(بمناسبة زيارة البابا للمغرب) لما هاجر النبيُ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ أسّس المجتمعَ الإسلامي على ركيزتين اجتماعيتين: 1- الأخوة بين المسلمين 2- التعايش والتسامح بينهم وبين غيرهم وكان لهذا التعايش بُعْدان: الأول: بُعدٌ سياسي تبلور في وثيقة المدينة وما تضمنته من معاهدة بين المسلمين واليهود؛ ومما جاء فيها: 1- إن اليهود أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم 2- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم 3- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة 4- وإن بينهم النُّصح والنصيحة، والبرَّ دون الإثم 5- وإن النصر للمظلوم … [المصدر: سيرة ابن هشام] وتشكل هذه الوثيقة؛ ملمحا من ملامح جمال الحضارة الإسلامية؛ وحرصها على إقامة علاقات إنسانية قائمة على التسامح والتعاون بين أهل الديانات. والثاني: بُعدٌ اجتماعي تبلور في السلوك الإنساني الذي عامل به النبي صلى الله عليه وسلم اليهود، وكان فيه قدوة للمسلمين؛ وفيما يلي نماذج من ذلكم السلوك الراقي الذي لم يكن سائدا في العالم مثله بين أهل الأديان: النموذج الأول: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان ابن حنيف وقيس ابن سعد قاعدين بالقادسية؛ فمر عليهما بجنازة؛ فقاما. فقيل لهما: إنها من أهل الذمة (صاحبها نصراني). فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام؛ فقيل له: إنها جنازة يهودي. فقال: «أليست نفسا؟». رواه البخاري ومسلم النموذج الثاني: عن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: «أسلم». فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: أطع أبا القاسم؛ فأسلم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار». رواه البخاري النموذج الثالث: عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: “كان رجل من اليهود يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يأمنه، فعقد له عقدا (أي سحرا)، فمرض لذلك النبي ستة أشهر .. فأتاه جبريل فنزل عليه ب (المعوذتين)، وقال: إن رجلا من اليهود سحرك، والسحر في بئر فلان. قال: فبعث عليا رضي الله عنه فأخذ العُقد فجاء بها، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يحل العُقد ويقرأ آية، فحلها، فجعل يقرأ ويحل، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة؛ فبرأ. وكان الرجل (اليهودي) بعد ذلك يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر له شيئا، ولم يعاتبه قط حتى مات” [سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 616)]. النموذج الرابع: بل إنه عليه الصلاة والسلام؛ سلك المسلك ذاته مع اليهودية التي حاولت قتله بالسم: عن جابر أن يهودية من أهل خيبر سمّت شاةً ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ارفعوا أيديكم”. وأرسل إلى اليهودية فدعاها فقال: “سممتِ هذه الشاة؟” فقالت: من أخبرك؟ قال: “أخبرتني هذه في يدي”؛ للذراع. قالت: نعم؛ قلت: إن كان نبيا فلن يضره وإن لم يكن نبيا استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها”. [رواه البخاري في الأدب المفرد وبوّب عليه الإمام: “باب العفو والصفح عن الناس”]. وقد تأسس سلوك التعايش والتسامح هذا؛ على التوجيه القرآني المضمّن في آيتي سورتي الحجرات والممتحنة: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13-14] وقال سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] نلاحظ هنا أن القرآن الكريم أرشد المسلمَ في معاملته لليهودي والنصراني؛ أن يؤسس علاقته معه على: “التعارف” و”البر” و”القسط” أي: العدل؛ والقيمة الإنسانية لمفاهيم: “البر” و”القسط” و”التعارف”؛ أعلى درجة من قيمة مفهومي: “التعايش” و”التسامح”. وفي آية أخرى؛ استعمل القرآن لفظ: “التعاون”؛ فقال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وهذه الآية نزلت في العلاقة بين المسلمين وغيرهم. ذلك