(1/2) بدأت حركة الكذب على رسول الله في حياته، فكان المنافقون ينسبون إليه ما لم يقل أو يفعل، لذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: "إنَّ كَذِباً علَيَّ ليسَ ككَذِبٍ على أَحدٍ، مَن كذَبَ علَيَّ متَعمِّداً؛ فلْيتَبوَّأْ مقعَدَهُ منَ النارِ". فالحديث يتصل بما كان موجودا زمن النبوة من كذب وتحريف، وهذا مثال على وجود الوضع والكذب أيام النبوة: عَنْ مُعَاوِيَةَ بن حيدة قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا مِنْ قَوْمِي فِي تُهْمَةٍ فَحَبَسَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَا تَحْبِسُ جِيرَتِي؟ فَصَمَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّكَ لَتَنْهَى عَنِ الشَّرِّ وَتَسْتَخْلِي بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَقُولُ؟» فَجَعَلْتُ أَعْرِضُ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ مَخَافَةَ أَنْ يَسْمَعَهَا فَيَدْعُو عَلَى قَوْمِي دَعْوَةً لَا يُفْلِحُونَ بَعْدَهَا، قَالَ: فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فَهِمَهَا فَقَالَ: «قَدْ قَالُوهَا؟» وَقَالَ: قَائِلُهَا مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُ لَكَانَ عَلَيَّ وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ، خَلُّوا لَهُ عَنْ جِيرَانِهِ. ( رواه عبد الرزاق وأحمد وأبو داود والحاكم والطبراني ، وحسنه الألباني والأرنؤوط ). قلت: القائل المعترض على رسول الله بتلك الطريقة السيئة، هو مالك بن حيدة أخو معاوية، وكان حديث العهد بالإسلام. ومحل الشاهد هو أن بعض "الناس" كانوا يشيعون عن الرسول أنه يقول ما لا يفعل، ولا شك أنهم المنافقون بالدرجة الأولى. وإذا كان تحديث الراوي عن شيخه بما لم يسمعه منه مباشرة نوعا من التدليس، فإن كثيرا من الصحابة يقعون في التدليس، حيث كانوا يسمعون الخبر من غيرهم، ثم يحدثون به عن رسول الله دون تصريح بالسماع. وتأدبا مع الصحابة، يسمى هذا إرسالا لا تدليسا، لأن الصحابة في رأي العلماء لا يحدثون إلا عن أمثالهم. وهذا خطأ من وجهين: الأول: المعاصرون لرسول الله لم يكونوا كلهم مؤمنين، ففيهم المنافقون أيضا. الثاني: ثبت عن كثير من الصحابة أنهم رووا عن التابعين خصوصا مسلمة أهل الكتاب مثل كعب الأحبار الذي روى عنه ابن عباس وأبو هريرة وابن عمرو وغيرهم. وإذا اتفقنا على أن الكذب بدأ مع المنافقين، وعرفنا أنهم لم يكونوا معينين معلومين، أدركنا أن مجموعة ممن كانوا محسوبين على الصحابة إنما هم في حقيقة الأمر منافقون. وهذه الفئة كان بمقدورها أن تختلق الأحاديث فتستغفل بعض الصحابة والتابعين، الذين يسمعون الخبر من المنافق المحسوب على الصحابة فيصدقونه، ثم يروونه دون تسمية راويه المنافق على سبيل الإرسال. والإرسال هو أن يروي الصحابي عن رسول الله ما لم يسمعه منه، حيث يكون سمعه من صحابي آخر فاطمأن إليه وصدقه، وهذا يفعله من تأخر إسلامهم كأبي هريرة، وكذلك صغار الصحابة كابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، فتجدهم يروون وقائع من السيرة لم يحضروها وأحاديث لم يسمعوها مباشرة. والنوع الثاني من الإرسال هو أن يروي التابعي حديثا دون ذكر الصحابي الذي حدثه به، وربما يكون سمعه من تابعي آخر فيسقطه هو والصحابي معا. إن الإرسال كان ظاهرة متفشية بين الصحابة والتابعين، يعرف هذه الحقيقة صغار الطلبة قبل العلماء، وكانوا يمارسونه لأسباب مختلفة، بعضها مبرر ومعقول، وسائرها سبب في فشو الموضوع المرذول. لقد كان القوم أميين بسطاء العقول في الغالب، وكانوا رحمهم الله جاهلين بأعيان المنافقين، غافلين عن حقيقة المندسين من اليهود والزنادقة الملحدين، وكانوا لا يعرفون الكذب ولا يتصورون جرأة غيرهم على اختلاق الأحاديث، لذلك كان يسهل خداعهم وتمرير الموضوعات عليهم. والتصور الذي نملكه عنهم، بعيد عن الواقع والحقيقة، فلم يكونوا عباقرة دهاة كما نعتقد، ولم يكونوا رحمهم الله عارفين بحقائق القرآن كما نتخيل، فقلة قليلة هي التي كانت تحفظه وتعرف أسراره، فنسخ المصحف لم تكن منتشرة إلا بين العارفين بالقراءة، لذلك تجد صحابيا أو تابعيا كبيرا يروي حديثا مناقضا لكتاب الله، يدرك ذلك المبتدئون بعد تدوين العلوم الشرعية واسقرارها. إننا لا نعمم، فهناك قلة من الصحابة والتابعين كانوا أذكياء عباقرة، وكانوا يحفظون كتاب الله ويعرفون مضامينه، ويحتاطون من المنافقين ومسلمة أهل الكتاب، فكانوا يعرضون ما يسمعون من أخبار على القرآن والعقل والسنة المتواترة، فإذا وجدوها موافقة لكل ذلك قبلوها