حديث الحج والعمرة بعد يأجوج ومأجوج نؤمن بأن يأجوج ومأجوج هم كل المفسدين والمجرمين عبر التاريخ ، وأنهم سيخرجون يوم البعث من قبورهم لمشاهدة أهوال الساعة وشدائدها قبل الحساب . ونرفض الأسطورة اليأجموجية التي يدافع عنها علماؤنا ، والتي تتلخّص في أن يأجوج ومأجوج ذي القرنين أحياء محبوسون بالردم الذي جعله بين الجبلين ، وأنهم يتكاثرون جدا ، وسيخرجون زمن نزول عيسى عليه السلام ويغزون العالم الإسلامي والدنيا ، ويطردون نبي الله عيسى والمسلمين معه إلى جبل الطور المقدّس عند اليهود . وبين أيدينا حديث آخر يدعم به علماؤنا أسطورتهم التي نراها أكذوبة مدسوسة من قبل مسلمة أهل الكتاب ككعب الأحبار وإخوانه . نص الحديث : روى قَتَادَةُ بن دعامة السدوسي، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ، وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ " ( مصنف ابن أبي شيبة 7/501 ، ومسند أحمد ح11217 و11219 و11671 وصحيح البخاري ح 1593 ، وصحيح ابن خزيمة ح 2507 وصحيح ابن حبان 15/247 ، ومسند أبي يعلى ح 1030 ، ومستدرك الحاكم ح 8399 ) هذا الحديث حجة قوية عند المؤمنين بأسطورة خروج يأجوج ومأجوج للسيطرة على العالم وطرد المسلمين إلى جبل الطور زمن عيسى عليه السلام . وهو صريح في أن المسلمين سيحجون ويعتمرون بعد انقراض يأجوج ومأجوج وفنائهم . وبالتالي ، فخروجهم لن يكون بعد فناء المسلمين ، أي من القبور يوم البعث كما قلنا ، بل هو خروج من الرّدم الذي بناه ذو القرنين . هكذا يقول علماؤنا ببساطة ، بعيدا عن كل تحقيق في الحديث سندا ومتنا ، وتمرّدا على ظاهر القرآن ، وبدائه العلم وعقل الإنسان . رأينا في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : هذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مدسوس ، أو أنه قول للصحابي الجليل أبي سعيد الخدري أخذا من أهل الكتاب نسبه قتادة لرسول الله نسيانا وتخليطا . وبغضّ النظر عن تعارضه مع القرآن والعقل ، فإن قواعد الحديث تقضي ببطلانه وكذبه أوتحريفه والغلط في نسبته ، لتعدّد علله سندا ومتنا ، والتي تجاهلها المحدثون عمدا أو سهوا . ودورنا أن نكشف الخلل صيانة للدين وحماية لمقام النبوة . العلل الحديثية الموجبة لتكذيب حديث أبي سعيد الخدري : العلة الأولى : انقطاع السند بسبب تدليس قتادة : لم يصرّح قتادة السدوسي بالسماع من شيخه عبد الله بن أبي عتبة في أي طريق من طرق هذا الحديث المنكر ، بل عنعَنَه فيها جميعا بقوله : ( عن عبد الله ) . وقتادة رحمه الله مدلّس مشهور . والتدليس هو أن يخدع الراوي السامعين بإيهامهم أنه سمع الخبر من شيخه مباشرة دون واسطة ، والواقع أنه سمعه من طرف ثالث يرويه عن شيخه ، فيستعمل الراوي المدلّس العنعنة لينجو من الكذب الصريح . وغالبا ما يدلّسون الرواة الضعفاء والكذابين لإخفاء علَّة الحديث الذي يعجبهم ويوافق مذاهبهم ، أو خجلا من أن يكون من هو دونهم واسطة بينهم وبين شيوخهم . والمدلّسون فيهم أئمة ثقات مشاهير كقتادة رحمه الله وغفر له . والمنهج الحديثي مع المدلسين يقوم على الآتي : إذا صرّح المدلّس الثقة الصادق بأنه سمع الحديث من شيخه مباشرة ، بأن يقول : حدثني شيخي أو سمعته يقول ... فالسند بينهما متّصل . وإذا لم يصرّح بالسماع كأن يستعمل " عن " أو " قال فلان " ، فإن السند منقطع بينهما نظرا لشبهة التدليس القوية . هذا هو المنهج الحديثي ، وهو منطق سليم ، ولو كان الحديث موافقا للقرآن ومنهاج النبوة وحقائق العلم وبدائه العقل ، فكيف إذا نافرها كلها ؟ لكن بعض المحدثين ، بعد تسلّط المذهبية والطائفية ، وضعوا قاعدة شيطانية استثنائية تقول : ( عنعنة المدلس لا تضرّ إذا كان حديثه مخرّجا في أحد الصحيحين ) ويلجأون إلى هذه القاعدة الفاسدة كلما كان حديث المدلّس موافقا لمذاهبهم الفقهية . ويحتكمون إلى القاعدة المنطقية الأصيلة إذا كان حديثه معارضا لأهوائهم ومشاربهم . وهذا من عوامل الاختلاف والخلاف بين المذاهب السنية الفقهية . وحين يكون حديث المدلس معارضا لهم يقولون بكل عقل ومنطق : عدم تصريح المدلس بالسماع والاتصال هو الأصل ، والشيخان قد يغفلانه ويتجاهلانه وينسيانه لذلك لا عبرة بتخريجهما حديث المدلس معنعنا . ويضيفون : القول بأن تخريج الشيخين لحديث المدلس المعنعن ناتج عن معرفتهما بكونه صرّح بالسماع والاتصال في طرق خارج كتابيهما ، كلام مرسل احتمالي مردود من وجوه : أولها : إذا كان قد صرّح بالسماع ، فلماذا اختار الشيخان تخريج الطريق المعنعن دون المصرّح بالاتصال ؟ وثانيها : هذا الاحتمال يصلح لو وجدنا السند متصلا خارج الصحيحين من طرق صحيحة إلى المدلّس ، أما إذا بحثنا في كلّ مصادر الحديث ومظانه ، فوجدنا الحديث عينه لا يتضمن التصريح بالسماع في أي طريق صحيح ، فهو باطل شكلا ومضمونا . ونضيف هنا الآتي : أولا : لم يزعم الإمام البخاري رحمه الله أنه وقف على طريق متصل لهذا الحديث ، وإنما بنى تخريجه في صحيحه على ثبوت مطلق السماع والاتصال بين قتادة وعبد الله ، وهو ما لا يرفع التدليس ، ويؤكد عدم وجود طريق يصرّح بسماع هذا الحديث بعينه . فقال الإمام في آخر الحديث : «سَمِعَ قَتَادَةُ، عَبْدَ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ، أَبَا سَعِيدٍ» ه أي ثبت سماعه منه في أحاديث غير هذا ، فلا يرتفع الإشكال بحال ، بل يترسّخ . ثانيا : البخاري ومسلم رحمهما الله ليسا نبيين معصومين من تأثير الهوى المذهبي والضعف البشري عليهما ، فنجري القاعدة الأصيلة القويمة على أسانيدهما كما نجريها على أسانيد غيرهما ، بل في مصنفي السنة المتقدمين عليهما من كان أحفظ وأضبط لكتبهم منهما كالأئمة مالك وأحمد والحميدي ... فما يجري على هؤلاء العظماء يجري على الشيخين العظيمين رحم الله الجميع . والنتيجة أن قتادة مدلّس مشهور ، وقد عنعن ، فالسند منقطع بينه وبين شيخه عبد الله بن أبي عتبة ، ولا نقبل أن يحتج علينا محتجّ بأن الحديث مخرّج في صحيح البخاري ، فلعلّه وقف له على طريق متصل أو ما شابه من الخزعبلات . فمن هو الواسطة بين قتادة وابن أبي عتبة ؟ ننتظر القيامة لنعرف اليقين ، أما في هذه الدار ، فنرجّح أنه ضعيف مخرِّف أو كذاب مجدّف ، وإلا فلماذا لم يصرّح قتادة المدلس بالسماع والاتصال في أي من طرق الحديث على الرغم من كثرة الرواة الذين سمعوه ورووه عن قتادة ؟ جماعة من تلامذته اتفقوا على روايته عنه معنعنا ، وكل واحد سمعه منه في مجلس مختلف ، وكان أمينا حريصا على عدم التصريح بالسماع حتى لا يكذب ، ثم نتبرّع من عندنا بدعوى أن البخاري رحمه الله متأكد من اتصاله . تصريح النقاد بكون قتادة مدلسا : قال الإمام الحاكم النيسابوري ( ت405 ) في "المدخل إلى كتاب الإكليل" (ص: 46) ، وهو يتحدث عن حكم رواية المدلسين: ( وَكَذَلِكَ قَتَادَةُ بْنُ دعَامَةَ إِمَامُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، إِذَا قَالَ : قَالَ أَنَسٌ أَوْ قَالَ الْحَسَنُ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالتَّدْلِيسِ عَنْهُمَا . ثم أسند إلى الإمام الناقد شعبة بن الحجاج قال : كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى فَمِ قَتَادَةَ فَإِذَا قَالَ : حدثنَا ، كَتَبْتُ ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ لَمْ أَكْتُبْهُ ). ه قلت : لكن البخاري ومسلما رحمهما الله كانا يكتبان حديثه ويخرّجان ما لم يصرح فيه بالسماع ، وهما دون شعبة بمراحل . وفي تهذيب الكمال للمزي (23/510) : وَقَال أبو داود الطيالسي، عَن شعبة: كنت أعرف إذا جاء ما سمع قتادة مما لم يسمع ، كان إذا جاء ما سمع قال: حَدَّثَنَا أنس بْن مالك، حَدَّثَنَا الحسن، حَدَّثَنَا مطرف، حَدَّثَنَا سَعِيد. وإذا جاء ما لم يسمع قال: قال سَعِيد بْن جبير، قال أَبُو قلابة. ه وذكره في المشهورين بالتدليس : الحافظ العلائي في جامع التحصيل ، وابن العراقي وابن العجمي وابن حجر في كتبهم الخاصة ب "المدلسين" ، ونقل بعضهم عن النسائي وغيره رميه بالتدليس . العلة الثانية : اضطراب قتادة في السند على ثلاثة أوجه : الوجه الأول : قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله . وهو الوجه المتقدم والمخرّج في الصحيح بدون مرجّح معقول . الوجه الثاني : قتادة عن أبي سعيد موقوفا : فروى سَعِيد بن أبي عروبة أحفظُ تلامذة قتادة ، وتابعه معمر بن راشد الإمام، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَحُجُّونَ، وَيَعْتَمِرُونَ وَيَغْرِسُونَ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. ( تفسير يحيى بن سلام (1/343) وتفسير عبد الرزاق الصنعاني (2/ 392) ) . الوجه الثالث : قتادة عن الخدري عن الرسول : روى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وأيوب بن خوط ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ النَّاسَ لَيَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيَغْرِسُونَ النَّخْلَ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» ( أشراط الساعة لعبد الملك بن حبيب (4/163) ، والمنتخب من مسند عبد بن حميد (ص: 293) والسنن الواردة في الفتن للداني (6/1224) ) . ونلاحظ أن قتادة أسقط شيخه عبد الله بن أبي عتبة وروى عن أبي سعيد مباشرة ، في الوجهين الثاني والثالث ، وهو تدليس أكثر من صريح لأنه لم يسمع إلا أنس بن مالك من الصحابة . وهذا التناقض بين الرفع إلى الرسول والوقف على أبي سعيد الخدري ، مع صحة طرق الوجهين إلى قتادة ، يكشفان وقوعه في التخليط والنسيان الشديد . فإذا أضفته إلى ما سيأتي من أوجه التناقض الأخرى ، أيقنت أن قتادة سمع تلك الخرافة من دجال إسرائيلي ، ثم صار يتخبط وينسب للرسول تارة وللصحابي أخرى . وقتادة تلميذ لكعب الأحبار المسئول الأول عن شيوع الإسرائيليات الأسطورية في الثقافة الإسلامية . فمن يدرينا أنه الذي حدثه عن عبد الله بن أبي عتبة أو أبي سعيد الخدري كذبا ودسّا، ثم كان يدلّسه أو ينساه ؟ العلة الثالثة : اضطراب قتادة في المتن : اضطرب قتادة الذي دلّس السند في المتن كما اضطرب في السند . فأخرجه البخاري من طريق الحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وقال : تَابَعَهُ أَبَانُ، وَعِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُحَجَّ البَيْتُ»، وَالأَوَّلُ أَكْثَرُ» . ه قلت : ورواية الإمام شعبة بن الحجاج رواها عنه جماعة من الأئمة الأثبات كابن مهدي ويحيى القطان عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت" (صحيح ابن حبان (15/151) والمستدرك للحاكم (4/ 500) قال الحاكم : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَقَدْ أَوْقَفَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ " وقال الذهبي : على شرط البخاري ومسلم . وقال الألباني في " الصحيحة " (5/ 556) الحديث 2430 : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين كما قال الحاكم، ووافقه الذهبي. قلت : نعم ، صح الطريقان إلى قتادة وليس إلى أبي سعيد الخدري بله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا رواية شعبة فصرح قتادة بسماعها