موضوع المرأة عموماً في التراث وفي المجتمعات العربية والإسلامية، من المواضيع المحببة إلي، فقد كان كتابي الرابع الأخير بعنوان " فقه المرأة". منذ شهرين تقريباً، ألقيت محاضرة في أحد منتديات دمشق، حول: أيهما أهم الإصلاح الديني الثقافي أم الإصلاح السياسي؟، انطلقت فيها من مثال أساسي. هو صدور مرسوم أميري بالكويت يسمح للمرأة الكويتية بدخول البرلمان، ثم عرض المرسوم على مجلس الأمة الكويتي المنتخب فتم رفضه. لقد رفض المجلس أن تدخل المرأة البرلمان. لقد ناديت في المحاضرة التي أشرت إليها بأن الإصلاح الديني الثقافي أهم كثيراً من الإصلاح السياسي. لأن ذكورية المجتمع مترسخة في العقل الاجتماعي العربي قبل أن تكون موجودة في الأنظمة السياسية. هناك خمسة مصطلحات بالفصحى في قواميس اللغة العربية تسيطر على العديد من جوانب حياتنا وسلوكنا، ليس لها أي وجود في كتاب الله تعالى، ولا في المراجع الدينية، هي: العرض، الشرف، المروءة، الشهامة، النخوة. فعند العرب الرجل له شرف والمرأة ليس لها شرف، والرجل له عرض والمرأة ليس لها عرض. بمعنى أن المرأة إن قامت بعمل مناف للأخلاق ذهب شرف أخيها وأبيها وانهدر عرضهما، أما إن قام الرجل بذات العمل فلا يتأثر شرف أمه أو أخته بذلك. فكيف يمكن والإسلام دين عالمي أن نسقط هذه المفاهيم على شعب مثل اليابان أو ألمانيا؟ في الوقت الذي لا وجود لها في قواميسهم ولا في فكرهم. وإن وجدت، فمعانيها ومدلولاتها تختلف عن مثيلتها عندنا. تلعب هذه المصطلحات – كما قلنا – دوراً أساسياً في حياة وسلوك جميع أفراد الشرائح والطبقات في المجتمع، بدءاً من زعيم الحزب الشيوعي ومروراً بزعيم القومية العربية وانتهاء بشيخ الأزهر. جميعهم أمام ما يتعلق بالمرأة يحملون العقلية البدوية. وبرغم كل شعاراتهم التنويرية أو التقدمية فموقفهم من المرأة واحد، زوجة وأبنة وأختاً وأماً. ومن هنا أذهب إلى القول بأنه دون إصلاح فكري ديني ثقافي، لا أمل لنا بتحقيق أي إصلاح سياسي. دون إعادة نظر في الثقافة السائدة، ودون الدخول في الخطوط الحمراء لمئات المحرمات التي تحكم حياتنا اليومية، دون تحليل لما أصبح اليوم عندنا من المسلمات، لا أمل لنا دون ذلك كله بتحقيق أي إصلاح سياسي. باختصار أقول: الفكر أولاً، والفكر ثانياً والفكر ثالثاً. المسلَّمات الوحيدة هي التي جاءت بكتاب الله تعالى، ولكن لما كان هذا الكتاب دليلاً إيمانياً وليس دليلاً علمياً يقبل به كل الناس، كالإحصائيات والنتائج المخبرية، فإن على أتباع الرسالة المحمدية أن يبرهنوا عملياً على مصداقية كتابهم، وهذا لا يتحقق إلا بالتفاعل المبدع بين العقل الإنساني والواقع الموضوعي من خلال النص القرآني، فإذا لم يحصل هذا التفاعل، فلا أمل لنا بحصول أي إصلاح. ثمة ثلاثة محاور في كتاب الله تعالى. الأول: الإقرار بذكورية المجتمع في زمن التنزيل، من قبيل الوصف وليس من باب الأمر بالذكورية أو تفضيلها كما توهم البعض. الثاني: الموقف القرآني من الذكر والأنثى. الثالث: تشريعات العلاقات الاجتماعية بينهما، في الزواج والطلاق والميراث والأحوال الشخصية وغيرها. في المحور الأول، يؤكد كتاب الله تعالى على أن المجتمعات الإنسانية عموماً والمجتمع العربي بشكل خاص، مجتمعات تسيطر عليها الذكورية، بقوله تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} النحل 57 – 59. وبقوله تعالى: {وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت} التكوير 8، 9. وبقوله