(باحثة سابقة بمركز دراسات تابع للرابطة المحمدية للعلماء) أعتقد دائما أن الحركة الإسلامية لم تتهيأ بعد لتخوض تجربة السياسة، فالسياسة اليوم تقوم على أسس إيديولوجية لا علاقة لها بما نسميه بالسياسة الشرعية، ولا علاقة لها بالتصورات الإسلامية لقضايا الكون والحياة والإنسان، والتي يفترض أن تسند المرجعية وتبنيها. المرجعية الإسلامية هي ذلك الأساس المعرفي الذي يؤطره الوحي ويقيمه بيان السنة، وتثريه الاجتهادات الفقهية المرنة التي تحفظ الأصول في تفاعلها مع متغيرات الظروف والأحوال. ومشكلة الحركات الإسلامية منذ دعوة حسن البنا، أنها لم تبن هذا الأساس المعرفي لتقيم عليه مشروعها النهضوي، بل رسمت هدف استعادة الخلافة المسلوبة فحسب، سواء من خلال ما سمي بالدعوة، أو من خلال "النصرة" التي دفعت بحركة الإخوان المسلمين أول مرة إلى حمل السلاح، فقد كان الإخوان المسلمون يُمنّون النفس باسترداد القوة الضائعة، ولذلك اختاروا شعارا يرمز إلى هذه الغاية ويشير إلى مسلكها المبدئي، بسيفين متقاطعين تحتهما قوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة…" (الآية). وفي الوقت الذي كان إخوان البنا يخطون مسارهم الحركي على هذا الأساس، كان محمد عبده وأصحابه بمدرسة المنار يرون أن مشكلة التقهقر والنكوص في العالم الإسلامي، لا تتعلق بضعف في الرجال ولا العتاد أساسا، وإنما في ضعف التصورات التي لم تعد تعبر عن روح الوحي وهداياته في الإنسان. فالفقه الإسلامي لم يعد له دور في توجيه العمران، انطلاقا من التوجيه السديد للوحي، كما كان عليه الأمر في العهود الأولى للإسلام. الفقه كما كان يرى محمد عبده وأصحابه، أغرق في الفروع، وتاه في القضايا الحياتية الرتيبة، فأبعده ذلك عن أدواره الحقيقية في تحقيق العزة للناس، الوحي كما رأوا، تنزل لحفظ مصلحة الإنسان كل الإنسان وهذا أساس هدائيته، وسرّ قدرته على استيعاب الأفكار المتقلبة مهما كان مصدرها وموطنها، وهو يتوجه بخطابه إلى العالمين بما ينجز لهم سعادة الدنيا ويحفظ مصالحهم فيها، ويضمن لهم الأمن والسلام والعزة في الأرض، يضمن كل ذلك للعالمين جميعا، وليس للمسلمين فقط. كان على الفقه أن يستنبط من الوحي "أحكاما عمرانية" مناسبة للوقت ورؤى جديدة تراعي تطور المدارك الإنسانية، وأتحدث هنا عن العمران الحجري والبشري على حد سواء. أتحدث عن مسئولية الفقه في إنتاج فلسفة جديدة لحقوق الإنسان، وتصورات مفيدة لحفظ الكرامة الإنسانية، وضمان الحريات، وتحقيق العدالة الاجتماعية… إلخ، وحتى عن مسئوليته في إنجاز الهياكل والمؤسسات اللازمة لتنزيل مختلف التصورات والرؤى الاجتهادية على واقع الناس.. كان من واجب الحركة الإسلامية بدل استنهاض الناس منذ بداية القرن العشرين وبدل تثوير مشاعرهم المحطمة، أن تستثمر الفقه في إنتاج معارف جديدة مناسبة للعصر، وأن تسعى إلى تأسيس فلسفة إسلامية جديدة، واعية، ومستوعبة، تنظر في الوحي أبنيتَها، ولا تخاصم الفكر الإنساني ما دام يحفظ مقاصد الوحي في الإنسان. كان على الحركة الإسلامية أن تهتم ببناء هذا الأساس التصوري