أما التدليس فله معنيان، معنى تعرفه العرب في لغتها، ومعنى يعرفه المحدثون في اصطلاحهم. والقول بأن التدليس يقع من الصحابة إنما يجب إرفاقه بتحرير معنى الكلمة بين المفهوم اللغوي والاصطلاحي، وإلا عدَّ ذلك تدليسا من المتكلم! أما الصحابة فلا يتصور وقوع التدليس الاصطلاحي منهم أصلا لأن الصحابة كلهم عدول وهذا يرفع جانب القصد، ولأن روايتهم مقبولة بإجماع الأمة وهذا يرفع جانب الجهالة. بل إن علماء الحديث يرفعون الروايات الموقوفة على الصحابة حكما إذا كانت مما لا يُعرف إلا بالوحي، فإذا تكلم الصحابي بكلام لم يذكر فيه واسطته إلى الوحي وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلناه على أنه كلام الوحي، فإذا أسقط الواسطة بينه وبين الرسول رددناه؟!! وإذا فإسقاط الصحابي لواسطته مرفوع بعدالة الصحابي وقبول روايته. وإلا لما اطمأننا إلى شئ من الدين. وجميع الذين ينتقدون الصحب الكرام إنما يقلبون الحق باطلا ويأتون الأبواب من ظهورها ويضعون العربة أمام الحصان لأن عدالة الصحب أصل وليس فرعا، أصل أوجبته النصوص الإلهية والضرورة العقلية، والأصل لا يهدمه الفرع، فعدالتهم سبب قبول روايتهم والطعن في روايتهم لا يمكن أن يكون سبب إنكار عدالتهم لأن الفرع لا يستدل به على إبطال الأصل، بل الطعن في روايتهم مردود بعدالتهم، والانتقال من الأصل إلى الفرع حجة الأغبياء وعادة المغرضين وغاية الجهال والمجانين الذين أرادوا هدم صرح هذا الدين بذاك الغثاء المشين، هم كأطفال أشقياء يخمشون الجبال بأظفارهم ويبصقون عليها من لعابهم يريدون هدمها وإغراقها زعموا. فالتدليس نعم يقع من الصحابة، كما كان يقع منهم الكذب، والمقصود من هذا وذاك ما تعرفه العرب من لغتها لا ما يعرفه المحدثون من اصطلاحهم. وأما لومهم على مخالفة قواعد المحدثين فمردود بعلو سندهم لأن اصطلاح المحدثين إنما وضع أساسا لمعالجة إشكالية السند.. وهؤلاء لا سند لهم بل أخذوا الوحي مشافهة وهم السند، وهم لبعضهم سند واحد، فرواية الواحد منهم عن مثله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كروايته عنه صلى الله عليه وسلم أصالة. هذا كله معلوم ضرورة وطبيعة. والنقول التي ينقلها الحمقى والمغفلون في هذا تدل بنفسها على هذا، فترى فيها مثلا أن المحدثين لا يطلقون هذا الوصف على الصحابة، وتعليل إعراضهم عن هذا بالتأدب معهم تعليل مقبول لأنه يقضي بأن المحدثين إنما يرفعون الصحابة فوق مستوى الشبهة فيرون أنهم لا يقعون في التدليس الحديثي فيتأدبون حتى عن وصفهم بالتدليس اللغوي، بينما لو كان الصحابة يقعون في التدليس الاصطلاحي لما جاز التأدب معهم بل وجب التحذير منهم وتكذيبهم في أمر الدين كله، ولو امتنع أهل الحديث عن إظهار هذا التدليس المذموم لما عُدَّ ذلك تأدبا بل غشا للأمة وتضليلا لها، ولو صدر ذلك منهم لكان جرحا لهم ومسقطا لشهادتهم فلم تكن لتصلح للطعن في الصحابة. فعلى أي وجه حملت كلامهم في الصحابة تبين لك أنه لا يقدح فيهم ولا يسئ إليهم. فالحمد لله على مثلهم.