذلك ! خصوصا حينما نجد فيه مثل هذا البيت الرائع. وما استعصى على قوم منال***إذا الإقدام كان لهم ركابا وحينما تركت ذكرى شوقي في نفوس المغاربة أثرها الفعال بحثوا بعد ذلك عن مناسبة أخرى، فكانت الذكرى الألفية للمتنبي وساهم فيها أيضا الشاعر محمد القري بقصيدة لم تخرج عن منهجه ولم تبتعد عن التزامه وقد نشرها قبل وفاته بسنة ونصف في مجلة المغرب الجديد بالعدد الأخير من سنتها الأولى المؤرخ بذي القعدة وذي الحجة من سنة 1354 هجرية موافق يبراير ومارس من سنة 1936 ميلادية يقول فيها: ذكراك تخلد خلد الفن في الأدب وتبعث الروح في كتابنا العرب ذكراك روح تحيينا مصافحة فنستجد بها التجديد في الأدب ذكراك روح تغشينا لتوقظنا أن نحفظ المجد من تاريخنا الأدب ذكراك روح أحاطتنا تباركنا لتحرس اللغة الفصحى من العطب ذكراك روح أتننا كي تعلمنا بلاغة الشعر أو بلاغة الخطب ذكراك تخلق للبيان كم صورا تاه الجمال بها والفن من طرب تصور الفن والجمال في لغة بذت فصاحتها فصاحة الكتب فنحن نلاحظ أن الذكرى عند القري إنما أطلت على المغاربة لتبعث الروح في المثففين العرب ولتجعلهم حريصين على حفظ المجد وإحياء اللغة الفصحى وبعث البيان العربي. وليس بدعا في الحركات التحريرية أن تجد في المتنبي قبسا يدفعها إلى الأمام بسبب شعره الرائع وبسبب ما يصوره من تطلعات إلى المستقبل، لذلك كانت قصائد المتنبي متناولة في المغرب أثناء هاته الحقبة التي عاش فيها القري لأن المدرسة الوطنية المغربية رأت فيها ما يدعم الوجود العربي وما يقوي الثبات والمواجهة. أليس المتنبي هو القائل: من يهن يسهل الهوان عليه***ما لجرح بميت إيلام والقائل: عش عزيزا أو مت كريم***بين طعن القنا وخفق النبود والقائل: على قدر أهل العزم تأتي العزائم**وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها***وتصغر في عين العظيم العظائم لقد أثرت هذه الروح الفخرية أدبنا الوطني وجعلت كثيرا من الأدباء يسعون في تقمص القوة والأنفة ويدعون إلى الصمود ويرغبون في الحياة الكريمة البعيدة عن أي مظهر من مظاهر الذل والصغار. وكان القري من بينهم إلا أنه إذا بلغت همته مبلغ رواد الوطنية، فإن شعره رغم سهولته ووضوحه ومحاولة صقله، فإنه لم يصل إلى درجة القوة الفنية والحبك الدقيق الذي كان يمتاز به المتنبي وأمثاله. يقول القري رحمه الله في هذا المنحى الفخري: لي همة تأتي الدنايا عفة وترى التذلل للعباد شنارا لا ترضي تسأل أي أن يكن ملك البلاد وعبد الأقطار نفسي تعز على الهوان وتنثني عن كل ذل لو أفاد نارا وهي الحياة تمر كيف قضى إلا لاه ولا تدوم وإن أرت أكدار ولقد شعر الفرنسيون بأن القري لا يفتر عن الحركة الوطنية وأن خطته في التوجيه الوطني تقلق راحتهم وتفسد عليهم سياستهم، لذلك يتحينون الفرصة للإيقاع به وللتوصل إلى إذايته، فلما وقعت المظاهرات الوطنية سنة 1937م، من أجل الدفاع عن حقوق الأمة ومن أجل المطالبة بمشروعية الحزب الوطني الذي يكون له الحق في التوعية وفي فتح الحوار العملي من أجل ضمان العدالة وتسيير المصالح الشعبية في مختلف القطاعات وجدها الفرنسيون سبيلا إلى المس بحريات الناس خصوصا منهم من كانوا يعلمون أنهم يكافحون بلسانهم وقلوبهم كالفقيه القري رحمه الله، فقد ألقي القبض عليه مع جماعة من الوطنيين وتقرر نفيه إلى كولميما ونقلته إليها في صورة تعذيبية وحشية تقشعر منها النفوس وتشمئز منها الأذواق. إن المستعمرين ظنوا أن كولميما مكان ملائم للتعذيب لأنه يختلف عن مناخ المدينة التي أخذ منها الوطنيون ولأن سكانها لا ارتباط لهم بهؤلاء الذين سيأتون إليهم سجناء، فهم لن يلقوا عندهم عطفا ولا حنانا، ولكن