لعل أهم ما قاله الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لسكرتير الدولة الأمريكي خلال لقائهما الأخير هو الجزء المرتبط بكون المملكة المغربية "ذات طبيعة توسعية". اعتراف الرباط المتأخر بموريتانيا دليل على ذلك بالنسبة لرئيس "القوة الضاربة" بالمنطقة. بالطبع باستعمال هذا القياس يصبح من السهل فهم "مطامع المغرب في الاستيلاء على الصحراء" كما تردد الأطروحة الجزائرية. تحليل هذا المنطق الفريد من نوعه قد يكون بداية شرح لكل ما تقوم به الجزائر من أعمال عدائية حيال المغرب منذ استقلالها، وقد يفيد في الانطلاق لاستيعاب طبيعة المشكل الحقيقي الذي تكرس كعقدة مزمنة أصبحت ركيزة نظام يحتاج إلى أعداء لكي يضمن استمراره. معروف أن الجزائر كانت دائما من أكثر المدافعين إفريقيا عن مبدأ الحفاظ على الحدود كما تركها المستعمر الفرنسي. أمر بديهي لمن أهداه هذا المستعمر أرضا شاسعة تم تفصيلها على مقاس إمبراطورية نهمة كانت تعتبر الجارة الشرقية للمغرب جزءا من أراضيها. الوضع مع المغرب يختلف. الحماية قسمته إلى أجزاء، مما اضطره إلى استرجاع أراضيه جزءا بعد آخر، انطلاقا من طنجة الدولية إلى الصحراء التي كانت مستعمرة إسبانية، مرورا بسيدي إفني وطرفاية. السياسة المغربية اختارت التدرج والتفاوض للدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة واستكمال استقلالها. استراتيجية يمكن الاتفاق معها أم لا، لكنها تبقى النهج المتبع لحد يومنا هذا. إذن ما يراه الرئيس الجزائري توسعا يتجلى، لمن له حد أدنى في فهم السياسة الدولية، كعملية طبيعية وذكية لاسترجاع أراضٍ بأقل تكلفة بشرية ممكنة. المسيرة الخضراء، مثلا، كانت ضربة معلم استطاع بها المغرب استعادة ما كان يسمى بالصحراء الغربية من أيادي الإسبان بدون حرب ولا دم. اختيار اللحظة التاريخية، حيث كان فرانكو على فراشه يحتضر، واستغلال الفراغ السياسي، ورغبة إسبانيا في قلب صفحة الديكتاتورية.. إلخ، عوامل ساهمت كلها في جر مدريد إلى التفاوض بالنتائج التي نعرفها جميعا. من يستقرئ هذه الاستراتيجية ببراغماتية يفهم لماذا قبل المغرب تقسيم الأرض مع موريتانيا في البداية، ثم كيف لعبت الظروف لصالحه لكي تستمر الأمور كما تخيلها منذ الوهلة الأولى: ألا تكون هناك أي دولة تفصله عن عمقه الإفريقي. إنها مصالح عليا للبلاد استطاع صاحب القرار المغربي الدفاع عنها بذكاء قل نظيره. بالطبع كل نجاح يتحقق عبر هذه الاستراتيجية يخلق تخوفات لدى دول أخرى لديها مشاكل حدودية مع المغرب: إسبانيا ومشكل سبتة ومليلية، والجزائر ببعض أجزائها الغربية، التي تطالب بها الرباط انطلاقا من وثائق تاريخية تؤكد مغربيتها. وهذا أمر مفهوم جدا لأنه إذا كان المغرب يدافع عن مصالحه، فمن البديهي أن إسبانيا والجزائر تقومان بالدفاع عن مصالحهما كذلك. وهنا بيت القصيد: إلهاء المغرب بقضايا جانبية تدخله في متاهات كي لا يطالب بما يعتبره حقا شرعيا. قضية الصحراء في النهاية كانت، ولا تزال، بالنسبة للجزائر مجرد أداة لصد "مطامع المغرب الاستعمارية" في جزء مما تعتبره ترابها. وإذا تابعنا بتمعن ما ردده رئيس الحكومة الإسباني أمام البرلمان، بل حتى في الرباط، حول سبتة ومليلية لتبرير تغير موقف مدريد نكون أمام مقايضة مفهومة، بل بديهية. إنه بحر السياسة الدولية الذي لا يمكن ائتمان أمواجه. المهم أن يكون هناك وعي بقواعد اللعبة. ما هو واضح الآن هو أن الاستراتيجية الجزائرية وصلت نهايتها وهي الآن في مرحلة الأفول. كذبة الدفاع عن تقرير مصير الشعب الصحراوي انفضحت ولم يعد يصدقها حتى "وزراء الجمهورية الصحراوية الديمقراطية إلخ". الاستمرار في تمطيط الشعارات وشحن النفوس ضد دولة جارة هو خطأ، إن لم يكن جريمة في حق شعوب المنطقة كلها. ليلقي الرئيس تبون نظرة حواليه ويرى إلى أين يتجه العالم، وليبحث مع قادته العسكريين عن استراتيجية أخرى تعطيه الضمانات الكافية للدفاع عن مصالح بلاده، التي لا نكن لها سوى الود والاحترام، على عكس ما يردده الإعلام الرسمي الجزائري. العالم كله فهم أنه لا يوجد أي طرف آخر في نزاع الصحراء سوى الطرف الجزائري، الذي قرر الاستمرار في لعبة مفضوحة يستعمل فيها كثيرا من الحالمين الأبرياء وبعض الانتهازيين لإيقاف ما يعتبره نظام الجارة الشرقية تهديدا مستمرا لوحدة أراضيه، أي ما أهداه إياه المستعمر بعد خروجه. ليجلس صاحب القرار في الجزائر على طاولة المفاوضات وليدافع عن مصالحه الحقيقية بكل صدق وجرأة عوض المقامرة بمصالح منطقة بكاملها وبخطاب فج لم يعد يقنع حتى قائله. ملحوظة أخيرة، وهي موجهة إلى المقربين من الرئيس تبون وخاصة مستشاريه الإعلاميين: حاولوا إقناع الرجل بأنه رئيس دولة وليس "أنفلوينزر" على شبكة الإنترنت. الكلام لا يطلق على عواهنه، وحتى إن كان من مصلحة المغرب أن يستمر في أحاديثه غير المسؤولة، فإنه من المحزن حقا رؤية رئيس دولة جارة يتكلم بهذا الأسلوب، الذي لا يليق بمقامه ولا بشعبه.