والذي لا يصح العمل بدونه؛ سواء كان هذا الأساس سياسيا أو اجتماعيا أو غير ذلك. فلهذه الاعتبارات كنت دائما أستغرب ادعاء المرجعية الإسلامية في المشاريع السياسية للأحزاب التي تحمل صفة الإسلامية، وأتساءل عن أي مرجعية يتحدثون!!؟.. الممارسة السياسية اليوم تقوم على أسس جديدة لم تُنظم فلسفتها داخل المرجعية الإسلامية، والانخراط فيها بغير قواعدها أمر غير ممكن، بالنظر للطبيعة المنفتحة للعالم الحديث، والتي تفرض النموذج الوحيد. تحدثوا كثيرا عن مشكلة تطبيق الشريعة الإسلامية في عالم مفتوح، ولكن انطلاقا من أحكام فقهية قديمة لا تناسب الواقع وحيثياته، وخاضوا كذلك في الكثير من المفاهيم الحديثة بطريقة متعسفة أسقطت المفاهيم الجديدة على التراث الفقهي، دون تكلف عناء الاستنباط من النصوص واستفراغ الوسع فيها… اختاروا أقرب المسالك إلى الوصول المتوهم، فسعوا إلى التوفيق المتعسف، ولذلك سقطوا في الإسفاف والتلفيق، وهذا في نظري خلاصة ما حصل، وهو أصل المشكلة. فالحديث اليوم عن الحريات الفردية، أو عن المساواة، أو عن الشورى، أو الخلافة، أو الديمقراطية، أو غير ذلك من القضايا، يتم بطريقة تكشف عن العقلية المأزومة، وتفضح اللخبطة التي كان يتوقعها محمد عبده والتي نبه إليها سعيد النورسي، وغيرهما من الحكماء، وهي لخبطة نجد نتائجها اليوم في واقع الممارسة السياسية المنسوبة إلى المرجعية الإسلامية. النظر الاجتهادي والتنظير الفكري انفصلا عن الممارسة الدعوية منذ بداية القرن العشرين، وكان هذا الانفصال مريعا ومستفزا للحكماء من النخب الفكرية والعلمية في عموم العالم الإسلامي، وفي المغرب خرج فريد الأنصاري رحمه الله نذيرا عريانا أواخر القرن الماضي، يبصر الحركة الإسلامية بخطورة انخراطها في العمل السياسي دون عدة فكرية توجهه، وجاء بمشروع في حوالي عشرة كتب للتنبيه على هذا الأمر، تنبأ في أحدها بأن المشروع السياسي سائر إلى الصدمة، حتى قال بكل أسى وحسرة في كتاب "بلاغ الرسالات القرآنية": لعل في ما صارت إليه أحوال الحركة الإسلامية من سعي إلى قطف ثمار غير ناضجة غير خفي لهذه التنظيمات التي صمت الآذان عن سماع النصح، لأننا في بعض الأحيان لا نستفيق إلا بضربة حائط. الخطاب الإسلامي الحركي في واقع الأمر، عول على المضمون الأخلاقي أساسا، وادّعى طهرانية غير واقعية لأتباعه ولمشروعه، وحين خرج بهذا الخطاب عن دائرته الضيقة والمعهودة صار مكشوفا للأنظار، فكان من الطبيعي أن يحاكمه العموم بنفس منطقه، بعد أن كان يحاكم الناس بطهرانية التزام شكلي، يسوقه من خلال مظاهر سطحية لم تصمد أمام تحديات الواقع المعقد، والمسنود بخلفيات فكرية قوية لا يمكن مبارزتها بخطاب سطحي ولا مدافعتها بخطاب أخلاقي مصطنع. ولا يخفى على الناظر أن أغلب الكتب الحركية كانت تخاطب مجتمع الملتزمين بالفكر الحركي، وتنظر إلى ما سواه من زاوية واحدة تحشر كل الناس في دائرة الغافلين، وهذا التعالي وسع الهوة بين المجتمع الحركي ومحيطه الكبير، الذي يوجد فيه علماء بالشريعة ومحافظون وأطياف من المتدينين وغير المتدينين الذين كانوا