أمرنا الله عز وجل بالعمل، ورتب على هذا الأمر وعدا بأن يرى عملنا، ورسوله والمؤمنون، أي أن أعمال العباد ستعرض على الخالق سبحانه وسيراها رسوله والمؤمنون، وهذا يقتضي إحسان العمل، ومراقبة الله تعالى فيه، ومحاسبة النفس على التقصير، وحملها على الإتقان والإكمال والتجويد. فقال عز من قائل: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) [سورة التوبة الآية 5]. إن أعمال العباد لن تعرض فقط على الله تعالى، بل سيخبر سبحانه كل عبد بما عمل وحقيقة ما عمل، ومقاصد ماعمل، لأنه وحده يعلم السر وأخفى، ويحيط بعالمي الغيب والشهادة. لكن ماهي طبيعة العمل المطلوب في الإسلام؟! فالإنسان من حيث هو لايخلو من عمل يعمله، فهل تستوي الأعمال؟! نجد الجواب عن هذا السؤال في مثل قول الله عز وجل: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودّاً) [ سورة مريم الآية 96]، وقوله: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون) [سورة النحل الآية 97]، وقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) [سورة البينة: الآية 7]. إذن فالعمل، في الإسلام، لايعتبر إلا إذا كان مقيدا بقيد الصلاح. إذ لأجل الصلاح والإصلاح شرعت الأعمال، وكان الثواب الإلهي عليها في الدنيا والآخرة. ولايصلح العمل إلا بأمرين لابد منهما: 1) الإخلاص لله عز وجل فيه، وهذا يستلزم إحسانه وإتقانه. 2) موافقة الشريعة، فكل عمل تعارض مع شرع الله لم يكن صالحا ولامقبولا. بدليل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد». وإذا علم العبد أنه مطالب يوم يلقى ربه بالإجابة عن هذا السؤال: ماذا عمل؟ فلا شك أنه سيسارع إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات، وإحسان الأعمال، والإخلاص فيها لله تعالى وابتغاء مرضاته. وهنا تنبعث في قلبه المراقبة والمحاسبة الداخلية الذاتية، خاصة وهو يسمع قول الله سبحانه: (لينظر كيف تعملون) [سورة الأعراف 129]. يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (سورة الزلزلة: الآيات 6 8). (وما الله بغافل عما تعملون) (سورة البقرة: الآية 85) فالثواب والعقاب مترتبان على طبيعة الأعمال ومقاصدها فمن أحسن كانت له الحسنى وزيادة، ومن أساء فإنما يُسيء لنفسه، والله الغنيّ ونحن الفقراء. قال الله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه». [رواه مسلم]. والثواب الإلهي على العمل الصالح من العبد المؤمن هو الجنة والرضوان: (وتلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) [سورة الأعراف الآية 43]. بهذه الرؤية الإسلامية القويمة كان العمل في ديننا الحنيف صنو العلم وثمرته، وبصلاحه يصلح العمران، وتزكو النّفس، ويزدهر المجتمع، وتُرفَعُ العبادة. «والعملُ الصّالح يرفعه» [سورة فاطر، الآية 10]. وإلاّ خرب العمران، وانحطّت النفس، وتدهور المجتمع، ولم تُرفع العبادة. ومن ثم، كذلك، كان العمل في الإسلام سبيل الأمّة الإسلامية لتحقيق رسالتها، المتمثلة في الشهود الحضاري: «كنتُم خير أمّة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله» «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً» [سورة البقرة: 143] فالعمل سبيل الشهود الحضاري الإسلامي المستمّر، لأنه سبيل التزكية الرّوحية والعقلية والمادية لأفراد الأمّة، ولايمكن للأمة الإسلامية أن تؤدّي رسالة شهودها إلا إذا كانت أعمال أفرادها ومجتمعاتها صالحة. وحيث يغيب العلم الصحيح، يغيب العمل الصّالح المشروع، لأن العمل ثمرة العلم، ورحم الله الإمام أبا إسحاق الشاطبي القائل: «العلم المعتبر هو العلم الباعث على العمل». وحيث يغيب العمل الصّالح، تسود البطالة الفكرية، والنّفسية، إذ لا ينبغي أن يخلوا وقتُ المسلم من عمل - خلا أوقات الرّاحة المعتدلة - ينفع به نفسه ومجتمعه. فأصدق الأسماء - كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم - حارث وهمام. لابد للإنسان أن يعمل، ولابد أن تكون له همة. ولايقبل الفراغ، ولا ما يسميه البعض بلا مبالاةٍ «تجزية الوقت». فهل يضيع العاقل لحظات حياته التي يمكنُه أن يغنم فيها خير الدنيا والآخرة إن عمل بما دلّه عليه القرآن الكريم والسنّة النبوية، وأخلص لله عز وجل؟! إن الدنيا دار عمل لاجزاء، والآخرة دار جزاء لاعمل.