وصدقوها، وإلا طرحوها ولو كان راويها صحابيا مشهورا موثوقا، وكان شعارهم: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول راو لعله يكون ناسيا أو مخطئا في الفهم"، ويقصدون بسنة النبي ما تواتر عنه واشتهر بين الناس من غير خلاف ولا نكير. وكانوا يعملون بقوله عليه السلام: " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه". (رواه أحمد وابن سعد وابن حبان والبزار والطحاوي، وصححه ابن كثير والأرنؤوط، وحسنه الألباني، وضعفه آخرون، والصواب ما قاله الألباني). إن الإقرار بما قلناه هنا يساعدنا على فهم سبب وجود أحاديث صحيحة الأسانيد إلى بعض الصحابة وكبار التابعين، لكنها منكرة المتون، علامات الوضع بادية عليها بالنسبة إلينا. ومنهجنا أن نرد كل حديث يخالف كتاب ربنا، أو ما تواتر من سنة نبينا، أو العقل والعلم نعمة ربنا، ولو صح إلى صحابي كبير، وهذا هو الحق والصواب، وهو محل تسليم بين العلماء على مستوى التنظير، لكنهم يتهيبون ويستحون أو يغفلون عند التطبيق والتنزيل. المحدثون سبقوا الغربيين للإساءة إلى رسول الله: عندما ينتج غيرنا عملا تمثيليا أو رسما يصور النبي عليه السلام رجلا مهووسا بالجنس، تتعالى الأصوات الغاضبة بالنكير، ويسارع الحمقى إلى الإرهاب والتفجير، ويتجاهل الجميع أن تراثنا هو مرجع ومستند الحاقدين على البشير النذير. إننا نحزن كثيرا لأي إساءة توجه إلى رسولنا العظيم، لكننا نحمل المسئولية بالدرجة الأولى لتراثنا في جانبه السقيم. إن المحدثين يروون أخبارا منكرة تقدم الرسول العابد الزاهد في صورة زير النساء المكبوت المشتعل الشهواني، ويعتبرون تلك الأخبار الملفقة الشاهدة على بساطة عقولهم مناقب ومعجزات تؤكد نبوة المصطفى عليه السلام. إنهم يتهيبون من تخطئة رواتها من الصحابة وأئمة التابعين، ويستحون من نسبة الغفلة والنسيان إليهم، ويستبعدون أن يكونوا سمعوها من الدجالين والحاقدين، لذلك يصححونها ويروجونها دون نظر في عواقبها. ومن جهة أخرى، فثقافة القدامى تقدس الفحولة الجنسية، وتراها علامة العظمة والجلال، وتعتبر البرودة الجنسية خللا وعيبا في الرجال، وتجعل الزهد في الجماع منافيا للكمال. وهذه الفكرة كانت محل تسليم عند العرب والعجم. ولما كان الرواة والمحدثون أبناء ثقافة مجتمعهم، فإنهم لم يروا في تصديق ورواية ما ينسب إلى رسول الله حرجا وسوء أدب، بل ظنوا أنهم يحسنون صنعا رحمهم الله وغفر لهم. إن القوم يحبون رسول الله حقا وصدقا، لا نشك في ذلك ولا نماري، لكننا لن نتهيب أو نداري، فتعظيم رسول الله وتنزيه مقامه أولى شرعا وعقلا. وعليه، فكل خبر ينسب إلى رسول الله سلوكا جنسيا لا يليق بمقامه الشريف، هو مكذوب موضوع أو محرف من قبل أحد الرواة الذي قد يكون صحابيا. ونستطيع أن نجزم بأن أي حديث مسيئ لرسول الله، هو حديث معلول في سنده قبل متنه، والجرأة في التحقيق تكشف ذلك، ومن الجرأة الشك في ضبط وحسن فهم كل الرواة، ولو كانوا صحابة أو أئمة كبارا. وبين أيدينا حديث مخرج في صحيح مسلم وغيره، صحته محل تسليم عند الفقهاء والمحدثين، لكن متنه شديد النكارة وسنده مختل معتل. نص الحديث المسيئ: روى أَبو الزُّبَيْرِ محمد بن مسلم المكي عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً فأعجبته، فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهْىَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: « إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِى صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ ». في رواية: أبو الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصر بامرأة فرجع، فدخل إلى زينب فقضى حاجته، ثم خرج على أصحابه فقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فمن أبصر منكم من ذلك من شيء فليأت أهله فإن ذلك له وجاء. وفي ثالثة: أبو الزبير عن جابر قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، إذ مرت به امرأة فأعجبته، فقام فدخل على زينب بنت جحش فقضى حاجته، ثم خرج فقال: إذا رأى أحدكم مثل هذا فليأت أهله، فإن المرأة تقبل في صورة شيطان وتولي في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد مما في نفسه. مصادر الحديث: مسند أحمد بن حنبل، وصحيح مسلم أرقام 3473 و3474 و3475، وسنن أبى داود، وسنن النسائي، وسنن الترمذي، والمعجم الكبير للطبراني، ومسند أبي عوانة، وسنن البيهقي وشعبه، والمستخرج على صحيح مسلم ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني. هذا الحديث المصحح من جملة الأحاديث التي سببت إشكالا لدى علمائنا، فعوض