هوية بريس – د. قاسم اكحيلات* قال يعقوب بن سفيان: "التدليس أمر قديم" (تاريخ دمشق). وقد عرف عن كثير من التابعين رحمهم الله، وقد قال البعض أن التدليس كان معروفا منذ زمن الصحابة. قال الذهبي رحمه الله: "تدليس الصحابة كثير، ولا عيب فيه، فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول" (سير أعلام النبلاء). وقال ابن حجر: "واعلم أن التعريف الذي ذكرناه للمرسل ينطبق على ما يرويه الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مما لم يسمعوه منه وإنما لم يطلقوا عله اسم التدليس أدبا على أن بعضهم أطلق ذلك" (النكت على مقدمة ابن الصلاح). وأشهر من وصف بهذا أبو هريرة رضي الله عنه، وأقدم كلام في هذا المنسوب لشعبة رحمه الله قال: "أبو هريرة كان يدلس". (تاريخ دمشق). وقدا طار فرحا بهذا الكلام بعض من أراد الطعن فيه رضي الله عنه ونسب التدليس إليه، قال محمود أبو رية: "وذكر علماء الحديث أن أبا هريرة كان يدلس.. وحكمه -أي التدليس- مذموم على الإطلاق.. ومن الحفاظ من جرح من عرف بهذا التدليس من الرواة فرد روايته مطلقا. وإن أتى بلفظ الاتصال" (أضواء على السنة المحمدية). سبحانك هذا بهتان عظيم "فادعاء أبي رية أن هذا تدليس ونقله ما قاله العلماء عن التدليس والمدلسين إنما هو التدليس بمعناه الصحيح، ولئن كان التدليس في علم الحديث بمعناه المصطلح عليه عندهم لا يسقط صاحبه عن رتبة العدالة ولا الثقة، وكان من المدلسين كبار أئمة الحديث، فإن تدليس أبي رية يسقطه عن رتبة «العلماء المحققين» وينتزع الثقة بفهمه بعد انتزاع الثقة بأمانته.. وهكذا يتهافت المبطل ويكثر عثاره". (السنة ومكانتها). والحقيقة أن تاريخ التدليس إنما يعود لعصر التابعين لا الصحابة، وما ذكره الذهبي رحمه الله وابن حجر، إنما تبعا لكلام شعبة، قالاه بعد ذكر كلامه. ويجاب عن كلام شعبة بثلاثة أجوبة: – الأول: أن الكلام مصحف، فالمقصود هو أبو حرة فتحرفت على بعضهم فقرأها أبو هريرة وأبو حرة معروف بالتدليس كما تراه في طبقات المدلسين لابن حجر. (الأنوار الكاشفة). – الثاني: أنه يعني إسقاط الواسطة وهو منقول عن كثير من المتقدمين. قال الزركشي: "وأما ما رواه ابن عدي في كامله عن يزيد بن هارون قال سمعت شعبة يقول أبو هريرة كان يدلس فإنما أراد به إسقاط الواسطة بينه بين النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان". (النكت). – الثالث: والذي لا يحتاج لتخمين ولا تأويل، وهو أن الرواية أصلا لا تصح عن شعبة، فهي مسندة عند ابن عدي في الكامل ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق:" أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي أنا أبو القاسم بن مسعدة أنا حمزة بن يوسف أنا أبو أحمد أنا الحسن بن عثمان التسترى نا سلمة بن حبيب قال سمعت يزيد بن هارون قال سمعت شعبة يقول أبو هريرة كان يدلس". قلت: هذا سند باطل، فالحسن بن عثمان التستري ذاك هو بن زياد بن حكيم، أبو سعيد، التستري، قال فيه ابن عدي وهو من روى له الخبر: "كان عندي يضع، ويسرق حديث الناس. سألت عبدان الأهوازي عنه فقال هو كذاب". (الكامل في الضعفاء). ووجه المنع من إطلاق التدليس: أن التدليس يضم أحوالا لا تنطبق على الصحابة رضوان الله عليهم وهي خمسة: – الأول: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه وذلك مقارب للإخبار بالسماع ممن لم يسمع منه. وهذا منتفي فيما يتعلق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الإيهام إنما نشأ عقب حدوث الفتنة فمن حينئذ التزم أهل العلم بالإسناد فأصبح هو الغالب حتى استقر في النفوس ، فعن ابن سيرين، قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم". (مقدمة صحيح مسلم). – الثاني: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال وذلك بخلاف موجب الورع والأمانة. ولا ينطق هذا على الصحابة، فلا ضرر في الاحتمال مع الوثوق بأنه إذا كان هناك واسط فهو صحابي آخر وهم كلهم عدول. – الثالث: أن المدلس إنما لم يبين من بينه وبين من روى عنه لعلمه بأنه لو ذكره لم يكن مرضيا مقبولا عند أهل النقل فلذلك عدل عن ذكره. وهذا أيضا لا ينطبق على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يكن أحد منهم يرسل إلا ما سمعه من صحابي آخر – يثق به وثوقه بنفسه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أحد منهم يرسل ما سمعته من صبي أو من مغفل أو قريب العهد بالإسلام أو من مغموص بالنفاق أو من تابعي. – الرابع: أنه إنما لا يذكر من بينه وبين من دلس عنه طلبا لتوهيم علو الإسناد. وهذا كالأول. – الخامس: الأنفة من الرواية عمن حدثه. وهذا أيضا لا يعرف عنهم رضوان الله عنهم ولم يكن من شأنهم". (راجع الكفاية للخطيب). قال الزركشي: "ولا ينبغي إطلاق مثل هذه العبارة في حق الصحابة رضي الله تعالى عنهم وإنما ذلك إرسال". (النكتب). وقال أبو زهو:" ولا ينبغي أن يعد حذف الصحابي الذي سمع الحديث، ولقنهم إياه من قبيل التدليس إذ الصحابة كلهم عدول بإجماع أهل الحق". (الحديث والمحدثون). فالتدليس كما بينا لم يعرف عن الصحابة رضوان الله عليه، وإنما كانت بدايته من عصر التابعين، قال القاضي عياض: "وقد كان هذا من عصر التابعين. إلى هلم جرا، وذكر ذلك عن جماعة من جلة الأئمة، ولم يضر ذلك حديثهم؛ لصحة أغراضهم وسلامتها، وأضر ذلك بغيرهم". (المعلم بفوائد مسلم). والله من وراء القصد. * خريج دار الحديث الحسنية، وعضو بموقع الإسلام سؤال وجواب. [email protected]