في العدد 337 من جريدة التجديد الصادر بتاريخ 14 - 13 أبريل 2002 ورد في ص 7 المخصصة للدين والحياة، تقرير بعنوان "فقه الأقليات المسلمة ومراعاة تغير الفتوى. وهو تقرير عن محاضرة ألقيت على الجالية الإسلامية بستراسبورغ بفرنسا في موضوع: "تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان". وقد تضمن هذا التقرير أغلاطا علمية قاتلة لا يليق بالمسلم الانزلاق إلى مثلها. وبما أن الأمانة الدينية والعلمية تحتم التنبيه على مثل هذه الأغلاط فإنني أجملها في المسائل الآتية: 1 الغلطة القاتلة التي وردت في التقرير تضرب العقيدة الإسلامية من أساسها هي وصف الله تعالى بالتبدل والتغير، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فقد ورد في التقرير قول صاحبه: «وأشار المحاضر إلى أن البعض يستدل بقوله تعالى (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) وهذا غلط في فهم الآية لأن سنة الله التبديل ،والتغيير حتى فيما يتعلق بذاته وشأنه فهو الذي يقول سبحانه (كل يوم هو في شأن)» انتهى كلام المقرر بنصه. وهو كلام ينسب لله تعالى أن يبدل ويغير في ذاته وشأنه، وهذا كلام باطل فاسد ما قال به أحد من المسلمين حتى غلاة الفرق الكلامية منهم. لأن من القواعد العقلية المسلمة للجميع: أن التبدل والتغير دليل الحدوث، ألا ترى أن علماء التوحيد حينما يريدون الاستدلال على حدوث العالم ينطلقون إى ذلك من مقدمة كبرى مسلمة قطعية فيقرون الاستدلال هكذا: العالم متغير وكل متغير حادث إذا: العالم حادث. فكيف يجوز لمسلم أن يصف ربه عز وجل بالتغير والتبدل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!!! وأدهى من ذلك وأمر: أن يؤصل هذا البطلان والتيهان، ويستدل عليه بالقرآن، بقوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) وكان الأولى قبل إرسال هذا الكلام الجانح الجامح أن يلتمس تفسير هذه الآية، فالقرآن لا يقال فيه بالرأي ولا يفسر بما تأتى دون الرجوع إلى أصول ذلك وقواعده، وإذا كان المحاضر كما ذكر المقرر يستنكر على "البعض" سوء فهمه لقوله تعالى: (ولن تجد لسنة الله تبديلا) ويعتبر فهمهم لها غلطا، وهو استنكار مردود وتغليط مرفوض، لأنه لم يقم على دليل علمي مقبول فأولى به أن يستنكر على نفسه فساد فهمه للآية: (كل يوم هو في شأن)، فالآية لا تدل أبدا على تبدل الله وتغيره في ذاته وشأنه، ولا أنه يبدل ويغير من ذاته وشأنه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل الآية تدل على أنه عز وجل غني عن خلقه، وأن خلقه مفتقرون إليه، إذ من صفاته المعروفة عند علماء التوحيد: الغنى المطلق، والقيام بالذات، والمخالفة للحوادث، ومحال فيمن كانت هذه صفاته أن يتبدل أو يتغير. قال العلامة ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وهذا إخبار عن غناه عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم وأنه كل يوم هو في شأن، قال الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير (كل يوم هو في شأن) قال: من شأنه أن يجيب داعيا أو يعطي سائلا أو يفك عانيا أو يشفي سقيما...» تفسير ابن كثير: 491 - 490/6. ثم إن الآية مربوطة بما قبلها فكان يجب أن لا تقطع عن سياقها، فالآية بتمامها: (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن). فتفسير الجزء الثاني من الآية يجب أن يكون مستحضرا الجزء الأول منها، وبهذا يكون المعنى: إن الله تعالى كل يوم هو يجيب عباده السائلين المفتقرين إليه.. ثم إن كان ولابد من فتنة التبدل والتغير، فلينسب ذلك إلى أهله وهم الخلائق كما تدل على ذلك الآية في شقها الأول، فالتبدل والتغير من صفات الخلق، وإجابة الله تعالى لخلقه السائلين كل يوم وكل لحظة لا تدل على أنه يتبدل سبحانه وتعالى عن هذا القول علوا كبيرا. وفي ختام هذه المسألة لابد من التنبه إلى أن الكلام في مثلها يستوجب الاضطلاع بعلوم الشرع عامة، وعلم التوحيد خاصة، فضلا عن علوم اللغة اللازمة لتفسير القرآن الكريم. 