أن يضعفوه لنكارته، راحوا يؤولونه تأويلا متعسفا، فهذا الإمام النووي يقول في شرحه على صحيح مسلم: قال الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا بَيَانًا لَهُمْ وَإِرْشَادًا لِمَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ، فَعَلَّمَهُمْ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِطَلَبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ إِلَى الْوِقَاعِ فِي النَّهَارِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كانت مشتغلة بما يمكن تركه، لِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَتْ عَلَى الرَّجُلِ شَهْوَةٌ يَتَضَرَّرُ بِالتَّأْخِيرِ فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي قَلْبِهِ وَبَصَرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قلت: الرواية الموضوعة تتهم النبي بالكبت الجنسي صراحة، والنووي رحمه الله يزعم أنه أراد تعليم الصحابة بالفعل والقول. وهذا الحديث المكذوب من جملة ما يستدل به التبشيريون على انتفاء نبوة المصطفى عليه السلام، لأنه ينسب إليه أفعالا لا تليق بالأنبياء، وهو من مستندات الشيعة في اتهام أهل السنة بسوء الأدب مع رسول الله، والطعن في صحة مروياتنا. والحق أن علماءنا مقصرون في البحث والتحقيق، فالحديث منكر متنا ضعيف سندا، فهو موضوع مكذوب على رسول الله. مواضع النكارة الدالة على الوضع: الموضع الأول: "رَأَى امْرَأَةً فأعجبته": هذه الجملة تعني أنه تأمل محاسنها وأمعن النظر بشهوة حتى هاج وماج رغبة في الجماع، حاشاه.وهذا يقتضي أن النبي لم يكن يغض بصره كما أمر الله القائل له: ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ).إن الله أمر نبيه أن يحض المؤمنين على غض البصر ولم يأمره هو بذلك، لأنه تحصيل حاصل بالنسبة إليه، أي أنه لا يليق به أن يؤمر بمثل ذلك، لأن الأنبياء لا ينتظرون مثل هذه التوجيهات وإلا كانوا كسائر الناس.فالآية إشارة ضمنية إلى أنه صلى الله عليه وسلم متخلق بغض البصر أصالة وطبعا، قبل أن يكون ذلك واجبا وشرعا.وهذا الموضع المنكر يتعارض مع شهادة الله في حق رسوله: (وإنك لعلى خلق عظيم)، ومن جملة الخلق العظيم عدم النظر بشهوة إلى النساء الأجنبيات، ولو تأمل رسول الله مفاتن امرأة مرة واحدة في حياته، ما استحق تلك الشهادة. ثم إن النبي نفسه كان يأمر أصحابه بغض البصر، ويخبرهم أن تأمل محاسن النساء زنا العين، وأنه سهم مسموم، فهل يعقل أن يخالف فعله قوله؟ الموضع الثاني: "فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهْىَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ": تعني هذه الجملة أن النبي، حاشاه، دخل على زوجه زينب رضي الله عنها، فوجدها تدبغ جلد شاة، فدعاها دون مقدمات ولا مراعاة لنفسيتها، ومن غير حاجة للتنظيف والتطيب، فقضى شهوته بعجلة وسرعة ثم اغتسل وخرج يقطر ماء.وتصرح بعض الروايات أنه وجد مع أهله نسوة يساعدنها في العمل، فعرفن رغبته الجامحة في الجماع، فانصرفن مسرعات، وهذا والله عين الدجل والخبل.إن الذي يفعل ذلك لا يمكن أن يكون رجلا سويا فضلا عن أن يكون رسولا، والذي يهجم على زوجه بتلك الطريقة وحش همجي لا إنسان آدمي.ومعاذ الله أن نتصور حدوث شيء من ذلك لصاحب الخلق العظيم، وذي القلب الرحيم، المحب للنظافة والتطيب والتفنن في مباشرة الأهل. إن الذي يصاب بمثل هذا السعار الجنسي لا يمكن أن يكون إلا مسجونا مكبوتا لم ير النساء أعواما، وليس في الرجال الأسوياء المتزوجين المقيمين من يحدث له مثل هذا الشبق والاشتعال ولو رأى ملكة جمال الدنيا، فكيف إذا كان المتهم بهذه القبائح نبيا قلبه معلق بالله وعقله متهمم ببناء دولته وحمايتها من تربص الأعداء، ثم هو متزوج بأكثر من أربع؟ وتذكر الطريق الثالثة أن النبي كان جالسا بين أصحابه عندما رأى المرأة، وهو أمارة إضافية على كون الحديث مكذوبا، لأنه يقتضي أن النبي لم يغض بصره بحضرة أصحابه، وهذا عين المحال، ويستلزم أن رغبته الجنسية فارت وهاجت رغم انعدام الخلوة، وهذا لا يصدقه إلا أهل الخبال، فلو سألت أي مختص عن إمكان ذلك لسارع إلى الإنكار والاستغراب، لأن الجماعة تمنع حدوث مثل ذلك، إلا أن يكون حديث المجتمعين حول الفروج وطرق الجماع وأوصاف النساء. إن الوضاع الذي اختلق هذا الإفك غبي جدا، لكن الرواة أغبى منه، لأنهم صدقوا ما لا يعقل وما لا يجوز على نبيهم. الموضع الثالث: "فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فقال": معنى هذا أن النبي، حاشاه، لم يستتر ولم يخف ما حدث له، بل حدث أصحابه بما جرى له، وهذا والله لا يصدر عن مؤمن عاقل فضلا عن نبي مرسل.