تعالى:{أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً} الإسراء 40. في هذه الآيات وغيرها يوضح سبحانه أن الذكورية حقيقة اجتماعية قائمة في المجتمع العربي خاصة والمجتمعات الإنسانية عامة زمن التنزيل. المشكلة أن البعض فهم منها أنه تعالى يدعم الذكورية ويوصي بها، والبعض الآخر توهم أن الذكورية اختفت من المجتمع العربي بمجرد نزول الآية. أما على صعيد المحور الثاني وموقف التنزيل الحكيم من الأنثى والذكر، فنلاحظ أكثر الآيات تساوي بينهما في الثواب والعقاب والعمل والتكاليف. وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات 13. وقوله تعالى: {ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة} النساء 124. لابل إنه تعالى فضل الأنثى على الذكر مطلقاً، وذلك في قوله عن خبر امرأة عمران {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى} آل عمران 36. والطريف أن سيطرة الذكورية على المفسرين قادتهم إلى فهم الآية فهماً مقلوباً، فزعم البعض أن التفضيل فيها للذكر، وزعم آخرون أن التفضيل للأنثى، لكن العبارة من قول امرأة عمران لا من قول الله تعالى على لسان جبريل. والمعروف في اللسان العربي أن المشبه به أفضل من المشبه في وجه الشبه، فنحن نقول ليس الأعمى كالبصير ونقول ليس الجاهل كالمثقف. وأما على صعيد التشريعات الخاصة بالمرأة، فعلينا أن ننظر إليها ونفهمها بعيداً عن الروح الذكورية السائدة التي حكمت فهم المفسرين والفقهاء لها. وعلينا أن نبين القصد الإلهي من هذه التشريعات كما هو في التنزيل الحكيم، لا كما جاءت في التراث لأن هذا شيء، وذاك شيء آخر. فالله تعالى يقول: – {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت إيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} النساء 3. – {الرجال قوامون على النساء} النساء 34. – {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} النساء 34. – {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} البقرة 282. – {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} النساء 11. وسأكتفي من هذه التشريعات بآية النساء 34 التي تحكم مسألة التعددية الزوجية. دون أن ننسى أن النص في كتاب الله تعالى نص مفتوح، أما ما جاء في الفقه التراثي فنص غير مفتوح، محكوم بقيود ومؤثرات الزمان والمكان. للنظر مثلاً فيما جاء بالحديث النبوي عن المرأة: – عن عبد الله بن عمر قال: سمعت النبي (ص) يقول: إنما الشؤم في ثلاثة الفرس والمرأة والدار (صحيح البخاري 2646). – عن عائشة أنه ذكر عندها من يقطع الصلاة فقالوا: الكلب والحمار والمرأة، قالت عائشة لقد جعلتمونا كلاباً (صحيح البخاري 481). – أما مسلم فيروي حديثاً للنبي رقم 4459 يقول (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وامرأة فرعون). – عن أسامة بن زيد قال: قال: (ص): (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) (صحيح البخاري 4923). – في مسند الإمام أحمد 17102 يقول: بينما كنا مع رسول الله في هذا الشعب، قال: أنظروا هل ترون شيئاً؟ فقلنا: نرى غرباناً بينها غراب أعصم أحمر المنقار والرجلين. فقال: (ص): لا يدخل الجنة من النساء إلا من كان منهن مثل هذا الغراب بين الغربان. – عن أبي هريرة عن النبي (ص) أنه قال: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضباناً عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح. – عن أم سلمة قالت: قال: (ص): أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة (الترمذي 1081). – لا تصومن امرأة إلا بإذن زوجها (مسند الإمام أحمد 11335). – عن عمران بن حصين عن النبي (ص) قال: اطلعت في الجنة فوجدت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء. صحيح البخاري 3002). ولقد سألت بعض المتدينات المتشددات: لماذا الحجاب وكلكن في النار إذن؟!. – عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: لو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. (الترمذي 1079). – وفي الترمذي وأبي داوود والنسائي وابن ماجه أن النبي (ص) قال: خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها. وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها. – أما الإمام أبو حامد الغزالي فيقول في كتابه "إحياء علوم الدين": للمرأة عشر عورات إذا تزوجت ستر لها الزوج واحدة، وإذا ماتت ستر القبر عوراتها كلها. قد يقول البعض: أنت تروي أحاديث نبوية قد تكون صحيحة، وقد لا تكون. أقول: المعيار هنا ليس صحة الحديث أو عدم صحته، إذ حتى الأحاديث الضعيفة تعكس ما هو شائع وسائد، فواضع الحديث يتعمد كي يقبل الناس حديثه ألا يضع فيه ما هو غريب وغير مألوف، ومن هنا فهو مفيد لنا الآن لتأكيد ذكورية المجتمع في العصر النبوي سواء أكان صحيحاً قاله النبي، أم غير صحيح لم يقله. نأتي الآن إلى التعددية الزوجية، لنجد أن كل صحابة النبي (ص) تزوجوا أكثر من واحدة، عدا صحابي واحد هو أبو عبيدة عامر بن الجراح. نأخذ مثلاً العشرة المبشرين بالجنة فنرى أنهم تزوجوا تسعين امرأة. أبو بكر تسعاً، علي بن أبي طالب تسعاً، عمر بن الخطاب تسعاً، عبد الرحمن بن عوف عشرين، وهذا عدا ملك اليمين. ولما كان جيل الصحابة هو جيل " البروتوتايب " أي هو الجيل المعياري الذي يقاس عليه، فإن الفقهاء لم يروا في التعددية الزوجية أمراً شاذاً، بل وجدوه أمراً عادياً شائعاً فتساهلوا فيه إلى آخر درجة، وراحوا يبررون هذه التعددية الزوجية. قالوا للرجل أن يتخذ زوجة ثانية إذا كانت زوجته الأولى لا تنجب. ونحن نقول فماذا لو كان الرجل لا ينجب؟ وقالوا للرجل أن يتخذ زوجة ثانية إن كانت الأولى مريضة. ونحن نقول فماذا لو كان الرجل مريضاً؟ وقالوا للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع إن كان شبقاً، ونحن نقول فماذا لو كانت الزوجة شبقة؟ نأتي بعد هذا لننظر كيف جاءت التعددية الزوجية في كتاب الله تعالى. مع التأكيد على ما سبق إن قلناه من أن النص القرآني نص مفتوح غير مغلق على ذاته في تراكيبه، وعلى وجوب فهم معانيه من خلال خبرات واقعية حقيقية معاشة وليس من خبرات تاريخية زائلة لجيل مات، فعلينا أن نربط من خلال العقل بين النص والواقع، واقع الآن وليس واقع القرون الماضية. يقول تعالى: – {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيرا * وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} النساء 2، 3. اليتيم في اللسان العربي مفرد يدل على القاصر فاقد الأب صبياً كان أو بنتاً، أي القاصر الذي مات عنه أبوه وأمه حية. أما من ماتت أمه وأبوه حي فهو العجي، وأما من مات أبواه جميعاً فهو اللطيم. والأمر بنكاح المثنى والثلاث والرباع جاء في الآية جواباً لشرط هو الخوف من عدم الإقساط ليتامى. {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى — فانكحوا ما طاب لكم..} والقسط في اليتامى هو البر بهم. والمسألة في غاية الوضوح: أنا أريد أن أبر أيتاماً فماذا أفعل؟ ويجيب تعالى: تزوج أمهم الأرملة، وخذ أيتامها معها لترعاهم، فإن خفت ألا تعدل بين أولادها وأولادك في البر، فاكتف بزوجتك الأولى الواحدة وبأولادك منها، وكذلك الأمر إن خفت العيلة، أي كثرة العيال التي تمنعك من البر والإنفاق عليهم كما يجب. وهذا ما يحصل حين يلتزم الرجل بالزواج من ثانية وثالثة ورابعة ويضم أيتامهن إلى أولاده. ثم يعود تعالى في الآية 127 من سورة النساء ليقول: – {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتوهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط}. وليقرر إعفاء الرجل من صداق النساء الأرامل ذوات الأيتام المذكورات في النساء 3، في حال زواجه منهن براً بأيتامهن. لكن الروح الذكورية والانطلاق من الترادف عند المفسرين التراثيين قادهم إلى اعتبار أن القسط هو العدل، وأن العدل المقصود هو بين الزوجات، وأن يتامى النساء هم النساء اليتيمات، علماً أنه لايوجد نساء يتيمات في الأصل لأن اليتيم بالتعريف هو القاصر والنساء هن الإناث البالغات، وإذا جاز وجود نساء يتيمات جاز معه وجود رجال أيتام وهو محال. أما ما توهمه المفسرون من عدل بين الزوجات فقد أشار إليه تعالى في موضع آخر بقوله: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} النساء 129، أي عندما تتزوج امرأة ثانية وثالثة إكراماً لأيتامها فلا تدخل عليها كالضيف، وهذا كل المطلوب منك. وليس مطلوباً منك أن تعدل. ونفهم أن هذه الحالة بالذات غير قابلة لأن تنعكس. أي إذا ماتت امرأة رجل وقام بالزواج من أخرى بعدها، فهذه ليست تعددية. نقف أخيراً عند كلمة "النساء". فهي جمع مفرده امرأة أو مفرده (نَسيء) أي المتأخر. ونلاحظ هذين المعنيين في آيات سورة النساء. فهي من جانب أول أحكام تخص المرأة، وهي من جانب ثان أحكام تأخر نزولها، فلم تنزل على رسول قبل محمد (ص)، أي أنها سورة المتأخرات. فأحكام الإرث مثلاً جاءت في سورة النساء، وهي أحكام لم يسبق وجودها في أي من الرسالات السابقة. أما الأحكام التي كانت موجودة في التوراة وفي العهد القديم فلم ترد في سورة النساء، بل في سور أخرى كالبقرة والمائدة والأنعام، ففي الأنعام مثلاً (151، 152، 153) نجد الوصايا العشر التي نزلت في ألواح موسى. أما أحكام سورة النساء فلم ترد من قبل كما قلنا في أي من الرسالات السماوية. ولقد وردت كلمة النساء بمعنى جمع نسيء في بضع من المواضع بالتنزيل الحكيم. يقول تعالى {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والخيل المسمومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} آل عمران 14. وإذا اعتبرنا كما اعتبر المفسرون التراثيون أن النساء هنا جمع امرأة، وقعنا في مشكلة، إذ أن الآية تقول {زين للناس} والناس فيهم الذكور وفيهم الإناث، فكيف يتفق أن يزين الله تعالى للنساء حب شهوات النساء؟ وكيف ينسجم أن يضع تعالى النساء جنباً إلى جنب مع الخيل والأنعام؟ ألا يذكرنا هذا بحديث عائشة؟ الصحيح كما نراه هو أن المقصود بالنساء هنا جمع نسيء أي المتأخر، وهو ما نعنيه اليوم بكلمة "الموضة"، فكل الناس اليوم ذكوراً وإناثاً يشتهون "آخر موضة"، ويشتهون أن يكون لديهم مثلاً سيارة مرسيدس 2003 بدلاً من القديمة التي لديهم. ومن هنا نقول أيضاً أن تطبيق آية التعددية الزوجية الواردة في سورة النساء تأخر حتى الآن ولم يطبق. والسلام عليكم. محاضرة ألقيت في بيروت / لبنان مقر الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة بتاريخ 22 / 11 / 2002