2 ورد في التقرير أيضا قول صاحبه: «أما المسلمون في الفقه وليس في الشريعة فيجوز لهم أن يبدلوا ويغيروا، لأن الفقه ليس أمرا ربانيا، إنما هو اجتهاد العقل المسلم في فهم الأمر الرباني...». وهذا كلام مختل يدل على الجهل بعلم الفقه وأصوله!! ووجه اختلاله ما فيه من إجازة التبديل والتغيير المطلقين في الفقه. وما فيه من الفصل بين الفقه والشريعة وإحداث كلمة بينهما. وما فيه من نفي الربانية عن الفقه الإسلامي. أما التبديل والتغيير في الفقه، بهذا الإطلاق، وبهذه السماحة، فلم يقل به أحد من الفقهاء، وليس الفقه الإسلامي مرعى لعموم الناس فضلا عن أن يستباح فيه التبديل والتغيير. إن الفقه الإسلامي علم شرعي، وعمل شرعي، قائم على قواعد وضوابط وميزان لا يمكن أن يباشره إلا أهله المتمرسون به وما أهلك الأمة وأشقاها إلا اقتحام حمى الفقه وهو ثمرة العلوم الشرعية ودخول من ليس من أهله فيه. إن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، مسألة لا يجوز الكلام فيها إلا من الذي وصل إلى الاجتهاد في إحدى مراتبه المعروفة عند الفقهاء. وهي أيضا مسألة لا يجوز أن يلج بابها إلا الذي حذق العلوم الشرعية واللغوية، وأحسن فقه التأصيل وفقه التنزيل معا، وأتقن مناهجها وقواعدها وما أثر عن الفقهاء فيهما من سوابق وتجارب. وأما الفصل بين الفقه والشريعة فهو فصل بين متلازمين، لأن الشريعة لا سبيل إلى تطبيقها إلا بعد أن تفهم، وفهمها هو فقهها. فالفقه قائم على الشريعة وهي مادته. وأما نفي الربانية عن الفقه الإسلامي، فهذا باطل فاسد، لأن الفقه كما سبق مادته الشريعة الإسلامية، وهو قائم عليها فالفقه رباني المصدر، ويؤكد ربانيته أن الله تعالى الذي تعبدنا بشريعته هو الذي أمرنا بالتفقه فيها، فقال سبحانه وتعالى في سورة التوبة: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون). وأنه تعالى وصف العلماء بالربانيين فقال عز وجل: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) (آل عمران). 3 ورد في التقرير أيضا قول صاحبه حاكيا عن المحاضر: «والحاصل أن ظروفهم الخاصة تحتاج إلى بلورة فقه جديد بدأ التنادي به في العقد الأخير من هذا الزمان، وهو فقه الأقليات المسلمة، لأن الفقه الإسلامي الموجود منذ أربعة عشر قرنا وإلى اليوم هو فقه الأكثرية... الخ» وهذا كلام فاسد لا يخضع للميزان العلمي، لأن الفقهاء ما تركوا حالة من حالات المسلمين ولا وضعا من أوضاعهم إلا تكلموا عن ذلك وعن أحكامه الشرعية. وفي هذا الإطار يأتي حديثهم عن الأقليات المسلمة في بلد الكفر وعن الأقليات غير المسلمة في بلد الإسلام، وفي هذا الإطار يأتي تقسيمهم الأرض إلى: أرض الإسلام وأرض الكفر أو تقسيمهم الديار إلى ديار الإسلام وديار الكفر والحرب... بل إن هذه المسألة مؤصلة في النصوص الشرعية، وواردة أحكامها الكلية في القرآن والسنة، من ذلك مثلا قوله تعالى في سورة الفتح: (ولولا رجال مومنون ونساء مومنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما).. ولذلك لا حاجة إلى هذا الكلام الفضفاض الجامح الذي يجر إلى تمييع الفقه وقذعه عن أصوله «تحتاج إلى بلورة فقه جديد...». 4 ورد في التقرير وصف الصحابة بما لا يليق بهم من ألفاظ كلفظة التجرؤ الواردة في التقرير عند قول صاحبه: «وأشار إلى أن الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير تجرأ في فهم هذا النص النبوي...». 5 وقد وردت في التقرير أمور أخرى فيها اختلال وفساد، وتدل على الجهل بعلم الفقه وأصوله وعلوم الشريعة مثل: «وقال إنه من خلال ما تقدم يكون للزمان والمكان دوره في تعديل الحكم الشرعي». "إذن، فالحق واحد والصواب متعدد" فمثل هذه الأمور لا يليق بالعاقل أن يرسل فيها الكلام هكذا على عواهنه دون فحصه بالميزان العلمي الشرعي. 6 ومن الأغلال القاتلة أيضا: الكلام في عمق الفقه وأصوله من غير التزود لذلك بما يلزم لذلك من العلوم الشرعية من توحيد وفقه وأصول ومقاصد...! وبعد: أفما آن لأبناء الأمة الإسلامية عموما، ولأبناء الحركات الإسلامية خصوصا أن يلتزموا بالرشد الإسلامي في أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم، وأن يستبصروا في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان في كل شيء...». ألا، إن من تمام الرشد والوعي الإسلامي والإحسان المطلوب شرعا: أن لا نتكلم في علم إلا إذا كانت لنا فيه بضاعة. ولا نفني فيه إلا إذا كانت لنا فيه ضلاعة. محمد الروكي