ولو أن أحدنا حدث له شيء من ذلك، لاستحى أن يخبر الناس، لأنه يخدش إيمانه من جهة، ويدعو إلى الشك في أخلاقه وعفته من ناحية، ويظهر فشله في الحياة الجنسية مع زوجه من جانب، فلا ندري كيف صدق علماؤنا هذا البهتان؟وما قاله النووي رحمه الله تعسف وتكلف بارد، إذ لو أراد النبي أن يعلم أصحابه لما احتاج إلى تلك التفاصيل المنكرة، فيكفيه أن يقول لهم: "إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته وخشي على نفسه الفتنة فليأت أهله".أما أن يحقق هو النظر في امرأة أجنبية، ثم يدخل على زوجه ليباشرها، ويخرج على أصحابه ليشرح لهم ما حدث تعليما وتربية، فذلك حمق وسفاهة. الموضع الرابع: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان": هذه الجملة يستحيل أن يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تحتقر المرأة التي كرمها الله ورسوله، وتحملها المسئولية عن الفواحش المنتشرة في المجتمع، وهذا عين الظلم والعدوان.فالحق أن الذي يقبل ويدبر في صورة شيطان هو الرجل المتربص بالنساء في الشوارع والطرقات، وهو المسئول عبر التاريخ عن شيوع الفاحشة لا الأنثى، فهو الذي كان ولا يزال يملك المال والسلطة، فيشتري النساء طوعا وكرها، ويتاجر في أجسادهن شرقا وغربا، وهو الذي دفع النساء لامتهان الدعارة بإلحاحه وتهديده.والجملة قرينة على أن واضع الحديث يهودي متظاهر بالإسلام، فاليهود هم الذين يصفون المرأة بالشيطان، ويتهمونها بالتحالف معه وإغواء آدم عليه السلام.وقد تمحل السادة العلماء هنا أيضا، فقال الإمام القرطبي في "المفهم" مثلا: وقوله: إن المرأة تقبل في صورة شيطان؛ أي: في صفته من الوسوسة، والتحريك للشهوة؛ بما يبدو منها من المحاسن المثيرة للشهوة النفسية، والميل الطبيعي، وبذلك تدعو إلى الفتنة التي هي أعظم من فتنة الشيطان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ما تركت في أمتي فتنة أضر على الرجال من النساء. فلمّا خاف صلى الله عليه وسلم هذه المفسدة على أمته أرشدهم إلى طريق بها تزول وتنحسم، فقال: إذا أبصر أحدكم المرأة فأعجبته فليأت أهله، ثم أخبر بفائدة ذلك، وهو قوله: فإن ذلك يردّ ما في نفسه. اه قلت: العيب في الرجل الذي لا يغض بصره، لا في المرأة الذاهبة إلى السوق أو العمل أو الدراسة ولو كانت متبرجة، ووسوسته هو وإغراؤه للفتيات بالأماني المعسولة والوعود الخداعة، وأساليب الرجل في الإيقاع بالعفيفات أشد فتكا من محاسنهن، وبالجملة فما فسدت المرأة حتى فسد الرجل، وما خرجت تتعاطى البغاء حتى قهرها وألجأها إلى ذلك طوعا أو كرها.والحديث الذي احتج به القرطبي حديث صحيح، لكنه يعني أن أعظم امتحان للرجل هو المرأة، فإن هو احترمها وحافظ على طهرها نجا في الدنيا والآخرة، وإن هو احتقرها واتخذها سلعة رخيصة وركز في علاقته بها على الجانب الجنسي فقط، وفرض عليها أن تمتهن الدعارة، خسر دنيا وأخرى.فالحديث لا يحمل المسئولية للمرأة، بل هو كقوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)، ومعلوم أن المسئول عن الافتتان هو الإنسان لا ماله أو أولاده، فكذلك الرجل إذا فتنه النساء، كان هو المسئول لا المرأة. نقد سند الحديث: لم يكلف العلماء أنفسهم عناء دراسة سند هذا الحديث المنكر، وهذا يؤكد تواردهم على التقليد والتعصب، ولو أنهم تخلصوا منهما لوجدوا الخبر واهيا جدا لا يستحق التحسين فضلا عن التصحيح، وهذه أوجه ضعفه الشديد: العلة الأولى: الانقطاع: أبو الزبير المكي مدلس محترف، ويدلس عن جابر خاصة، ولم يصرح بالسماع منه حيث قال: "عن" جابر، ولم يقل: "سمعت"، أو "حدثني" أو "أخبرني"، فيكون السند منقطعا سقط منه راو أو أكثر بين أبي الزبير وجابر. قال الحافظ العلائي في جامع التحصيل: محمد بن مسلم أبو الزبير المكي مشهور بالتدليس، قال سعيد بن أبي مريم: ( ثنا الليث بن سعد قال: جئت أبا الزبير فدفع لي كتابين، فانقلبت بهما ثم قلت في نفسي: لو أني عاودته فسألته: أسمع هذا كله من جابر؟ قال: سألته، فقال: منه ما سمعت ومنه ما حدثت عنه. فقلت له: أعلم لي على ما سمعت منه، فأعلم لي على هذا الذي عندي). ولهذا توقف جماعة من الأئمة عن الاحتجاج بما لم يروه الليث عن أبي الزبير عن جابر، وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما قال فيه أبو الزبير عن جابر وليست من طريق الليث وكأن مسلما رحمه الله اطلع على أنها مما رواه الليث عنه وإن لم يروها من طريقه والله أعلم قلت: وهذا الحديث لا يرويه عنه الليث، ولو رواه عنه ولم يشهد أنه مما سمعه من جابر لم نقبل به، لأن الليث رحمه الله لم يدع أنه يروي أحاديث أبي الزبير المتصلة دون المنقطعة.