من ابن أبي عتبة عند الحاكم . وقد اتحد مخرج المتنين الروايتين وموضوعهما ، واختلفت مضامينهما ، وتناقض قتادة ودلس واضطرب فثبت عدم ضبطه . فإما أن نتوقف فيهما ونطرحهما معا للعلل المتقدمة ، أو نرجّح أحدهما . والراجح هو المتن الثاني لعدم مناقضته القرآن والعقل والعلم ، ولموافقته الأحاديث الصريحة في أن الساعة لن تقوم إلا على شرار الناس بعد فناء المؤمنين ، ثم لتصريح قتادة بسماعها من شيخه . استشعار الحفاظ علة اضطراب المتن ومعالجتها بالعاطفة : لم يسلم هذا الحديث من الطعن كما يتصوّر من يجده في صحيح البخاري فيظن أن العلم ينتهي عنده ، فالواقع أن الحديث مذكور في الروايات المُعَلَّة وخاضع للنقد . ففي علل الحديث لابن أبي حاتم (6/529) : سألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رواه عبد الرحمن بْنُ مَهْدِيٍّ ، عَنْ شُعبة، عَنْ قتادة، عن عبد الله بْنِ عُتْبة - أَوِ ابْنِ أَبِي عُتْبة-، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ قَالَ: ليُحَجَّنَّ هَذَا البيتُ ولَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يأجوجَ ومأجوجَ. قلتُ: رَوَى هَذَا الحديثَ أبانُ العطَّار عَنْ قتادة، عن عبد الله ابْنِ أَبِي عُتْبة، عَنْ أَبِي سعيد، عن النبيِّ ، فأيُّهما الصَّحيح؟ قَالَ أَبِي: سمعتُ أَبَا زِيَادٍ حمَّاد بْنَ زَاذَانَ يحدِّث عن عبد الرحمن هَذَيْنِ الحديثَين، ثُمَّ قَالَ: سمعتُ عبد الرحمن يَقُولُ: مَا أَرَى أَبَانَ إِلا وَقَدْ حَفِظ. قَالَ أَبِي: حديثُ أَبَانٍ أصحُّ مِنْ حَدِيثِ شُعبة. وقال ابن حجر في تغليق التعليق (3/ 68) : وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثَانِ جَمِيعًا صَحِيحَيْنِ لِقُوَّةِ إِسْنَادِهِمَا ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ ) وَقْتًا قَبْلَ قِيَامِهَا ، وَبَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، جَمْعًا بَين الْحَدِيثين وَالله أعلم . ه وهناك آخرون كرّروا الجمع الذي اقترحه الحافظ ابن حجر رحمه الله . وقفة مع أبي حاتم رحمه الله : ذهب هذا الإمام العظيم إلى أن رواية أبان بن يزيد العطار أصح من رواية شعبة بن الحجاج ، ولم يذكر لنا حجته على الأصحّية تلك . ونحن نقول : بل رواية شعبة أصح لما تقدم ، ثم لأن شعبة إمام حجة لا يقارن به أبان العطار الذي تكلّم في حفظه وضبطه بعض النقاد ، وسجلوا عليه الانفراد بروايات منكرة ، لذلك ترجمه ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (2/ 73) ، وابن الجوزي في "الضعفاء والمتروكون" (1/ 20) ، والذهبي في الميزان وديوان الضعفاء و"الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم" (ص: 39) . بل إن أبا حاتم نفسه قال عن أبان : صالح الحديث . وفسرها الذهبي بقوله : قَالَ أَبُو حَاتِم : صَالح الحَدِيث. وَهَذِه الْعبارَة تدل على أَن غَيره من رفاقه أثبت مِنْهُ كهمام وبشار . ه ورغم دفاع ابن عدي عن أبان ، فإنه لم يزد على قوله : وَهو حَسَنُ الْحَدِيثِ مُتَمَاسِكٌ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَهُ أَحَادِيثُ صَالِحَةٌ، عَن قَتادَة وَغَيْرِهِ وَعَامَّتُهَا مُسْتَقِيمَةٌ، وأرجُو أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ. ه وأين هذه العبارة من التبجيل والتوثيق التام الذي يحظى به شعبة الإمام المجمع على كونه المنتهى في الحفظ والإتقان . نعم ، تابعه حجاج الباهلي وعمران ، وهم جميعا لا يتماسكون أمام شعبة . هذا على فرض خلو السند من المشاكل والعلل العائدة إلى قتادة من تدليس واضطراب سندا ومتنا ، ناهيك عن أن رواية شعبة موافقة للكتاب والسنة ولا معارضة فيها للعقل والعلم