من الأسئلة التي باتت تطرح في مجال التدافع القيمي والثقافي سؤال: هل فضل الإسلام الذكر على الأنثى باعتبار الجنس؟ أي هل عد جنس الذكر أفضل من جنس الأنثى؟ بداية، نعترف أن السؤال أعلاه مشروع في حد ذاته، والإسلام لا يقف عائقا أمام المعرفة والمطالبة بالجواب عن أي سؤال يتعلق بالإنسان، فهو لا يخشى المعرفة، ولا يستكبر عن تمحيص الحقائق الشرعية، بل يشجع على معرفتها ويدعو إلى تمحصيها. غير أن مصدر السؤال ليس محايدا في قضايا الإسلام، ولا موضوعيا تجاه أدلته، ولهذا تراه يقلب الحقائق الإسلامية حتى تظهر بمظهر مشين فيحكم على الإسلام بأخطاء بعض المسلمين تجاه الأنثى، أو يقدم تلك الحقائق ناقصة حتى تبدو أنها تظلم المرأة. ولم يعد خافيا أن الفكر ما بعد الحداثي يؤلب المرأة المسلمة على الإسلام وآدابه، بدعوى أنه لم ينصفها ولم يرع مشاعرها وإنسانيتها، ولم يضمن لها أبسط الحقوق الكونية، بل فضل الرجل عليها، فهو دين ذكوري؛ أي إن الله يحب الذكور على الإناث ويميز بينهما على هذا الأساس… وغيرها من التهم الثقيلة الجزاف التي لا خطام لها ولا زمام. وهو بذلك، يسعى إلى أن تتحول المرأة المسلمة إلى عنصر معارض لأحكام الإسلام وآدابه، وإذا تمكن من تمرير أفكاره المسمومة للأجيال القادمة من خلال المرأة بصفتها مربية النشء والأجيال، فسيبث الشقاق داخل المنظومة برمتها، ويعمق بذلك جروح الأمة الإسلامية. ونحن في هذا المقال إذ نهدف إلى أن نجيب عن السؤال أعلاه قدر المستطاع، نسلك في ذلك مسلكي الموضوعية والحياد كما علمنا الإسلام، مسترشدين بالوحيين: القرآن والسنة، ثم بالمعقول. 1 نصوص من القرآن: يقرر الإسلام في نصوص شرعية كثيرة مبدأ التساوي بين الجنسين عند الله جل جلاله، فلا أفضلية للذكر من حيث هو ذكر على الأنثى من حيث هي أنثى، وإنما يتفاضل عامة الناس عند الله بالتقوى. من هذه النصوص التي تقرر ذلك: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. تخاطب الآية الكريمة جميع الناس دون الالتفات لأي انتماء من الانتماءات الممكنة التي تصنفهم إلى أصناف متباينة، كالانتماء الديني مثلا أو العرقي أو الجغرافي أو السياسي. ثم تذكرهم بأصل خلقتهم، فهم يتنمون إلى أصلٍ واحدٍ الذي يتمثل في زوجين: ذكر وأنثى، وإن شئنا قلنا آدم وحواء، فهما الزوج الأصل لكل إنسان في الوجود ذكرا كان أو أنثى، وهذا يقتضي أن جميع الناس متساوون باعتبار النشأة، وإنما يتفاضلون فيما بينهم باعتبار تقوى الله، فالمتقون هم المكرّمون المفضلون عند الله تعالى، أي إن التفضيل الذي قرره الشرع مرتبط بما اكتسب الناس من تقوى، و(كل نفس بما كسبت رهينة). ولم تفرق الآية بين الذكر والأنثى لأن الخطاب عمهما جميعا ولم يستثن أحدهما، فالكسب هو مناط التفريق بين عموم الناس عند الله تعالى، ولا عبرة فيه للذكورة أو الأنوثة. ومبدأ التساوي بين الذكر والأنثى الذي قررته الآية السالفة الذكر، أكدته نصوص شرعية أخرى، من بينها ما جاء في سورة آل عمران عند قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ …}، أي أنتم في ثوابي سواء، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى. وسبب تسوية