وما دمنا لا ندري أسمع هذا الخبر المنكر من جابر أم لا، فهو ضعيف، ونكارته تدل على أنه لم يسمعه منه.ولا عبرة بكون أبي الزبير من رجال مسلم في الصحيح، وأنه كان يصحح أحاديثه المعنعنة، فلسنا نصدق مقولة: "من روى له الشيخان جاوز القنطرة"، لأن الله تعالى لم يشهد لهما بذلك لا في كتاب ولا سنة. وإذا قبل مسلم رحمه الله أحاديث أبي الزبير المعنعنة، فلأنه لم يكن يعرف تدليسه، والله سبحانه لم يفرض علينا تقليده، بل أمرنا بإعمال عقولنا، وعقولنا تأمرنا بالتزام القواعد لا آراء الرجال، والقاعدة أن المدلس إذا عنعن كان السند منقطعا، والانقطاع يعني سقوط راو على الأقل، والراوي الساقط بفعل التدليس قد يكون دجالا أو مغفلا يحدث بكل ما سمع. والمعجبون بحديث الباب، يزعمون أن أبا الزبير صرح بالسماع عند أحمد، فترتفع علة الانقطاع. يقصدون هداهم الله ما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه تحت رقم 14786 قال: حدثني أبي، حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير قال: أخبرني جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في نفسه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يرد من نفسه. قلت: لا حجة في هذا الطريق من أوجه: أولا: موسى الضبي "صدوق له أوهام" كما في "التقريب"، وفي حديثه اضطراب كما قال أبو حاتم الرازي، وقد خالف غيره ممن رووه عن ابن لهيعة، فلا يصح التصريح بالسماع. ثانيا: إذا تجاوزنا موسى الضبي، فابن لهيعة ضعيف بسبب اختلاطه من جهة، ثم هو مدلس قبل الاختلاط ولم يصرح هو بالسماع من أبي الزبير. ثالثا: ورد عن ابن لهيعة معنعنا من طريق راويين: قال عبد الله بن أحمد في زوائد المسند رقم 14713: حدثني أبي ثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أعجبت أحدكم المرأة فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد من نفسه.وقال الخرائطي في اعتلال القلوب الحديث رقم 234 : حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا أعجبت أحدكم المرأة فوقعت في نفسه فليقم إلى امرأته فليواقعها، فإن ذلك يرد من نفسه»فتأكد ضعف الطريق المصرح بالسماع، وأن الخطأ من موسى صاحب الأوهام والاضطراب، وبرئت ساحة ابن لهيعة. رابعا: الذين رووه عن أبي الزبير بالعنعنة أكثر وأوثق من ابن لهيعة، منهم هشام الدستوائي وموسى بن عقبة ومعقل وغيرهم، فلا وجه للاحتجاج برواية ابن لهيعة حتى ولو كان ثقة بإطلاق، لأن رواية الأكثر محفوظة ورواية الواحد شاذة، لكن القوم لا يريدون تضعيف حديث في صحيح مسلم. العلة الثانية: ضعف أبي الزبير: أبو الزبير ضعفه شعبة والشافعي وسفيان وابن جريج والسختياني، وأحمد في رواية، ووثقه الآخرون.وجرح المتكلمين فيه مفسر بما يخدش عدالته وصدقه، فهو صدوق ما لم يرو شيئا منكرا أو يخالف غيره، وقد أنكر هنا وخالف، فهو ضعيف. العلة الثالثة: الاضطراب والتناقض: إذا لم يقنع الأحبة المخالفون بأن أبا الزبير ضعيف، فاضطرابه الشديد في هذا الحديث المنكر أقوى دليل على ضعف حفظه، فالرجل روى القصة على وجهين متناقضين: قال في إحداهما: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصر بامرأة فرجع، فدخل إلى زينب فقضى حاجته... وفي الثانية: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه، إذ مرت به امرأة فأعجبته، فقام فدخل على زينب بنت جحش فقضى حاجته... فالأولى تفيد أن النبي، حاشاه بطبيعة الحال، خرج من بيته، فرأى امرأة حسناء، والثانية تدل على أن النبي، حاشاه، كان جالسا مع الناس فرأى امرأة أعجبته... ثم إنه اضطرب مرة أخرى، فقال مرة: (فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ)، وقال مرة: (فليأت أهله فإن ذلك له وجاء). وهما بمعنى واحد، لكن على فرض صحة الحديث، فالرسول قال واحدة من الجملتين، وما دام الراوي وضع جملة مكان أخرى، فهذا يعني أنه لم يحترم المتن كما سمعه، أو ضعف حفظه وضبطه للرواية فتصرف فيها، وهذا مدعاة للتوقف والشك. وقفة مع الشيخ الألباني: قال رحمه الله في الصحيحة (1/ 472): أبو الزبير مدلس وقد عنعنه، لكن حديثه في الشواهد لا بأس به، لاسيما وقد صرح بالتحديث في رواية ابن لهيعة عنه، وأما مسلم فقد احتج به! وله شاهد آخر عن عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته، فأتى سودة، وهي تصنع طيبا وعندها نساء، فأخلينه، فقضى حاجته ثم قال: أيما رجل رأى امرأة تعجبه، فليقم إلى أهله، فإن معها مثل الذي معها ". ه قلت: سكت الشيخ عن العلل الموجودة في طريق ابن لهيعة، وعن التناقض بين رواية جابر ورواية ابن مسعود، ولا عذر للشيخ في ذلك إلا الإصرار على تصحيح الأسطورة.