في زمن الفتن، واختلاط المفاهيم، وحرب المصطلحات، والتباس الحق بالباطل، احتاجت الأمة إلى قائم لله بالحجة يحيي ما اندرس من دينها، وانطمس من هدي نبيها، يدفع عنها الشبهات، ويرفع عن قلبها التعلق بالشهوات، وينير سبيلها بالرد على البدع والمخالفات،ضمانا لتحقيق الأمن في زمن الاضطراب، والائتلاف في عصرالفرقة والاختلاف، وسلامة المعتقد والتمسك بالثوابت في وقت تكالب الأعداء على التشكيك في مصادر الأمة الأصيلة، وتكدير الساحة الفكرية بالآراء الفاسدة، والسفسطات الفلسفية الزائفة، فرفعوا شعارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، هدفها التشويش على أهل العلم، وقطع الطريق أما المسلم، ومن هذه الشعارات شعار التجديد،وهو مصطلح تردد على ألسن، لكل لسان وجهة هو موليها، فأرادت به طائفة محض الحق، وأرادت به أخرى محض الباطل، في هذا السياق جاء هذا المقال الكاشف عن إشكالات هذا الشعار بشيء من الاختصار، تاركا لأهل الغيرة على هذا الدين تناوله عرضا ونقدا، من غير التفات إلى الصادين عنه بدافع الاستهلاك في التأليف، فاتحين المجال أمام أهل التدليس والتلبيس والتزييف، وإن عادوا عدنا. فأقول: مفردة جدّد في اللغة ضد الخلق والبلي، يقال: جدد الوضوء أعاده،وجدد العهد أكده وأحياه. فالتجديد في اللغة إعادة الشيء بعدما خلق وبلي إلى ما كان عليه أول الأمر. قلت: لابد من مراعاة عنصرين في دعوى التجديد وهما: – أن يكون له أصل لكن تنوسي أو أصابه البلى. – إرجاعه إلى ما كان عليه في الحالة الأولى. وعلى هذه المقدمة فالتجديد في الأصول والفروع ينبغي أن يتناول جميع المسائل الفقهية والعقدية والسلوكية تعلما وتعليما ونشرا وعرضا وردا، من خلال إحياء ما اندرس من معالم الدين، وانطمس من أحكام الشريعة، وخفي من السنن. فدعوى التجديد هو للأمة وتديّنها الذي يصيبها الضعف بالزيادة والنقص والانحراف، لا للدين نفسه المحفوظ بحفظ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا تقرر ما تقدم فليصطحب أهل التجديد في دعوتهم مصادر التجديد وهي القرآن والسنة الذين يبنى عليهما الفقه العلمي والعملي الذي هو هداية للواقع بهدي الدين. قال السيوطي في وصف المجدد: يشار إليه بالعلم إلى مقامه،وينصر السنة في كلامه، وأن يكون جامعا لكل فن، وأن يعم علمه أهل الزمن.. عالما بصيرا بالإسلام وداعية رشيدا يبصر الناس بكتاب الله وسنة رسوله الثابتة، ويجنبهم البدع، ويحذرهم محدثات الأمور،ويردهم عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم،كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قلت: ولذا فكل مدّع للتجديد يتعين أن يكون صاحب سنة، وعقيدة سليمة، سالما من سفسطة الفلاسفة، ولا يعني ذلك ادعاء العصمة للمجدد، مع سلامة منهجه الاستدلالي وصحته، باعتماد مصادر التجديد وهي الكتاب والسنة، وما أحال عليه الوحي من أدلة التشريع الثابتة، وهي الإجماع والقياس والمصلحة الراجحة التي لا تتعارض والنصَّ الشرعي. فهذه الأوصاف التي نعت بها السيوطي المجدد فاضحة وكاشفة لكل مدّع المجددية بثياب زور، أو شهادة بهتان، وهذا لا يعني ضرورة إنكارنا لمبدأ التجديد، بل هو مبدأ وأصل مستمر وشامل للأجيال اللاحقة، وقد نص أهل العلم قاطبة على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ما استعصى فهمه من القرآن لأصحابه دون غيره، ليقرر أبدية القرآن وأن الزمان والمكان لايصلح إلا به، وأن على كل جيل من الأجيال اللاحقة أن يفسره بما فتح الله عليه، وبما وهبه من فتوحات في مواجهة المستجدات والنوازل ومحاولة إيجاد حلول ملائمة حسب الضوابط الشرعية المعروفة وسعة الدلالة القرآنية