الواقع أثبت أن ما قام به المستعمرون كان بسبب خير للدعاية الوطنية فقد رأى عدد من البربر قساوة الجنود التابعين لفرنسا فاختزنوا في أنفسهم الصورة البشعة للاستعمار الشيء الذي جعل عددا من الكوم الموكلين بتعذيب هؤلاء يثورون فيما بعد على القوة الفرنسية ويتحدونها من أجل المصلحة العليا للوطن، ولكن هذا الموقف لم يكن ليخفف من واقع الحياة التي عاشها هؤلاء المنفيون الذين قضوا شهر رمضان في حالة من البؤس والحرمان والعذاب الأليم الذي يعجز اللسان عن وصفه. لقد كان القري رحمه الله ضمن هؤلاء المعذبين الذين أكرهوا على الذهاب سيرا على الأقدام مسافات طويلة والذين أرهقت أجسامهم بحمل الأثقال وضربت أيديهم وأرجلهم بالدرات الجلدية الخشنة حتى فقد القدرة على المشي وعطلت أطرافه ولم يلق رغم ذلك عطفا ولا إشفاقا ولم تحترم إنسانيته ولا ثقافته ولا منزلته الدينية بين قومه، وشاءت الأقدار أن تحتفظ لنا بصورة من تعذيبه كتبها الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني عضو الأكاديمية الملكية في مذكرة من مذكراته التي سجل فيها أيام تعذيبه مع القري في منفى كولميما والتي نشرها تحت عنوان من ذكريات سجين مكافح في عهد الحماية الفرنسية البغيض بالمغرب، فقد قال في هذه المذكرات وهو يتحدث عن ليلة السابع والعشرين من رمضان 1357 هجرية ( ص 145). ولم يغمض لواحد منا جفن ولو لحظة واحدة، إذ كنا جميعا في أنين متواصل وألم شديد شامل وكان الكثيرون يصرخون بين الآونة والأخرى صرخات مكبوتة إذا ألح عليهم الألم أو مس جرحهم بحركة غير اختيارية من جار له لا يجد عشرين سنتيما عرضا ولا ثمانين طولا، مع أن الأكثرية الساحقة منا كانت إلى الموت أقرب منها للحياة ولم يفتر لواحد منا لسان عن اللجوء إلى الله سبحانه التضرع إليه، خصوصا والليلة ليلة سبع وعشرين التي يحتفل فيها المسلمون بذكرى نزول القرآن العظيم، وقد بات عند رجلي في هذه الليلة الشهيد محمد القري رحمه الله وكان قد أصيب في عروق ركبته اليمنى من شدة الضرب فأصبحت رجله مرتفعة إلى أعلى بحيث لا يقدر على وضعها إلى الأرض، وهو يود بجذع الأنف وضعها فينن وينتحب ويتعلق بهذا ويرجو ذلك أن يقف أو يجلس فوق ركبته عساها تنزل إلى الأرض ، فإذا ما فعل زاد تألمه وأنينه ولا أقول صراخه وعويله فإن« الكوم»، من وراء الباب بالمرصاد لإخماد كل صوت وقمع كل حركة وإن تكن اضطرارية والرجل بعد ذلك لا تفأ مرتفعة إلى أعلى لا تنخفض ولا ترجع». ورغم هاته الخالة التي ذكرها الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني فإن السجانين لم يرحموا هذا المعذب المتألم، بل أخذوه من معتقله هذا وذهبوا به إلى مكان آخر ظل فيه أياما قليلة يعذب بأقسى أنواع التعذيب إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة في يوم الأربعاء رابع شوال عام 1356هجرية موافق 6 دجنبر 1937ميلادية. وأثناء الحديث عن هذا اليوم قال الأستاذ الكتاني : «وفي هذا اليوم اسلم الروح الشهيد محمد القري رحمه الله بعد ما غاب خمس ليل وأربعة أيام لا نعلم ماذا جرى له فيها زيادة على ما وقع بمرأى منا فكان موته رحمه الله خسارة لا تعوض ورزية وطنية عظمى إذ كان مومنا سلفيا صادق الإيمان وشاعرا مكثرا وكاتبا وخطيبا مؤثرا وعلامة لغويا مطلعا ومكافحا متفانيا وكان إلى ذلك ذا أخلاق دمثة لين الجانب متواضعا منكرا لذاته مخلصا لأصدقائه». والواقع يثبت أن الأوصاف التي ذكرها الأستاذ الكتاني لا تخالف الحقيقة فهي مرددة على كل لسان سواء فيما يتعلق بصور العذاب أو فيما يتعلق بالقيمة العلمية والوطنية للشهيد محمد القري. إن كتاب الكتاني يعد مصدرا رئيسيا