ونورد رواية ابن مسعود لنر هل تصلح لتعزيز رواية جابر المنكرة: روى أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن حلام عن عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة فأعجبته، فأتى سودة وهي تصنع طيبا وعندها نسوة فأخلينه، فقضى حاجته ثم قال: أيما رجل رأى امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها. رواه الدارمي وابن أبي شيبة، والدارقطني في العلل، والبيهقي في الشعب، والخطيب في "الفصل للوصل". وهذا الشاهد ضعيف سندا، مضطرب سندا ومتنا، مخالف لحديث جابر في اسم الزوجة، فلا يقوي أحدهما الآخر، وهذه علله: العلة الأولى: الانقطاع: أبو إسحاق السبيعي أحد الأئمة الأعلام، لكنه مدلس مشهور، يروي عن شيوخه ما لم يسمع منهم، ويسقط الواسطة، التي قد تكون دجالا أو مجهولا أو مغفلا، بينه وبينهم.ولم يصرح بالسماع من شيخه ابن حلام، ولا بسماع شيخه من ابن مسعود، فيكون السند منقطعا في الموضعين. العلة الثانية: اختلاط السبيعي: كان السبيعي حافظا كبيرا، وإماما ضابطا، لكنه اختلط في آخر حياته وساء حفظه، فكان يخطئ وينسى ويخلط، لذلك ذكره المؤلفون في المختلطين كالعلائي. وفي "تقريب التهذيب" لابن حجر: ثقة مكثر عابد من الثالثة، اختلط بأخرة. ه والعلة الرابعة، برهان منطقي على أن السبيعي حدث بهذا الخبر بعد الاختلاط. العلة الثالثة: جهالة ابن حلام: عبد الله بن حلام لا راوي عنه إلا أبو إسحاق السبيعي، ولم يوثقه أحد باستثناء ابن حبان فإنه أورده في كتاب "الثقات" ولم يذكر في ترجمته ما يدل على توثيقه حيث قال: عبد الله بن حلام يروي عن ابن مسعود، روى عنه أبو إسحاق السبيعي.قلت: وهذا تحصيل حاصل.وفي "ميزان الاعتدال" للذهبي: لا يكاد يعرف. ه أي أنه مجهول العين والحال، وإذا تذكرت أن السبيعي مدلس، فبإمكانك أن تحكم عليه بأنه أحد شيوخه الضعفاء، فدلس اسمه حتى لا يعرف، أو أنه سمع الخبر من شخص آخر، ثم نسي اسمه فسماه عبد الله بن حلام، وسيأتي ما يعزز هذا الافتراض.وعلى كل حال، فابن حلام لا يمكن اعتباره مستورا لأن الراوي عنه مدلس مختلط. العلة الرابعة: الاضطراب الشديد: اضطرب أبو إسحاق السبيعي اضطرابا فاحشا في سند حديثه، فدل ذلك على أنه لم يروه إلا بعد اختلاطه وسوء حفظه، وهذه أوجه الاضطراب: الوجه الأول: أبو إسحاق عن عبد الله بن حلام عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا تقدم تخريجه. الوجه الثاني: أبو إسحاق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُلَّامٍ عن عَبْد اللَّهِ بن مسعود موقوفا من قوله: «مَنْ رَأَى مِنْكُمُ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ، فَلْيُوَاطِئْ أَهْلَهُ، فَإِنَّ مَعَهُنَّ مِثْلَ الَّذِي مَعَهُنَّ». رواه ابن أبي شيبة والدارقطني في العلل والخطيب في "الفصل للوصل" بأسانيد صحيحة إلى السبيعي. الوجه الثالث: أبو إسحاق عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ امْرَأَةً تَعْجِبُهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ الَّذِي مَعَ أَهْلِهِ مِثْلَ الَّذِي مَعَهَا. رواه الدارقطني في العلل والخطيب في الفصل للوصل من طرق صحيحة إلى أبي إسحاق. وهذا الاختلاف الفاحش لا يقبل من مدلس مختلط ولو كان إماما كبيرا. ثم إنه لم يصرح في الوجه الثالث بالسماع من أبي عبد الرحمن السلمي، وقد كان يدلس عنه، قال الحافظ العراقي في تحفة التحصيل ص 245: قال الدارقطني: لا نعلم أبا إسحاق سمع من أبي عبد الرحمن السلمي، وقد روى أبو داود يعني الطيالسي عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن أن عليا رضي الله عنه كان يصلي بعد الجمعة ستا. قال شعبة: فقلت لأبي إسحاق: سمعته من أبي عبد الرحمن؟ قال: لا، حدثني به عطاء بن السائب عنه. ه قلت: وعطاء ضعيف، فتأكد أن السبيعي يدلس عن الضعفاء، وهذا عيب قبيح يجرح عدالة صاحبه. وظهر أن بينه وبين السلمي راويا ضعيفا، فهذه علة إضافية.زد عليها أن عبد الله بن حبيب تابعي، فالسند مرسل على فرض صحته إلى أبي عبد الرحمن.ولا يقال: لعله سمعه من ابن مسعود، فإن سماعه منه لم يثبت عند المحدثين.وقد لاحظ بعض الأئمة هذا الاختلاف القادح، فرجحوا الوجه الثاني، وهو الوقف على ابن مسعود، وهذا يعني أنهم يضعفون الحديث مرفوعا. ففي "علل الحديث لابن أبي حاتم (1/394): فسمِعتُ أبِي يقُولُ: الحدِيثُ هُو موقُوفٌ.