والحديثية، لكن محلالإنكار هو إحداث فقه جديد ورفض الفقه القديم العتيق، وبناء مسائل دون عرضها على الفقه الأصيل بقواعده ومرونته وشموله؛بحجة تأثير الواقع وادعاء فهمه تارة، وبحجة التقارب بين الأديان وإلغاء الفوارق بينها تارة أخرى، مما يدفع بالأمة لزاما حسب زعمهم إلى التخلص من الفقه العتيق، وما تضمنه من أحكام بليت وبلي أصحابها؛ لأنه قاصر عن الإجابة عن إشكاليات العصر، ولا يناسب المسلم المعاصر الذي يعيش تحت ضغوط واقعية، ومتغيرات اجتماعية ودولية، كل ما تقدم دفع بعض أدعياء التجديد إلى الإسراف في التوجيه والتعليل، والمبالغة في التأويل، وترك العمل بالتنزيل؛ بغية مسايرة العصر، واستبعاد بعض القضايا العقدية والمسلمات الشرعية، بإعادة النظر فيما خطه علماؤنا في التفسير وأصول الفقه والحديث وقضايا العقيدة وإخضاعها للعقلية المعاصرة، بقوالب منهجية غربية، وفق مقاربة بينها وبين الإسلام مع إذابة الفوارق بينهما. وإنها دعاوى شبيهة بعبث أهل الأوثان، وطيش أهل الكتاب الذين وصفهم الله بقوله: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} وقوله:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}،فانطلقوا ينشرون الفاحشة، ويحلون الحرام، ويحرمون الحلال باسم الدين، إلا أن بعض أهل زماننا وبني جلدتنا هم أخف عقولا وأضل سبيلا، فزعموا أن الدين هو الحائل بيننا وبين اللحاق بركب الحضارة والتطور، وتجاهلوا أن القرآن تنوعت أساليب خطاباته، فتارة جاء النداء بوصف الإيمان فيقول: {يا أيها الذين آمنوا}، وتارة يعمم فيقول: {يا أيها الناس} ؛ ليعم أهل جميع الأزمنة والأمكنة متى تحقق الوصف في كل عصر بأعرافه ووقائعه..لكن أدعياء التجديد تجاسروا على الأمر الرباني بدافع مقاصد الشريعة تارة، وبحجة إخضاع الإسلام للعقل والواقع تارة أخرى، واعتبارهما – أي العقل والواقع- حاكمين عليه، فما كان موافقا للواقع ومسايرا له أخذوا به، وما خالفه لم يعملوا به، فأحدثوا فوضى فكرية، فتحت باب التشكيك في مصادر التجديد، فالتبس الأمر وانطلى على بعض الخاصة، وشوش على العامة، وتترس به المتربصون لهذه الأمة؛ لينفقوا بضاعتهم الكاسدة باسم الدين على بقية البقية من ذوي الاتجاه المحافظ؛فوقعوا في شراك أعداء الإسلام، الموقنين بعد التجارب الطويلة والمحاولات الكثيرة أن هدم الإسلام من الخارج والوقوف أمام تياره طريق غير ناجح، فسلكوا لهدمه طريقا أخرى من الداخل يدعو لإصلاح الإسلام، وتجديد أحكامه، والاستخفاف بثوابته من كل قديم فيه، بطريقة خادعة تجذب بعض المنتسبين إليه، الجوفاء صدورهم من ثقافته وعلومه الشرعية، بعاطفة دينية تحمل شعار "تجديد الدين"، كما نص على ذلك المستشرقان "سمث" في كتابه" الإسلام في التاريخ الحديث" و"جيب" في كتابه "إلى أين يتجه الإسلام؟"،الذين يدعوان فيه المسلمين إلى تحريف دينهم وتمزيق قضاياه،باسم التطور والتحضر، ويدعوان أبناء جنسه ودينه إلى مراقبة تلك الحركات التجديدية وتشجيعها؛ لأنها هي الوحيدة الكفيلة بتفتيت وحدة المسلمين واندماجهم في الحضارة الغربية. هذا؛ ومن تأمل أسباب نزول القرآن، وسبب ورود الحديث، ووقائع السيرة، ومواقف العلماء على اختلاف الأمصار والأعصار، علم يقينا أهمية فقه الواقع، فليس مجددا ولا يدّعى له التجديدية من لا يفقه الواقع، ولا يميز بين الثابت والمتغير، فأصول الإيمان أعني مسائل الاعتقاد، وأركان الإسلام، ونصوص الكتاب والسنة، وما تضمنت من المنهيات وأمهات الفضائل والحدود المقررة شرعا ثوابت غير قابلة للتبديل ولا للتغيير، وإنما تجديدها بإحياء الفهم الصحيح لها، وإزالة ما علق بالأذهان من شبهات حولها وربط بعض الظواهر المستجدة بأصول الاعتقاد وكلياته، ومن زعم غير ذلك فقد صادم الشرع الحنيف، وعارض كون الدين محفوظا لا يصلح الزمان والمكان إلا به. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: العوائد المستمرة ضربان: أحدهما:العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا، أو نهى عنها كراهة أو تحريما، أو أذن فيها فعلا وتركا. والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي. فأما الأول، فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية.. إما حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها، فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا.. إذ لو صح مثل هذا لكان نسخا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل، فرفع العوائد الشرعية باطل. وأما الثاني، فقد تكون تلك العوائد ثابتة، وقد تتبدل، ومع ذلك، فهي أسباب لأحكام تترتب عليها. فالثوابت التي أشار إليها الإمام الشاطبي هي أصول الإيمان،وأركان الإسلام، من صلاة وزكاة، وصوم وحج، وقيم سلوكية، وتبقى دائرة المعاملات التي جاءت فيها النصوص عامة تسع للإجابة على كل إشكال، واستيعاب كل طارئ، اعتمادا على ما وضعه أهل العلم من قواعد كلية، وأصول عامة، يراعى فيها واقع الفقه، وتجيب عن فقه الواقع، فلا يبقى بعد ذلك حجة لمعتذر أو قول لمشكك. يقول الشيخ بكر أبوزيد: إنه من خلال البحث العلمي بطريق التتبع والاستقراء لحياة الأمم وحالة العمران على اختلاف الأديان والأزمنة والأقاليم، والتغيرات والأحداث، ثبت أن كل قوة وملة وكل طائفة وأمة تضعف مقوماتها وتذوب مقوماتها المحرفة أمام كل قوة وملة، وكل طائفة وأمة سوى هذه الأمة، أمة الإسلام، الإسلام الكريم، والدين الخالد المحفوظ، الناسخ لجميع الملل والأديان، وهذا دليل مادي من آثار قول الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، فهي حقيقة شرعية مؤيدة بذلك الدليل المادي، لا تقبل الجدل ولا المراء، ومن نظر في كتب الأديان والتأريخ علم صدق هذه النتيجة. ولكن قد يرد تساؤل عن سر ذلك البقاء والخلود، ومعطيات هذه المقاومة والصمود، والإفصاح عن ذلك أن في الإسلام قوى متعددة الواحدة منها كافية في رد كل غارة ونزعة، وكبت كل مقاومة وصراع، لكن أبرز هذه القوى والعوامل عاملان: أحدهما: عامل الكمال والشمول، وما أودعه الله في هذا الدين من الحيوية والصلاحية في كل عهد ومهد. وأما الثاني: فهو عامل الحراسة والتجديد في رحلة الإسلام الطويلة المتواصلة، فما من عصر إلا ويقوم فيه في كل ناحية رجال ما ساروا مسيرا ولا قالوا مقيلا إلا كانوا مع الديانة الإسلامية حيث كانت منازلها، وساروا معها حيث كانت ركائبها، يَدلُّون من ضل إلى الهدى، ويكشفون طرق الغي والردى، فقضوا على المؤامرات في مهدها، بكبت كل نزعة وكسر كل قوة، وفل جموع الضلالة، إحياء للسنن وإماتة للبدع، وحراسة لمواريث الإسلام، والذب عن قضاياه، فبدت محجة الإسلام نقية خالصة من شوائب التقليد والوثنية والطائفية. هذا؛ وإن عامل الحراسة المشار إليها في كلام الدكتور بكر أبي زيدشاملة جميع العلوم والفنون الخادمة لرحلة الإسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها»، فقوله: «دينها»، يشمل جميع العلوم الخادمة للدين، عقيدة، وفقها، وسياسة، ولغة، وسلوكا، واقتصادا، فتحيا به نفوس الأمة، وتنهض لنصرة كتاب ربها تعظيما وقراءة وحفظا وتدبرا وعملا وتحكيما وتربية للناس عليه تقريرا، وردا وعرضا، لضمان قيام نهضة إصلاحية جادة في جميع المجالات مع انفتاح على الحضارات الأخرى في ظل المحافظة على الثوابت والمسلمات والمرونة مع المتغيرات.