الشرع في الثواب بينهما يعود إلى الأعمال التي قدماها لله، فلما تشابهت وتكافأت، أي الهجرة إلى الله، والإذاية في سبيله، والاقتتال دفاعا عن دينه كما دلت عليه تتمة الآية، استحقت الأنثى الثواب نفسه الذي سيفوز به الذكر، فلا تأثير إطلاقا لنوع الجنس في ذلك، وهذا يلزم منه بدلالة الالتزام أن الشريعة الإسلامية تقف من مسافة واحدة متساوية بين الذكر والأنثى، ولا تفرق بينهما بسبب الذكورة والأنوثة. هذا، وما دلت عليه الآية الكريمة جاءت به آيات أخر، كما في سورة النساء آية 124، وفي سورة النحل آية 97، وفي سورة غافر آية 40. 2 نصوص من الأحاديث النبوية الشريفة والأمر ذاته أكده ثاني مصدر من مصادر التشريع الإسلامي وهو السنة، ففي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ». فالحديث صريح في تقرير أن صور الناس وهي متنوعة ومنها الذكورة والأنوثة لا ينظر الله إليها، أي إن نوع الجنس الإنساني ليس مناطتفضيل عند الله جل جلاله، ولا يقوم على أساسه ميزان الحق في الحكم على الناس وإنزالهم منازلهم التي يستحقونها، وإنما يكون الحكم عليهم بما في قلوبهم من إيمان وتقوى، وبما قامت به جوارحهم من أعمال صالحة. وهذا مقتضى العدل الرباني الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ فإن الأمور التي لا دخل لكسب الناس فيها، كالنوع أواللون، أو العرق أو اللسان، أو غيرها مما لا حول للمكلف في إيجاده، أو الانتساب إليه، أو دفعه عن نفسه، لا يجوز أن يكون معيارا للحكم به عليه؛ لأنهغير مسؤول عن وقوعه، فلا تزر وازرة وزر أخرى. وقد صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»، أي من أخره عمله وأنزله أسفل المراتب كما هو مقتضى دلالة العموم في لفظ "مَن"، لا ينتفع – ذكرا كان أو أنثى – بالانتساب إلى أسرة صالحة. ولنا في قصة نوح عليه السلام مع ابنه خير عبرة ودليل، وكذلك في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام مع أبيه، وأيضا في قصة لوط عليه السلام مع زوجته. ومن الأحاديث التي جاءت تؤكد مبدأ المساواة بين بني آدم فيما لا كسب لهم فيه رغم تنوع صورهم واختلاف مظاهرهم، ما قرره النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، والحج موسم هو أشبه بملتقى عالمي لجميع أبناء آدم على اختلاف طبقاتهم وأنواعهم، قال صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِىٍّ عَلَى أَعْجَمِىٍّ وَلاَ لِعَجَمِىٍّ عَلَى عَرَبِىٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى».فمناط الشرع الذي علق عليه التفضيل بين بني آدم هو قربهم من الله سبحانه وتعالى، وإنما يقرب المكلف من الله بصلاحه لا بنوع عرقه أو لونه أو جنسه، فما قيمة العرق أو اللون أو الجنس في ميزان الشرع إذا كان صاحبه فاسدا؟ وما مصلحة الشرع في تفضيل ذكر طالح على أنثى صالحة؟ 