استند القرآن الكريم في آياته الإعجازية مراراً على مسألة خلق النباتات، ومزاياها المختلفة، ودعا الإنسان إلى التفحُصِ في أسرار هذه الموجودات الرائعة في عالم الخَلق، فمن المعلوم أن اللون السائد في الزرع هو اللون الأخضر، وقد تكلم القرآن الكريم عن هذا اللون وأعطاه اهتماماً كبيراً، بل جعله أهم الألوان في جنات النعيم التي وعدها الله عباده المتقين. واللون الأخضر هو سيد ألوان الجنة، وأساس الحياة التي نعيشها، فلا حياة على هذه الأرض بدونه، بل يعد من أهم أدوات الطب النفسي، حيث يعدُّ أكثر الألوان راحة للنفس وللعين ووجوده في مكان ما دليل على وجود الحياة معه، فهو لون متفائل مريح لا يصيب مشاهده بالكآبة والضيق، وإنما يضفي عليه راحة وجمال، ولذلك اختير لوناً للجنة ولأزيائها، وهو من أحب الألوان إلى البشر لما فيه من جمال وحيوية وانسجام مع الطبيعة والفطرة ولما يعنيه من الأمان والسلام، ولذلك جاء اللون الأخضر مرتبطاً بالزرع في عدة مواضع في القرآن الكريم. قال تعالى: "وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأنعام: 99). إذن فهذه المصانع الخضراء تخرج من النبات عند بدء نموه والنبات يخرجه الماء في بذوره وأصوله، فالله سبحانه وتعالى أنزل من السماء ماء، فأخرج به نبات كل شيء، وأخرج من النبات هذه المصانع الخضراء التي منها تخرج المواد الغذائية التي تتكون منها الحبوب والثمار بل وسائر أجزاء النبات، ولكن هذه الحقيقة جهلتها البشرية، ولم تعرفها إلا بعد بحث استغرق ثلاثمائة عام من عام (1600م) حيث أجرى علماء فسيولوجيا النبات (علم وظائف الأعضاء) أبحاثاً وتجارب كثيرة لمعرفة عملية البناء الضوئي. إن العلماء الباحثين في مجال فسيولوجيا النبات اكتشفوا أن المادة الخضراء هي التي تقوم بامتصاص الطاقة الضوئية، وتحويلها إلى طاقة كيميائية ينتج عنها تكوين الثمار المختلفة، وكان هذا الاكتشاف بعد دراسات متواصلة وتجارب متنوعة استغرقت قروناً ثلاث امتدت إلى القرن العشرين، وبعد أن توافرت لهم وسائل البحث العلمي قرروا في نهاية المطاف أن في النبات الكربوهيدراتية التي هي أساس لتكوين جميع المواد المكونة للثمار والأشجار والزروع، وهذا ما قرره القرآن الكريم قبل ألف وأربعمائة عام، على لسان نبي أمي عاش في بيئة صحراوية وفي أمة أمية وفي عصر لم تتوافر فيه آلات البحث العلمي، ومن عظمة القرآن الكريم أن يذكر الحقيقة وأن يأخذ بأيدي الناس للوقوف على أول الطريق ممن أراد معرفة السر، فيقول: "انظُرُواْ إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ"، فهو يوجه النظر إلى بداية تكون الثمرة وعلاقتها بالإيناع الذي يتوقف عنده إنتاج تلك الثمار بسبب اصفرار أوراق بعض النباتات وموت خلاياها. فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة؟ وهو النبي الأمي الذي عاش في تلك البيئة الأمية، وهو في زمان لم توجد فيه أبسط الأجهزة، فضلاً عن امتلاك ما تتطلبه معرفة هذه الحقائق من الأجهزة المتطورة ومراكز ومعامل الأبحاث في مجال فسيولوجيا النبات. إن اشتمال القرآن على هذه المعلومات النباتية الدقيقة يشهد أنه من عند الله القائل: "لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا" (النساء، آية: 166). وفي قوله تعالى: "نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا"، فالحب بألوانه المختلفة وأشكاله المتنوعة يضيف للزرع جمالاً إلى جماله ويحلي للزرع تاجاً على رأسه متعدد الألوان، الأمر الذي يضفي عليه روعة وبهجة ووقاراً، وقد وصف القرآن الكريم الحب بألفاظ تشوق النفوس للنظر إلى الجمال الذي تكلَّمت عنه منها لفظ "مُّتَرَاكِبًا". فالحب: هو ثمر النبات كالبر، والشعير والزروع كلها. والمتراكب: الملتصق بعضه على بعض في السنبلة مثل القمح وغيره. والتفاعل في قوله "مُّتَرَاكِبًا" للمبالغة في ركوب بعضه بعضاً. وجاء اللفظ "نخرج" بصيغة المضارع: لاستحضار الصور، لما فيها من الغرابة حتى لكأن السامع يشاهد الإخراج أمامه بكل ما له من جمال، كما يفيد تجدد هذا الإخراج واستمراره. والقرآن الكريم في