مخلص الخطيب في الجاهلية كان تعدد النساء لرجل واحد، عادة اجتماعية عند العرب، الذين كانوا يمارسون وأد مولوداتهم (دفنهن وهنّ على قيد الحياة). مع مرور الزمن، ولضرورة الإنجاب واستمرار الحياة، أبقت القبائل وقتذاك حياة بعضهن، بيد أنهم استبدلوا عادة وأدهنّ بالتخلص منهن بوسيلة تعدد النساء لرجل واحد. كان مبرّر هذا الوأد هو شكّ الآباء في بناتهم فيما يخص الشرف، بدل القيام بتربيتهن على أفضل القيم التي كانوا يفتخرون بها شعراً ونثراً. استمرت ممارسة عادة تعدد النساء لرجل واحد، حتى نزول رسالة الإسلام التي منعت جذرياً وأد المولودات. كان معظم الرجال ممن اعتنقوا الدين الإسلامي الحنيف متعدّدي النساء، كونهم كانوا من عرب الجاهلية، باستثناء النبي محمّد (ص). فقد كان مخلصاً ووفياً لامرأته خديجة بنت خويلد التي آمنت به وجعلت منه أباً، فاعترف بجميلها ولم يُضف عليها ثانية. بعد وفاة أم المؤمنين السيدة خديجة، قام نبينا الكريم بممارسة هذه العادة. نزلت آيات الله تعالى، لتضع إطارا لهذا العرف، لكن العادة غلبت العبادة. رحل الرسول الكريم بعد أن تزوج أو تعايش مع اثنتي عشرة امرأة. لم تُفسّر آيات تعدد النساء في حياته، بيد أن ظاهرة تفسير القرآن تفاقمت بعد وفاته وخاصة في عهود الخلافات، وها نحن نراها تتطوّر ويُروّج لها منذ أكثر من عقديْن، من قبل مفسرين ودعاة ما أسميتهم ب نجوم الفضائيات. أغلبية المسلمين الساحقة لم يكذبوا التفسير "جاهز الاستعمال" المُقدّم لهم، وبعضهم الآخر الذي أراد فهم دينه ليتمكن من إقناع الآخرين، قام بتشغيل عقله ليصل إلى الفرق بين تعدد النساء وتعدد الزوجات، واعتمد مقولة : لفهم ما أُنزل في القرآن يجب الاعتماد على تفسير نصه استنادا على اللغة العربية وعلى الإمكانيات الفكرية العصرية الاستنتاجية باستخدام الاجتهاد، كأحد أعمدة الشريعة الإسلامية الخمسة. بفضل قراءاتهم المُتكرّرة لسورة النساء، توصّل معظمهم إلى أن تعدد النساء أو الزوجات غير مُباح، لكن قلة منهم تجرّأت على الإعلان عمّا توصلت إليه، فباتت تتساءل عن مبررات حصر تفسير آيات القرآن الكريم ب "علماء" قرون مضت، وما الذي يمنع من تفسير عصري مختلف عمّا تمّ تفسيره، كون شروط الحياة تتغير وتتطور، وكذلك عن مبرر الشك بنوايا من يفسرون في التطرّق ل موضوع مجتمعي بامتياز، ألا وهو تعدد النساء أو تعدد الزوجات. من العدل الاستنباط أنه وقتذاك لم تكن فكرة الزواج معروفة لدى الأقوام، والمفسرون المسلمون فيما بعد أعطوا للنساء اللواتي قبلن العيش التعددي مع رجل واحد اسم زوجات، ف كلمة زوج تعني ثاني أو آخر، بمعنى أن هنالك النفس الأولى والنفس الزوج (الثانية)، وقوله تعالى في الآية الكريمة من سورة النساء، واضحة بهذا الخصوص : يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ يه وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1). ألا يُفهم من هذه الآية أن الله تعالى خلق نفساً واحدة (آدم الرجل، من تراب)، وخلق من نفس آدم زوجاً له أي نفساً ثانية وهي (حواء المرأة) ؟ بمعنى أنّ الزوج ما كان بالمعنى المتداول في يومنا هذا، الذي يعيش مع زوجة أو زوجات بموجب عقد زواج، وتسجيل في دوائر السجل المدني والعدلي، التي لم تكن موجودة آنذاك. كان يتمّ الإشهار بالعيش المشترك بإعلان على الملأ، بين نفس الرجل وزوجها، أي بين رجل وامرأة. إن كان في هذا الاجتهاد الاستنتاجي خطأ، فكل الصدور رحبة لمعرفة اجتهادات عصرنا المقنعة بأن كلمات الزواج والزوج والزوجةومشتقاتها من متزوج ومتزوجة وزيجة وزيجات بمعناها اليوم، كان سائداً وقتذاك وأن اللغة لم تتطوّر. إنّ ما فُسّر من علمائنا في القرن الثامن أو العاشر أو بعد ذلك، ليس بالضرورة دقيقاً لغوياً أو مجتمعياً في وقتنا الحالي، فالمرجو من غير المتعمقين لغة ً وتحليلاً واستنباطاً عقلانياً، وكذلك من المتعلقين بلا تفكير ولا شروط بالسلفية والأصولية، الابتعاد عن التشدد برد سريع صعب الاستيعاب، أما من يجد نفسه على أفضل قدر من إجابة منطقية مقنعة مُبرّرة، فليتفضل بإثرائنا، دون الرجوع لآيات قرآننا الكريم أو أحاديث نبينا العظيم، بل يفعل وكأنه يتوجّه لإنسان غير مسلم بهدف دعوته للدخول في الإسلام عقلانياً ومنطقياً. ها هما الآيتان الكريمتان الثانية والثالثة من نفس سورة النساء : وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاّ تَعُولُوا (3) وهاهي الأسئلة التي تفرض نفسها : * هل كان مُبرر تعدد النساء آنذاك مرتبطاً بالحرص على اليتامى وعلى أمهاتهم ؟ * هل كان تعدد النساء في القرن السابع يعني تعدد الزوجات بمفهوم قرننا الحادي والعشرين ؟ * هل كان القصد من تعدد النساء كما نفهمه اليوم، أم كان الهدف منه نكاحاً لهن حفاظاً عليهن وحمايتهن تحت سقف محصّن ومضمون، يؤدي لإنجاب أجيال قادمة، تستمر بفضلها الحياة ؟ * هل يُفهم أن على "الرجال" : * إمّا نكاح امرأة واحدة احتراماً لإنسانيتها. * أو نكاح ما ملكت أيمانهم من جاريات وسبايا وأمهات يتامى... إلخ ؟ إنها أسئلة مفتوحة طُرحت وتُطرح باستمرار من طلاب وأصدقاء ومعارف عرب وغير عرب، مسلمين وغير مسلمين، وحتى في جلسات بين مثقفين مسلمين عصريين يهرعون وراء المعرفة الدقيقة والاجتهاد الأقرب للعقل والإنسانية. لا شك أن الإجابة على هكذا أسئلة، أمر في غاية الحرج والتخوّف من تخطي ما هو معهود ومُردّد من (نجوم الفضائيات). في حالات كهذه، يتمّ التذكيرً أن الحياة الزوجية تعني حياة مشتركة بين رجل وامرأة واحدة، وما هو أكثر من واحدة فمحرّم، إلاّ بشروط موت أو طلاق أو مرض عضال أو كما يُقال بسبب عقم في الإنجاب، وأن تعدد الزوجات مستحيل على الرجل، لعدم مقدرته على العدل، كون العدل لله وحده، وكما قال تعالى في هذا المضمار من سورة النساء : وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) يُلاحظ تراجع ظاهرة تعدد الزوجات، لحسن الحظ، في بعض البلدان وتكاثرها، لسوء الحظ، في البعض الآخر، خاصة في الأماكن الريفية النائية وفي أوساط الفقر حيث يعمّ الجهل، وعند الأثرياء المستغلين المستفيدين، بيد أنّ، تساؤلات تعبّر عن حاجة فهم وضع المرأة في ألفيتنا الثالثة، تفرض نفسها، وبالتالي القيام بحوار بين متمكنين من تقنية الحوار (دون هجوم ولا دفاع، فكلنا لسنا محامين نجيد الطعن والشتم وتلقّيهما). من وجهة النظر الخلقية الإنسانية، يمكن، بصراحة وشفافية وحرية تعبير "لا تضر ولا تهين"، تأكيد ما يلي : * مجرد تداول عبارة تعدد الزوجات هو إهانة للمرأة كإنسانة تشعر بالقرف والوساخة وعدم الطهر، حين يأتي بعلها للدخول بها، بعد أن زاول الجنس مع ضرّة لها أو أكثر، وهذا ما كان يُحكى بين النساء وما كان يُسمع من الأطفال. * تعدد الزوجات في عصرنا الحالي، هو إنزال من قيمة الرجل، تعطي عنه صفة حيوان جنسي لا يهتم سوى بشهواته التي لا تطول، دون أن يولي للحب والوفاء والعشرة والاحترام أي قيمة أو وقار. * ظاهرة نعدد الزوجات تقلّل من قيمة ومفعول الطلاق كأبغض حلال عند الله. أما من المفهوم الديني، فممّا تمّ ذكره من آيات كريمة، يمكن الاستنباط بيسر، أن تعدد النساء لرجل واحد، أمر غير مباح في الإسلام، كونه مرتبط بالعدل الذي لا يمكن لرجل حيازته. بالمقابل، هو ليس محرّماً لغياب آية كريمة تحرمه بوضوح، مثله كمثل الخمر المفروض تجنبه لأنه رجس من عمل الشيطان، رجس لا يختلف عن الكذب والنفاق والغيبة والنميمة والرشوة والفساد المنتشرة في بلاد العرب والمسلمين، فمصير المنافقين منصوص عليه في نفس سورة النساء : إن المُنافقين في الدّرْك الأسفل من النار ولن تَجد لهم نصيرا (145) أما مصير شاربي الخمر فهو بيد الله. وهنا لابد من النصح بالابتعاد عن شرب الخمر والمخدرات بكل أصنافها. كلنا نعي مدى جهل وتخدّر مجتمعاتنا العربية الإسلامية، كلنا نعايش النفوذ الذكوري المستأصل فيها، وكلنا نلمس مدى معاناة المرأة من عنوسة، ومن زواج مساوماتي باهظ الثمن، أو من حياة زوجية أليمة في حالات تعدد زوجات، وكلنا نفهم دون أن نحرك ساكناً مدى قسوة قبول الشابة أو المرأة لتعدد النساء، خصيصاً حين تحصل من قبل أثرياء يتوجهون غرباً أو شمالاً ليستغلوا فقر العائلات بأنواع زيجات، لا يقبلها رجل لابنته ولا أخ لأخته. المراد هنا، هو وضع اليد على الجرح لتحليل هذه الظاهرة بشكل عملي مجتمعي خلقي مادّي وديني، لا يُنقص من مكانة المرأة الإنسانة، ولا يجعلنا محط نقد ورجم ذاتي دائم بسبب تمسك بمظاهر غير مباحة وغير محرّمة، تُلهي يومياتنا وتبعدنا عن إجادة استعمال العقل والعلم والمعرفة والإبداع والاختراع التكنولوجي، لصالح تقدمنا وتقدّم وعينا ووعي أجيالنا وتحرير أنفسنا، وبالتالي إخراج من أخرجونا من ديارنا.