كرواية أبان العطار ومن تابعوه . وقفة مع ابن حجر رحمه الله : يعلم الحافظ ابن حجر وغيره أن الجمع يكون حين يخلو الطريقان من العلل القادحة سندا ومتنا ، وهو ما لم يبحث عنه . كما يدري جيدا أن الجمع يصار إليه حين تتعدد مخارج الحديثين المختلفين. ونحن هنا أمام روايتين لحديث واحد مروي بإسناد واحد ، ولسنا أمام حديثين مختلفي الإسنادين . فإما أن قتادة سمع الرواية الأولى من عبد الله بن أبي عتبة ، أو سمع الثانية على فرض انعدام التدليس . أو أنه لم يسمع واحدة منهما ، فهو التخبط والتخليط والتوهم الذي لا يسلم منه أي إنسان مهما كان . والخلاصة أن الإمام أبا حاتم رجّح رواية أبان العطار دون مرجّحات قويمة ، بل قوله : ( مَا أَرَى أَبَانَ إِلا وَقَدْ حَفِظ ) ، إقرار ضمني بأنه معتمد في ترجيح روايته على الظن والرأي فقط . وأما الحافظ ابن حجر ومن شايعه في طريقة الجمع تلك ، فقد تجاهلوا شروط الجمع ، وتناسوا مرجّحات رواية شعبة ، فإنهم يعلمون أن اضطراب الراوي في روايات الحديث الواحد ، يوجب الجمع بشروط ، أو ترجيح إحدى الروايات استنادا إلى مرجحات معقولة . خلاصات واستنتاجات : أولا : قتادة مدلِّس ولم يصرّح في أي من طرق الحديث بسماعه وأخذه مباشرة من شيخه التابعي عبد الله بن أبي عتبة ، فالسند منقطع ، والواسطة بينهما مجهولة . ثانيا : قتادة سمع الإسرائيليات من أهل الكتاب ، وتتلمذ لهم ، وفي شيوخه المجاهيل والضعفاء جدا والكذابون ، فيحتمل أن يكون سمع ذاك الكلام من أحدهم ينسبه للرسول كذبا أو سهوا . ثالثا : قتادة المتفرّد بالحديث ، لم يستقم في أدائه بل تناقض واضطرب من عدة أوجه ، فلا نطمئن لحفظه ولا نأمنه على سنة رسول الله ودينه ، طبعا كلامنا خاص بحديث المقال فقط أو ما شابهه من أحاديث قتادة رحمه الله . رابعا : قتادة روى بسنده إلى أبي سعيد الخدري روايتين مختلفتين لحديث واحد ، إحداهما موافقة للقرآن والأحاديث الصحيحة ، فهي المحفوظة الصحيحة . النتيجة الخاتمة : سمع قتادة رحمه الله كذابا ينسب لعبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد مرفوعا : " ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج " . أو أنه سمع تلك الجملة من أحد شيوخه المولعين بالإسرائيليات والأساطير . وكان قد أخذ الرواية الصحيحة ( لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت ) عن عبد الله بن أبي عتبة بدليل تصريحه بالسماع لها عند الحاكم في المستدرك . وبفعل الزمن الذي ينسي ويضعف الذاكرة ، اختلط ما سمعه قتادة من الكذابين أو أهل الكتاب ، بما سمعه حقا قويما من شيخه عبد الله بن أبي عتبة ، فجعل الأكذوبة الخرافية حديثا مرفوعا . وهناك احتمال وارد : جملة : " ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج " قالها أبو سعيد الخدري تصديقا منه لأساطير أهل الكتاب ، بقرينة ورودها موقوفة عليه من طريقين صحيحين إلى قتادة فقط ( انتبه : الصحة إلى قتادة ثابتة ، أما إلى شيخه وأبي سعيد فلا ) . فاختلط الحال على قتادة الذي كان يحفظ حديث أبي سعيد المرفوع الخالي من النكارة: ( لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت ) ، فصار يرفع قولة أبي سعيد المأخوذة من أهل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومثل هذه الأنواع من الاختلاط والتوهمات ، تحدث للصحابة فضلا عن التابعين وأتباعهم ، دون أن تخدش علمهم وصدقهم . وعموما ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إن الناس سيحجون البيت ويعتمرون بعد خروج يأجوج ومأجوج ، لأن خروجهم لن يكون إلا بعثا من قبورهم كما جاء صريحا في سورة الأنبياء . والحمد لله رب العالمين . [email protected]