من حيث معاملة النبي عليه الصلاة والسلام لليهود والنصارى اجتماعيا وسياسيا؛ أما من الناحية العقدية؛ فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم بأي شكل من الأشكال الفلسفات الوثنية التي تسللت إلى الديانتين النصرانية واليهودية. والمواقف النبوية في رفض تلك الفلسفات كثيرة جدا؛ أذكر منها نموذجا واحدا يتعلق بشعيرة الأذان: لما فكّر المسلمون الأوائل في وسيلة يعلنون بها عن دخول وقت الصلاة؛ اقترح بعض الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم طريقة اليهود وطريقة النصارى؛ فرفضهما: عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة؛ فإذا رأوها أخبر بعضهم بعضا؛ فلم يعجبه ذلك. فذكر له شبور اليهود؛ فلم يعجبه ذلك وقال: “هو من أمر اليهود”. فذُكر له الناقوس؛ فقال: “هو من أمر النصارى”. فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأُري الأذان في منامه. قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له: “يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان” … فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله”. قال: فأذّن بلال”. [أخرجه أبو داود / كتاب الصلاة / باب بدء الأذان، الحديث رقم (498)؛ وصححه الحافظ في (الفتح) وأصله في الصحيحين مختصرا]. قال الفقيه ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 356): “النبي صلى الله عليه وسلم لما كره بوق اليهود المنفوخ بالفم، وناقوس النصارى المضروب باليد، علّل هذا بأنه من أمر اليهود، وعلل هذا بأنه من أمر النصارى؛ لأن ذكر الوصف عقيب الحكم، يدل على أنه علة له، وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى”اه. فإذا كان استعمال وسيلة النصارى للإعلام بوقت صلاتهم مرفوضا عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف باستعمال ألفاظ ترانيمهم وخلطها بألفاظ الأذان؟؟ إن رفض ذلك كله؛ يشكل ركنا أساسيا في الحمولة التصحيحية التي بعث الله تعالى بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم؛ ليقيم ما اعوج ويصلح ما فسد من عقائد الديانتين اليهودية والنصرانية؛ اللتيْن تسربت إليهما أفكار وثنية تنسبُ بعض خصائص الألوهية إلى غير الله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، سبحانه. وقد أكَّد علماء الأديان والتاريخ أن الديانة النصرانية قد اصطبغت بالصبغة الوثنية، وأنها أخذت عقيدتها وعبادتها من تلك الوثنيات الرومانية واليونانية والفارسية .. وأبرز مثال على ذلك: التثليث؛ فهو موجود عند الهنادكة والبوذيين قبل النصارى؛ وفي هذا يقول (فابر) في كتابه (أصل الوثنية): “وكما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلفاً من برهمة وفشنو وسيفا، هكذا نجد عند البوذيين؛ فإنهم يقولون: إن بوذا إله ويقولون بأقانيمه الثلاثة”. كما كان يوجد ذلك أيضاً لدى المصريين والفرس واليونان والرومان والأشوريين والفينيقيين والاسكندنافيين والتتر والمكسيكيين والكنديين. وكذلك المصريين القدماء كانوا يعتقدون أن الآلهة ثلاثة وهم: (أتوم وشو وتفنوت) أو أوزيريس وأيزيس وهورس. من هنا جاء القرآن الكريم رافضا لذلك التسلل رفضا قاطعا؛ ونفى أن يكون لسيدنا المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام شيئا من خصوصيات الألوهية، أو أن يكون هناك نسبٌ بين الإنسان والإله، واعتبر ذلك تحريفا خطيرا لرسالة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام: قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30، 31] بناء على ما تقدّم؛ فإنني أُثمِّنُ مساعي المغرب لتعزيز علاقات التعاون مع مؤسسة الفاتيكان؛ وأستبشر خيرا من زيارة البابا فرنسيس للمغرب يومي: 30 و31 مارس 2019، واستقبال جلالة الملك محمد السادس له بما يخدم قيم التسامح والتعايش بين أهل الديانات، ويرفض محاولات تهويد القدس، وفي الوقت نفسه أعبّر عن تحفظي على خلط الأذان بترانيم يهودية ونصرانية. 1. وسوم