3 وإذا اكتفينا بهذه النصوص الشرعية التي سقناها لوفائها بالمقصود، فلا بد من الوقوف عند آية كريمة قد يظن بعضهم أنها تدل على أفضلية مطلق الذكر على مطلق الأنثى، وهي قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} [آل عمران: 36]، ولنا في تخطئة ذلك الظن الذي لا يقوم على أسس سليمة مساران يتعلقان بتحديد هوية القائل: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى). الافتراض الأول: إن القائل هو امرأة عمران، وهذا يقتضي أن التشبيه لم يأت على أصل قاعدته، فإن الأصل فيه أن يكون المشبه به أفضل من المشبه؛ أي إن الأنثى أفضل من الذكر، وهذا لا يستقيم مع سياق الآية سباقا، فامرأة عمران أو أم مريم تحسرت وأسفت لما رأت مولودها أنثى وليس ذكرا (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى)، وشعورها بالحسرة والأسف يعود إلى الوظيفة التي كانت تريد أن يضطلع بها مولودها، وهي تجريده لخدمة بيت الله، والذكر أقدر على الأنثى في القيام بهذه الوظيفة، وأفضل منها في ذلك، فالأفضلية هنا مقيدة وليست مطلقة، كأن أم مريم قالت: وليس الذكر في خدمة بيت الله تعالى كالأنثى، فهو أفضل منها في ذلك. ومن المعلوم أن الأنثى تعتريها أحوال في جسدها تبعدها عن البيت وخدمته، وقد تكون محل طمع الرجال في الزواج منها واشتغالها عن بيت الله بشؤون بيت الزوجية كما هو مقتضى العرف، وهي علة إضافية أخرى تمكن الذكور من التفوق على الإناث في تلك الوظيفة. ولو أن أم مريم تمنت أن يكون مولودها مقاتلا في سبيل الله لتحسرت لتفوق الذكور في القوة الجسدية على الإناث، وهذا لا يفيد بحال أن الذكر أفضل مطلقا من الإناث، وإنما الأفضلية ترتبط بمدى حسن أداء الوظيفة المطلوبة من الذكر أو الأنثى، ولو أن امرأة عمران تمنت على الله أن يكون مولودها برا بها لما تحسرت ولا أسفت لكون مولودها جاءت أنثى، فالأنثى في بر الوالدين كالذكر أو أفضل كما هو مشاهد في الغالب الكثير. الافتراض الثاني: إن القائل هو الله سبحانه وتعالى، وهذا يقتضي أن التشبيه أتى على أصل قاعدته، وأن المشبه به أفضل من المشبه، أي إن الأنثى أفضل من الذكر، ولكن ليس هو عاما في كل أنثى وذكر، بل خاص بمريم بنت عمران عليها السلام، فإن مقامها عند الله أعظم بكثير مما رجته أم مريم، فقد ارتبطت بها معجزة ولادة عيسى عليه السلام دون أب وكان رسولا من أولي العزم، وكأن الآية تريد أن تخبر بأن الذكر الذي تمنته امرأة عمران ليس كالأنثى التي رزقتها، فهي أفضل منه بكثير ولا مجال للمقارنة، وتكون الأفضلية هنا خاصة بأنثى معينة وليست عامة بجميع الإناث، فلا جنس الإناث أفضل من جنس الذكور، ولا جنس الذكور أفضل من جنس الإناث. وإذا تأملنا كلا المسارين فإنهما في الحقيقة يؤولان إلى المعنى نفسه، وهو أن التفضيل للذكر على الأنثى أو الأنثى على الذكر إن وجد فهو لا يعود إلى جنس الذكور أو جنس الإناث، فقد تقرر في الشرع أن الأصل فيهما التسوية، بعضهم من بعض، وإنما يعود إلى الدور الذي يؤديه كل منهما، أو التضحية التي يبذلانها، فحيث تكون التضحية أعظم من طرف على آخر، أو الوظيفة أعظم من طرف على الآخر يكون التفضيل. وبناء عليه، فإذا وجدنا في فروع الشريعة تفضيلاللذكر على الأنثى أو تفضيلا للأنثى على الذكر فذلك بسبب أوصاف لا تتعلق بالذكورة أو الأنوثة، وإنما بما يشير إلى الوظيفة أو التضحية التي كانت سببا في التفضيل، كما سيأتي توضيحه وضرب أمثلة له في المقال الثاني يعون الله. يتبع..