هذه الآية كما في غيرها يطالب المسلم بالنظر خاصة إلى الثمر وجماله ونضجه وتراكبه لتستمتع النفس بجماله؛ ليكون ذلك حافزاً لإدراك أسرار الصنعة الإلهية وكيف إنزال الماء فأخرج به النبات وفيه تلك المادة الخضراء التي تتكون منها الثمار، وتتحول إلى حب جميل متراكب. وإذا تأملنا إلى الجنان في عنقود العنب لرأيناها متراكبة على شكل انحدار أو مثلث مقلوب ليس بين حبة وأخرى من فروج، وإنما هو ياقوت أو لؤلؤ متراك، وإذا ما قطعت ثمرة نصفين رأيت غشاء أبيض رقيقاً يمتد بين كل مجموعة وأخرى ما أن تمتد أصبعاً أو أصبعين ترفع بهما الغشاء حتى تظهر لك حبات الرمان متراكبة، متراصة متناغمة بلونها الأحمر الفاقع، كأنه الياقوت ثم ترفع غشاء آخر فإذا أنت أمام خلية نحل أخرى، وهكذا فسبحان الله أحسن الخالقين. وفي تنوع الزرع جمال، حيث تتعدد الأنواع تعدداً كبيراً، فمنه الطويل والأطول، ومنه القصير والمتوسط، ومنه سميك الساق ونحيفها، ومنه متعدد السيقان ومفردها، كما تتعدد ألوانه وتتدرج فيما بينها ولكل نوع ما يميزه من الجمال عن بقية الأنواع، وقد ذكر هذا التنوع في مواضع قرآنية مختلفة، تعطي إشارات واضحة إلى جمال التنوع الذي يتمتع به الزرع. – قال تعالى: "وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى" (طه، آية: 53). ففي قوله: "أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى"، أي: ما بين ثمار، وزروع مختلفة الألوان، والأشكال والطعوم، والروائح، والمنافع. – وفي قوله تعالى: "وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ"، وفي كلمات محددة أشار هذا النص القرآني المعجز في تسلسل رائع إلى محاصيل النباتات وثمارها من الحب المتراكب إلى ثمار كل من النخيل والأعناب والزيتون والرمان ليجمع كل أنواع الغذاء الأساسي للإنسان ولأنعامه وبالإضافة إلى هذا الشمول يأتي التعبير الإلهي المعجز في هذا النص بقول ربنا: "مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ" ليعبر عن حقيقة التنوع الهائل لتلك النباتات بما أودعها الله تعالى من قدرات وراثية هائلة داخل كل خلية نباتية. – وفي قوله: "انظُرُواْ إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ" سبق علمي أصيل يشير إلى ضرورة الاعتماد على مشاهدة الشكل الخارجي لمختلف أجزاء النبات في جميع أطوار نموه حتى يمكن التعرف عليه وتصنيفه، وهي من القواعد الأساسية اليوم في علم تصنيف النبات. والثمار النباتية مهمة للإنسان، لأنها تمثل غذاءه الرئيسي، وعلف أنعامه، كما تمثل مصدراً أساسياً من مصادر الزيوت والدهون والدواء والكساء ومواد الصباغة وغيرها من الصناعات الأساسية في حياة الناس وثمار النباتات من أجل نعم الله على الإنسان وتحركها من بدء ظهورها على النبات إلى نضجها، وما يعتريها خلال تلك الفترة من نمو في الحجم، واختلاف في اللون، وتدرج في الطعم والمذاق لما يشهد لله الخالق بطلاقة القدرة على الخلق وعلى الإفناء والبعث، ولذلك ختمت الآية الكريمة بقول الحق تبارك وتعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ". —————————————————————————- مراجع: 1- علي محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت، 2013، ص:129-131. 2- أحمد النظاري، الجمال الحسِّي في القرآن، ص:157-162. 3- زغلول النجار، مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، دار المعرفة، بيروت. لبنان، الطبعة الأولى، 2009، ص:302. 4- زغلول النجار، من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم (النبات)، مكتبه الشروق الدولية، القاهرة، 2004، ص:345. 5- عبد المجيد بن عزيز الزنداني، بينات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته، دار الإيمان، القاهرة، الطبعة الأولى، ص:94-96. 6- عبد المنعم الهاشمي، الألوان في القرآن الكريم، دار بن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1999، ص:23-107. 7- سيد خضر، من سمات الجمال في القرآن الكريم: كيف يربِّي القرآن الحسَّ الجمالي للمسلم، طنطا، دار الصحابة للتراث، 1413ه، ص:21.