فيما يتعلق بحياة القري رحمه الله وإن ما ذكره لا يتنافى مع الإحساس الوطني الذي يكنه كل الذين عرفوا القري في حياته، فلقد حرصت على أن أتحدث بنفسي مع بعض الذين تيسر لي الاتصال بهم من الذين عرفوه، فكانت أحكامهم لا تزيدني إلا وثوقا بما قاله الكتاني ولا تدفعني إلا إلى تقدير القري واحترامه. قال لي صهري السيد محمد الإدريسي الداودي الحسني، كان القري زاهدا في ملذات الحياة متقشفا حريصا على المعرفة يعيش في منزل متواضع بحي الصفاح يدعو إلى العلم ويمارس التدريس بإحدى المدارس الحرة التي أنشئت بفاس وهي المدرسة الناصرية. وقال لي الأستاذ محمد الحمداوي: «إن القري كان صورة فذة في الإخلاص وإن صموده في الجهاد جعل الناس يقدرونه ويحترمون مبادئه ويكفي دليلا على ذلك أن قبره إلى الآن يعد مزارا بكولميما يبرك به الناس». وقال لي آخرون: «إن شعره الوطني كان يعد من وسائل القوة التي استغلها الوطنيون في رفع الروح المعنوية بالبلاد». وتتميما للفائدة أردت أن أنقل هنا قصيدة من القصائد التي قيلت في رثائه أثبتها للتاريخ الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني في مذكرته وهي للأستاذ عبد السلام بن أحمد الوالي يقول فيها: ظلام السجن خيم في فؤادي وأيام تنغص لي مرادي سيأتي اليسر بعد العسر حقا وحكم الله ينفذ في العباد فلا تخش العذاب على حقوق تؤديها الحواضر والبوادي حقوق الشعب لا نرض سواها ولا ندع التحكم للأعادي لأنهم أذاقونا سموما وخسرانا مبينا في البلاد يحق لنا أن نسطو جميعا ولا نعنوا لأصحاب العناد أأنسى القري الغريد لما تجرع ما تجرع بالجلاء إلى أن مات في الميدان حرا شهيدا ليس يعبأ بالهوا دي تركناه بمصرعه وجئنا نعزي القوم في ثوب الحداد فهل لي من يعير العين دمعا لأبكيه على يوم المعاد وهل ننسى العذاب وسم «كوم» وشتمهم بألسنة حداد اما والله لا أنساه حتى يصير الشعب مرفوع العماد بنى وطني تآخوا باتحاد تنالوا النصر، إن النصر باد وإياكم والتنازع إن فيه فساد في فساد في نكاد علام الاعتماد إذا اختلفتم وصرتم صيحة في كل واد فكم من محنة مرت وصارت تعلمنا التيقظ للفساد بني شعبي أفيقوا من سبات فإن الجهل طبعا كالرقاد وشدوا حالكم بالصبر كيما تنالوا النصر من رب جواد إن هذه القصيدة رغم بساطة مبناها تمثل صورة من الكفاح الوطني وتعتبر نبراسا للمبادئ التي من أجلها عاش القري، فهو كان يريد الاتحاد والعلم والتحرر من ربقة العبودية ولم يكن ببالي ومن أجل ذلك أذاق مرارة العيش أم حلاوته لان الهدف الحقيقي عنده أن تكون أمته قريرة العين بأبنائها وبمبادئها، وهذا هو السر الذي جعله في أعين الرائين غير ميال بزينة الحياة ومفاتنها، ولذلك نجده قد كتب بيتين من الشعر تحت صورته في الكتاب الذي نشره المرحوم محمد بن العباس القباج حول تاريخ الأدب العربي في المغرب الأقصى قال فيهما: تقول لي ذات حسن***ما الشأن فيك غريب أراك بائس حظ****فقلت إني أديب والغالب أن البؤس الذي ربطه بالأدب لا يتعلق بالبؤس المعهود المتصل بالحرمان المادي وإنما كان سببه التأمل الطويل في مشاكل الحياة ومشاكل قومه، فكان لا يهتم بشؤون الدنيا التي تعود عليه بالربح، وإنما كان يهتم بشؤون قومه فلا يبقى له الوقت الكافي للتفكير في مشاكله الخاصة، إلا في لحظات قليلة قد تعتبر منها اللحظة التي كان يبحث فيها عن وظيفته تبعده عن الاحتياج إلى من لا يرحم ولا يجود خصوصا والنفس عالية والهمة تأبى الدنايا ولا ترضى بالهون فليرحمه الله وليجعل روحه خفاقة بين أرواح الشهداء الأبرار والوطنيين الأحرار. محمد بن عبد العزيز الدباغ؛ مجلة "دعوة الحق"، العدد 232 صفر 1404/ نونبر 1983م.