يمثلون الأمة بتشكيلاتها الاجتماعية، وفسيفسائها الفكرية، دون أن يدعي أحد سموه عن المجموع، إلا ما كان من استثناءات قليلة لا تعتبر. والحقيقة أن الطهرانية التي ادعتها أطياف من الحركة الإسلامية -حتى دون أن تشعر بذلك- لم يدعيها حتى الصحابة لأنفسهم. فالصحابة فهموا أن الشريعة واقعية تناسب طبيعة الإنسان، فميزوا بين مستويات التشريع، وميزوا حتى في الأحكام، فجعلوها مراتب لا تتساوى في الإلزام والاعتبار، ولذلك اهتموا أكثر بالقضايا الكبرى التي تتعلق بامتداد الشريعة في الجغرافيا الجديدة، وبدل أن تستهلكهم القضايا الجزئية نظموا قواعد جديدة للنظر بإمكانها أن تحتوي الفروع بأصولها المستوعبة. اليوم حين عجز العقل الحركي عن إنتاج معرفة إسلامية جديدة تخدم الإنسان، صار يتذرع بالحجاب وكأنها معركته، وبتطهير المجتمع من الخمور وغير ذلك مما يفترض أن يكون ثمرات تكميلية في مسيرة الإصلاح، فكان لا بد أن يواجَه بمضمون مشروعه الذي حصر الإسلام ودعوته فيه، وكان لا بد أن يواجَه بمقتضى الخلط الذي وقع فيه بين القيم التي تبناها وجعلها علما عليه، والقيم التي ارتضاها بحكم انخراطه السياسي غير المؤسس، وكان من الطبيعي أن يواجَه بهذا التناقض. وما تورط فيه الخطاب الحركي عن الحجاب مثلا، هو مصيدة صنعها لنفسه حين وقع في التلفيق بين قيم غير متجانسة، وهذا الجمع بين الحرية الفردية والحكم الشرعي هو جمع بين موضوعين مختلفين لا ينظمهما ناظم، وأجد أن هذا الجمع دليل ارتباك لا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى أصل العطب في تصورات الحركة الإسلامية. الحركة الإسلامية في المغرب بدأت تعي مشكلتها متأخرة، وأصبحت أكثر حرصا على تأسيس المرجعية الإسلامية من جديد بعد أن تبين لها أن المشروع الإسلامي أكثر من شعارات تردد وأشكال تبدو للعيان، ولذلك نجدها تسعى اليوم إلى تشجيع الفكر والتعاون مع الجميع في سبيل إثرائه، كما تسعى إلى إنشاء مراكز بحثية لهذا الغرض لتدارك ما فات من وقت ضائع، فمن خلال هذه المراكز ومن خلال المدارسة فقط يمكن تلمس المسالك الصحيحة لمستقبل قادم يُرى من بعيد، أقول هذا وأنا أعرف أن هذا الوعي لا تكفيه مجرد إرادة وإمكانيات مالية؛ فالأفكار نفسها لابد لها من قناعات حقيقية تخرجها من ضيق الفئوية القاتلة، إلى رحابة الرسالة الإنسانية المتضمنة في الوحي وشريعته. لا يمكن أن يكون هناك حزب إسلامي بهذا الاسم والصفة في المغرب، فهذه التسمية تحيل بمفهوم المخالفة أن هناك أحزاب غير إسلامية بيد أن المرجعية التي تبني تصورات هذا الحزب هي مجرد اختيارات وفهوم أثبت الواقع نسبيتها وضعف طرحها، وقد آن الأوان أن تنظر الحركة الإسلامية في المفاهيم المؤسسة لخطابها كمفهوم الدعوة الذي يعني الاستقطاب إلى تيار معين لا غير، في حين أن الدعوة تعني في الأصل مخاطبة غير المسلمين بهداية الإسلام، ومفهوم الالتزام الذي يعني امتثال القيم الإسلامية، وليس الالتزام بمبادئ تيار معين، ومقصود المرجعية والأخلاق وما إلى ذلك من المفاهيم الملتبسة التي تسببت في أزمة هذا الحزب قبل ولادته.