إن الإنسان ليعيش في الدنيا غافلا، آكلا شاربا نائما، هائما على وجهه لا يعرف أين المسير، ولا الغاية من الوجود، لا يرسم لنفسه أهدافا، وليس له أي مشروع علمي أو فكري، يصلح حاله أوحال البشرية. وإذا ما حدثته عن ضرورة الاستيقاظ من سبات الغفلة: واجهك بأسئلة العقبات الكبرى: لا أستطيع، وحتى إذا كنت أستطيع فماذا أقدم؟ وحتى إذا ما قدمت فما الفائدة التي تكون من ذلك العمل؟ إن هذا النوع من الناس ليس له إيقاظ إلا أن تضعه أمام صدمة مفزعة، وإما أن تجعله يعايش أهل الصلاح والإصلاح ويتعرف عليهم، وهو ما يعرف تربويا بنظام القدوات. وإن المسلم في هذا العصر والذي بعده، لهو أشهد حاجة إلى تجديد نظام القدوات ومراتبهم، وخاصة إذا عرفنا اللعبة الماكرة التي ينهجها الإعلام العالمي، في تدجين البشرية، وصناعة نظام التفاهة حتى يبقى الإنسان يعيش رق العبودية في نظام حيتان الرأسمالية. وإننا في هذه الصفحات لسنا بصدد طرق موضوع القدوة نظريا ومعرفة منهج تبنيه، ولا منهج تصنيف القدوات… وإنما الغرض وقفة عملية مع أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَلّنا نقتبس من شموسهم مشاعل تعيد للنفس حب الدين ونصرته، والدعوة إليه والعمل لأجله. المؤمن يحب ما يختاره الله له من الألقاب والأسامي: إن الله عز وجل هو من اختار لهذا الجيل الذي استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة هذا الاسم العظيم (الأنصار) قال الله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100] قال غيلان بن جرير، قال: قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار، كنتم تسمون به، أم سماكم الله؟ قال: «بل سمانا الله عز وجل[1]» فالله من وضع هذا الوسام لهؤلاء القوم الكرام. والمؤمن الصادق يجب عليه أن يقتبس منه شعلة: اختيار ما اختاره الله له من الهوية والانتساب: ولا هوية للمؤمن يحق أن يفاخر بها من كونه مسلما موحدا لله رب العالمين. حب الأنصار علامة صدق الإيمان: وقد تستغرب من هذا أن يكون وجود الانصار رضي الله عنهم، عنوانا على صدق الإيمان، أو علامة على نفاق في نفس الإنسان، ولكن يزول الإشكال عندما تقف على النصوص الشرعية المؤسسة لهذا المعنى، فعن أنس بن مالك: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار»[2]، ومثله أيضا حديث البراء بن عازب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله»[3]. فالقضية إذن ليست مجرد معرفة ذهنية لجيل الأنصار، وإنما يترتب عليها عقيدة الولاء والبراء، فمن أحب هذا الجيل كان حبه لهم علامة على صدق إيمانه، ومن ابغضهم كان له علامة على النفاق. إن هذا المبدأ يقدم للؤمن شعلة ضرورية في مسيرته الإيمانية وهي حب الدعاة إلى الله، والساعين للنصرة الإسلام، فيكون قلبه ميالا لحبهم وحب عملهم، وإن كراهية المصلحين إذا كان راجعا لكونهم دعاة أو مصلحين، لهو خصلة من خصال النفاق التي يجب تطهير النفس منه. الأنصار وشعلة المبادرة: ضرب الأنصار رضي الله عنه نموذجا عاليا في المبادرة والمسابقة للخيرات، يبدأ ذلك من أول لقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم. فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا… ولما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن… فقال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك[4]. إن هذا الحدث العظيم يعطي المسلم: شعلة المبادرة في كل خير وصلاح، فلا تنتظر حتى يسبقك غيرك إلى الخيرات بل ليكن مشروعك الإسلامي: أنا أكون أول الفاعلين: {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] خدمة رسول الله في حياته وخدمة سنته من بعده: أنك إذا رجعت لجيل الأنصار لن تجدهم يقفون من رسول الله إلا موقف الخادم الساعي لنيل رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أنس بن مالك، قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر فكان يخدمني فقلت له: لا تفعل، فقال: «إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، آليت أن لا أصحب أحدا منهم إلا خدمته[5]» إن هذا الحديث وأمثاله: يضع أمامنا شعلة لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الحبيب المصطفى قد مات، فإن شريعته وسنته وهديه وطريقته لازلت حية بيضاء نقية بين أيدينا، فإذا لم نستطع بلوغ هذه الدرجة فلنكن كجرير بن عبد الله البجلي: فنخدم كل من يحمل هم هذا الدين ويكون له نصيرا. نساء الأنصار وشعلة العلم: إن أول شعار رفعته الدعوة الإسلامية شعار العلم والتعلم والمعرفة، وقد ضربت نساء الأنصار في ذلك أنموذجا صار شعلة لكل امرأة مسلمة وهو الاقتباس من ينبوع العلم: قالت عائشة: «نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين[6]» الأنصار وشعلة الإيثار: يبدأ الإيثار من محبة الإنسان الخير للغير، ثم يترقى إلى درجة أن يحب الإنسان لغيره ما يحب لنفسه، ثم يترقى حتى يصبح الإنسان يحب لغيره أكثر مما يحب لنفسه، وقد ضرب الأنصار في كل هذا بنصيب، الأول: محبة الإنسان لنفسه ما يحب لغيره: عن أنس رضي الله عنه: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع لهم بالبحرين، فقالوا: يا رسول الله، إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها، فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني[7]» أما