وفي علل الدارقطني (5/196): يَرْوِيهِ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ (...) وَالْمَوْقُوفُ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَصَحُّ.ه متابعة لا عبرة بها:قال ابن أبي شيبة في المصنف رقم 17199: نَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَرَجَعَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَعِنْدَهَا نِسْوَةٌ يَدُقُّنَّ طِيبًا قَالَ: فَعَرَفْنَ مَا فِي وَجْهِهِ، فَأَخْلَيْنَهُ فَقَضَى حَاجَتَهُ فَخَرَجَ فَقَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمُ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ، فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَلْيُوَاقِعْهَا، فَإِنَّ مَا مَعَهَا مِثْلُ الَّذِي مَعَهَا»قلت: أبو حصين خطأ من النساخ، أو من وكيع، فإن أصحاب سفيان رووه عنه في المصادر المتقدمة عن أبي إسحاق بمن فيهم وكيع.أو أن ذلك راجع إلى اضطراب سفيان، فإنه رواه عن أبي إسحاق على أوجه مختلفة، فرواه عنه عن ابن حلام عن ابن مسعود مرفوعا، ورواه عنهم موقوفا، ورواه عن السبيعي عن أبي عبد الرحمن السلمي مرسلا، وها هو يرويه عن أبي حصين بدل أبي إسحاق، ويجعل أم سلمة مكان سودة رضي الله عنهما.فلا قيمة لهذه المتابعة. حديث أبي كبشة الأنماري: روى معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحرازي قال: سمعت أبا كبشة الأنماري قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم جالسا في أصحابه، فدخل ثم خرج وقد اغتسل فقلنا: يا رسول الله، قد كان شيء؟ قال: أجل، مرت بي فلانة، فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال.رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ومسند الشاميين.قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: إسناده جيد. وفي تعليق الأرنؤوط على المسند: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن. وقال الألباني في الصحيحة الحديث رقم 235: هذا سند حسن إن شاء الله تعالى، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير الحرازي ويقال فيه عبد الله بن سعيد الحرازي. قال الحافظ في " التهذيب ":" لم يتكلموا إلا في مذهبه (يعني النصب) وقد وثقه العجلي وابن حبان ". وقال في " التقريب ": " صدوق ". والحديث أورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (6 / 292) وقال: " رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات ". قلت: وللحديث شاهد من حديث أبي الزبير عن جابر.ه قلت: ليس السند حسنا ولا جيدا، وهذا البيان: أولا: معاوية بن صالح متكلم في حفظه، ضعفه بعض الأئمة، خصوصا ما يرويه عنه عبد الرحمن بن مهدي، وهذا من روايته عند أحمد.وقد اضطرب فصرح مرة بسماع أزهر من أبي كبشة وقال مرة: (عن أزهر بن سعيد عن أبي كبشة)، ثم إنه خالف غيره في السند فجعل القصة من مسند أبي كبشة، وخالفهم في المتن أيضا.فهذا من غرائبه المستنكرة. ثانيا: أزهر بن سعيد، اختلف في اسمه اختلافا شديدا يجعلنا نشك في حقيقته، وسكت عنه البخاري وأبو حاتم، وأورده ابن حبان في ثقاته من غير توثيق صريح. وفي تقريب التهذيب لابن حجر: حمصي صدوق. قلت: من أين يكون صدوقا ولم يوثقه أحد؟ وابن حبان متأخر يذكر في ثقاته المجاهيل والضعفاء، فلا قيمة لوجوده في كتابه ما لم يوثقه بطريقة واضحة.وأحسن الذهبي حيث أورده في "الكاشف" من غير إعطائه حكما. والخلاصة أن أزهر بن سعيد مستور، والمستور حسن الحديث ما لم يخالف، وقد خالف غيره في السند فجعل الحديث عن أبي كبشة، فيكون ضعيفا بقرينة مخالفة الأوثق والأكثر.وفي تهذيب التهذيب لابن حجر: أزهر بن عبدالله بن جميع الحرازي الحمصي، ويقال هو أزهر بن سعيد، روى عن تميم الداري مرسلا، وعن عبدالله بن بسر وأبي عامر الهوزني والنعمان بن بشير وغيرهم. روى عنه صفوان بن عمرو وعمرو بن جعشم والخليل بن مرة. قال البخاري: أزهر بن عبدالله وأزهر بن سعيد وأزهر بن يزيد واحد، نسبوه مرة مرادي ومرة هوزني ومرة حرازي. قلت: فهذا قول إمام أهل الأثر أن أزهر بن سعيد هو أزهر بن عبدالله ووافقه جماعة على ذلك. وأما شرح حال أزهر، فلم يذكر المزي شيئا منه في الترجمتين، وقد قال ابن الجارود في كتاب الضعفاء: كان يسب عليا. وقال أبو داود: إني لأبغض أزهر الحرازي ثم ساق بإسناده إلى أزهر قال: كنت في الخيل الذين سبوا أنس بن مالك فأتينا به الحجاج. وذكر ابن الجوزي عن الأزدي قال: يتكلمون فيه. قلت: لم يتكلموا إلا في مذهبه، وقد وثقه العجلي، وفرق ابن حبان في الثقات بين أزهر بن سعيد وأزهر ابن عبدالله. ه قلت: إذا كان أزهر بن سعيد هو أزهر بن عبد الله، فهو منافق لأنه كان يسب مولى المؤمنين، وهو مجرم يتبجح بسبي سيدنا أنس بن مالك، فقبحه الله ولعنه إن لم يكن تاب وأناب. وقد تكلم فيه أبو داود والأزدي وضعفه ابن الجارود، وابن حبان والعجلي متساهلان في التوثيق، فالرجل ساقط العدالة قولا واحدا، ومن سب مولانا عليا وسبى سيدنا أنسا لا يعجزه أن يكذب على أبي كبشة بل وعلى رسول الله. فانظر إلى سوء تصرف المحدثين، يوثقون منافقا مجرما ويصححون حديثه.