في البدء ما كان يدور في خلدي أن أخط أسطرا على كتاب "الإمام مالك والمذهب المالكي" للدكتور أحمد كافي، لأنني هممت بقراءته كغيره من الكتب التي أقرأها من باب التعلم والمعرفة. لكن وأنا أمضي في تتبع مضامينه مستمتعا، أخذني الكتاب ولامس شغاف قلبي، فلم أفارقه حتى أتيت على ختامه. وقلت من حق هذا الكتاب عليّ أن أُشير إلى بعض دُرره ومعارفه العذبة الرائقة. فالكتاب الصادر عن قسم الإنتاج العلمي والفكري لحركة التوحيد والإصلاح سنة 2020، ضمن سلسلة الاختيارات المذهبية المغربية، تميز بالاختصار مع كثافة المضامين النافعة المفيدة. بالإضافة إلى مميزات أخرى نجملها في الآتي: تناسق منهجي متكامل: إذ القارئ للكتاب من أوله إلى آخره يتراءى له الإمام مالك من خلال ما اتصف به من صفات وخلال حميدة. كما يقف على أصول المذهب المالكي وأعلامه العظام، ومجتهديه الكبار، مُلقيا نظرة عن أهم قضايا المذهب الخلافية والاجتهادية…كل ذلك في تناسق منهجي يحقق مقصود الكتاب، من دون إطناب ممل، ولا شعور بحشو في الكلام بلا فائدة. لذلك لم يكن الدكتور أحمد في حاجة إلى فصل لترجمة الإمام مالك، أو التعريف بأصول المذهب المالكي، وأعلامه، ومصنفاته..لأن كل ذلك تجده في الكتاب من خلال قضاياه المبثوثة فيه. فهذا الإمام مالك تتعرف على أدبه ومواقفه، من خلال مقالات مختصرة تحمل عناوين ذات معان ودلالات مُيسّرة لاستنتاج المقصود بلا التواء أو دوران. ومن ذلك: "الإمام مالك وتقبيل الأيدي"، "الإمام مالك وشيوخ الغرر"، "الإمام مالك ومشروعية الحكم"..وفي ثنايا كل ذلك تجد الدكتور مُصحِّحا ومُوجها، يصحح ما شاع عند الكثيرين من أن الإمام مالكا كان من المقلِّين في الفتاوى، والدليل على ذلك ما توصل إليه الباحثون من إحصاء لمسائل الإمام مالك التي بلغت ثلاثا وثمانين وخمسمائة مسألة. ولذلك رفع الخلط الذي يقع فيه البعض، من كون الإمام مالك كان لا يقبل على الإفتاء على المسائل التي لم تقع "ذروها حتى تقع"، متخذا ذلك منهجا صارما بعدم التجرؤ على الاستفتاء من دون حاجة. لكن هذا لم يكن يعني البتّة أن مالكا كان مُقلا في الفتوى، فلم يكن يتهيب الجواب عن المسائل تهربا أو تورُّعا كما قد يفهم؛ وإنما إحاطة بوقائعها الدقيقة، وإلماما بمعطياتها التفصيلية. وهذا هو المطلوب حتى تحقق الفتوى مقصودها، ولا تُستغل من قبل من كان في قلبه مرض، أو من أراد مُسوغا لاتباع هوى النفس. جمالية الأسلوب ونفاسة العبرة: تميز الكتاب بجمالية الأسلوب، ورشاقة العبارة، وفصاحة البيان مع الإتقان. لغة عربية فصيحة مبينة، لكن من دون أن تشعر بتقعر في الكلام وتكلفه، لأن مقصد الكتاب أكبر وأعم، مهموما باستخلاص الدروس والعبر. بنفس من التزكية والتوجيه، ومن ذلك تأكيده على الإخلاص في طلب العلم، والتخلق بأخلاق أهل العلم، من تواضع وحسن معشر، متعرضا لعلماء السوء، المحبِّين للدنيا وزينتها، البائعين لسلطتهم العلمية لمن يدفع ويُغري..لذلك تجد الدكتور أحمد كثيرا ما عاب على نوع من العلماء اختاروا المداهنة والسكوت عن الحق، خوفا من انقطاع العطايا والهدايا.. قبول الاختلاف ونبذ التعصب: وهذا نجده نفسا عاما في الكتاب الماتع، ابتدأه الدكتور من الفصول الأولى المعرفة بالإمام مالك واختياراته ومواقفه، وصولا إلى تقديم نماذج لحسن تدبير الاختلاف المذهبي؛ بل إن الدكتور وجّه البحث إلى قضية مهمة، وهي ضرورة إيلاء العناية لآراء وفتاوى أعلام المذهب المالكي المخالفة للمذهب أو الإمام مالك. ولم يكن الأستاذ كافي مدعيا قوّالا فقط في هذا الطرح، بل قدم نماذج لقبول الاختلاف، الذي لا ينبغي أن يفسد للود قضية. ومن ذلك: الاختلاف في قراءة القرآن جماعة في المذهب المالكي، وترجيحه للجواز. مسألة القبض في الصلاة في المذهب المالكي، وترجيحه للقبض اعتمادا على الأحاديث الصحيحة الواضحة.. وعلى العموم، فإن الكتاب يُوجّه النظر إلى قبول الاختلاف ونبذ التعصب المقيت، وخاصة إذا تعلق بالفروع والجزئيات الخلافية، فإن "القول بالقطع في مسائل الخلاف ليس من صنيع أهل العلم". وفي أحيان كثيرة يكون الباعث على التمسك بالرأي والميل له هو الانتصار للمذهب، وإن تعارض مع الأحاديث الصحاح. لذلك كان التوجيه إلى بيان خلل المنهج المعتمد من قبل هؤلاء المتعصبين، المنتصرين لمذاهبهم على حساب الحق الساطع، والحق أولى وأرجح. وإجمالا، فإن الكتاب ماتع في بابه، مُحقق لمقصوده، حمّال لأوجه البيان والتوجيه، داعيا إلى نبذ التقليد والتعصب المذهبي، مرحبا بالاختلاف والتجديد، ناقما على علماء السوء، الساكتين عن الحق ابتغاء الدنيا الفانية..مُقدما لنموذج العالم العامل، المُهتم بواقعه غير غافل الاهتمام بنفسه ومظهره، المُتجمِّل بالتواضع، الناصح لأمته، بكل جرأة وقوة لا يخاف في الله لومة لائم…وبذلك تُسترجع هيبة العلماء وسلطتهم المرجعية، القائدة لأمة الإسلام إلى بر الأمان.