الثاني: فقد سجله لهم القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] إن المؤمن في هذا الزمان الذي غلبت فيه على نفوسنا شقوة المادة حتى أنستنا أنفسنا وأنستنا إخواننا، لهو بحاجة إلى طلب الشعلة من الأنصار، كي يعيد لحياة المسلمين المحبة، والإيثار. الأنصار وشعلة نصرة الإسلام: إن العديد من المسلمين في هذا الزمن قد استقر في أذهانهم وظهر في سلوكهم: أن كون الإنسان مسلما يكفي، ثم بعد ذلك يترك لخصوم الإسلام من العلمانيين الساحة للعبث في الإسلام والطعن فيه والتشجيع على الكفر به وتغير أحكامه. ولو فعل الأنصار مثل فعلنا، لما كان للإسلام قائمة، ولكنها شعلة النصرة التي استقرت في قلوب من آمن منهم بالله واليوم الآخر، وقد ضربوا المثل الأعلى في نصرة الإسلام، وفي نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه، قال: «من يردهم عنا وله الجنة؟» – أو «هو رفيقي في الجنة» -، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا، فقال: «من يردهم عنا وله الجنة؟ -» أو «هو رفيقي في الجنة» -، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: «ما أنصفنا أصحابنا[8]» إن هذا الموقف لتجده في أي معركة عند الأنصار، ففي معركة بدر مثلا: يقول عبد الرحمن بن عوف: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار – حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما – فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه فقال: «أيكما قتله؟»، قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟»، قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: «كلاكما قتله[9]» وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء[10] إن تتبع صور هذا الانتصار في جيل الأنصار، ليضيء للمسلم شعلة جديدة في الانصار لدينه، والدفاع عن نبيه صلى اله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. الأنصار وشعلة التسليم لله ورسوله: إن وصول المسلم إلى مبدأ التسليم لله ورسوله هو الغاية التي يجب أن يكون عليها كل مسلم حتى يصح له إسلامه ويستقيم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] إن إيقاظ هذه الشعلة في نفسية المؤمن يكفي منها مثلا واحد من جيل الأنصار: فقد يختار الأنصاري شيئا ولكنه بمجرد ما يعلم رغبة الرسول في خلافه حتى يعلن التسليم لله ورسوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. عن عبد الله بن زيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح حنينا قسم الغنائم، فأعطى المؤلفة قلوبهم، فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا ما أصاب الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا، فهداكم الله بي؟ وعالة، فأغناكم الله بي؟ ومتفرقين، فجمعكم الله بي؟» ويقولون: الله ورسوله أمن، فقال: «ألا تجيبوني؟» فقالوا: الله ورسوله أمن، فقال: «أما إنكم لو شئتم أن تقولوا كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا» لأشياء عددها، فقال: «ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ الأنصار شعار والناس دثار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض[11]». قال راوي الخبر: قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا[12]. ولعلك وأنت تساير معنا هذه القمم العالية قد استقر في قلبك وعزمت عزيمة رشد لا رجعة فيها أن يكون لك الأنصار قدوة وأن تصنع من شعلهم: شمسا تضيء بها طريقك في السير إلى الله، فتكون قد قضيت الذي عليك وبقي الذي لك عندما تلقى الله تعالى: فعن أنس بن مالك، يقول: مر أبو بكر، والعباس رضي الله عنهما، بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي[13]، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم[14]». صحيح البخاري، باب مناقب الأنصار، رقم الحديث (3776)[1] صحيح البخاري، باب علامة الإيمان حب الأنصار، رقم الحديث (17)[2] صحيح البخاري، باب حب الأنصار، رقم الحديث (3783)[3] السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، شركة الطباعة الفنية المتحدة، 1/55 [4] صحيح مسلم، باب في حسن صحبة الأنصار، رقم الحديث (2513)[5] صحيح مسلم، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، رقم الحديث (332) [6] صحيح البخاري، باب كتابة القطائع، رقم الحديث (2377)[7] صحيح مسلم باب غزوة أحد، رقم الحديث (1789)[8] [9] (كلاكما قتله) تطييا لقلب الآخر من حيث أن له مشاركة في قتله وإلا فالقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب وهو الإثخان وإخراجه عن كونه ممتنعا إنما وجد من معاذ بن عمرو بن الجموح فلهذا قضى له بالسلب] [10] صحيح مسلم، باب استحقاق القتيل سلب القتيل، رقم الحديث (1752) [11] صحيح البخاري، با غزوة الطائف، رقم الحديث (4330) [12] مسند أحمد بن حنبل، مسند أبي سعيد الخذري رضي الله عنه، رقم الحديث (11730) [13] (كرشي وعيبتي) الكرش للحيوان المجتر بمنزلة المعدة للإنسان والعيبة مستودع الثياب والمعنى إنهم بطانتي وخاصتي وموضع سري وأمانتي [14] صحيح البخاري، باب باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» رقم الحديث (3799).