والنتيجة أن هذا الطريق ضعيف جدا لحال معاوية وجهالة أو نفاق أزهر بن سعيد. مناقشة شبهة مفترضة: سيقول المعجبون بالأساطير: أخبرنا الله في كتابه أن سيدنا يوسف هم بالفاحشة ثم عصمه الله، فالأنبياء قد تثيرهم النساء الأجنبيات وينوون المعصية لكنهم لا يفعلون. والجواب أن مجرد التفكير في الفاحشة عيب خطير وذنب كبير بالنسبة للكاملين من العباد، وهو محال في حق أنبياء الله، وما ذكروه عن يوسف عليه السلام بهتان وسوء أدب لهذه الأوجه: أولا: لم يكن نبي الله يوسف مبعوثا حين جرت له القصة، فلا يقاس عليه رسول الله بحال. ثانيا: قوله تعالى عن يوسف: (وهم بها) يعني أنه هم بضربها لما همت هي بالاعتداء عليه، فلا حجة في قصة يوسف على إمكان استثارة النساء لشهوة الأنبياء. وتفسير "الهم" بالعزم على الزنا أخذه علماؤنا من الإسرائيليات، وهذه أدلتنا على أنه "هم" بالضرب: قال الله تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ، قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي). الوجه الأول: بمجرد ما قالت له: "هيت لك" رد عليه السلام بقوله: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)، أي أنه استعاذ بالله مما قالت، وذكرها بفضل زوجها عليه، وبخسران الظالم دنيا وأخرى، أي أنه وعظها وأدبها، فهل يعقل أن يعزم على الفاحشة بعد ذلك؟ الوجه الثاني: استعاذة ونصيحة يوسف متقدمة على ذكر "الهم"، أي أنها غضبت فهمت بضربه أو قتله بعدما نصحها وحرمها رغبتها الشديدة، فهم بالدفاع عن نفسه لكنه قرر الهرب، فاتبعته محاولة ضربه حتى مزقت ثيابه من الخلف. الوجه الثالث: إذا كان هم بالزنا دون الضرب، فالسوء هو الفاحشة، وكلام الله منزه عن التكرار، فالسوء هو الضرب، والفاحشة هي الزنا، والمعنى: صرفنا عنه الفاحشة لأنه من المخلصين الذين لا يفكرون فيها ولا ينوونها أبدا، وصرفنا عنه الضرب بما أريناه من برهان، أي أوحينا إليه الحجة على البراءة أمام سيده، وهي أن يتركها تضربه وتمزق ثيابه من الخلف. الوجه الثالث: قولها: (مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني أنها اتهمته بمحاولة الضرب، لأنها لو اتهمته بالفاحشة لطالبت بقتله، فالخيانة في العرض والشرف تستلزم القتل عند السادة، لا السجن والتعذيب. ولو اتهمته بالزنا لما أعطاه السيد فرصة الدفاع عن نفسه، فلما سأله عن السبب الذي دفعه لمحاولة ضربها، لم يجد بدا من إطلاعه على الحقيقة نصحا له من جهة، وليتأكد من عفافه وسمو أخلاقه وإخلاصه له من جهة ثانية. الوجه الرابع: ظل يوسف عليه السلام مقيما بقصر السيدة التي راودته حتى كادت له هي والنسوة، أي أن السيد لم يطرده من القصر لأنه كان مطمئنا لعفافه، ولو أن زوجته اتهمته بالتحرش، ثم برر هو سلوكه بكونها عرضت نفسها عليه، لخشي السيد من تكرر الحدث فأبعده وطرده، لكنها اعترفت بذنبها وشهدت بصدقه فعول على طهره وعفته، وأبقاه في قصره خادما لزوجته لأنه يغار على شرف سيده، فهو بمثابة الرقيب عليها. الوجه الخامس: قال السيد بعد التحقيق وإقرار الزوجة بما جرى وشهادتها ببراءة يوسف من التحرش: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)، أي انس يا يوسف ما جرى فأنت الصادق الأمين، وثقتي بك لم ولن تهتز، بل مقامك صار أرفع، وأنت يا زوجتي الخاطئة بإقرارك وبرهان الثوب الممزق، اندمي واطلبي العفو من الإله.ولو أن سيدنا يوسف أقر بأنه هم بالزنا بناء على مراودتها، لكان خاطئا أيضا ولأمره بالندم والاستغفار أيضا، فلما لامها وحدها، تأكدنا أن يوسف أقر بمحاولة الضرب لا غير.وهكذا نتأدب مع أنبياء الله، لأننا طرحنا الإسرائيليات جانبا، فهي من أفسد تفاسير قصص السابقين. إن كثيرا من الناس يتعرضون للإغواء من قبل النساء الجميلات الثريات الحسيبات، فيتعوذون بالله ولا ينوون أو يعزمون، فكيف تقبلت عقول العلماء أن ينهزم نبي من أنبياء الله أمام تحرش امرأة؟ أين كان إيمانه القوي؟ وهل في الناس العاديين من هم أفضل حالا من الأنبياء؟يبدو أننا بحاجة إلى إعادة النظر في معظم مسلماتنا المقررة. -خريج دار الحديث الحسنية [email protected]