من خلال نظرة فاحصة ومدقّقة على خريطة المغرب العربي؛ أو الإسلامي كما يحلو للبعض تسميته، يظهر للعيان أنّ أكبر مساحة بلدانه الأربعة؛ (ليبيا تونسالجزائر والمغرب) هي على الإطلاق دولة الجوار الجزائر. لكن السؤال الذي لا ينتبه إليه كثير من الناس بمن فيهم جيراننا الجزائريون ولا يتبادر إلى أذهانهم هو، لماذا تميزت وانفردت الجزائر الشقيقة بهذه المساحة الشاسعة من بين دول المغرب العربي؟ ومن الذي جعلها تتميز به أصلا؟ وعلى حساب من جاء هذا التوسع؟. هذه أسئلة تحتاج إلى أجوبة مقنِعة ومفصّلة ومدعّمة بالدّليل!... ومن الغرابة بمكان ألّا يقع الحرص على تلكم الأجوبة خصوصا بالنسبة للذين درسوا التاريخ دراسة مستفيضة وأدركوا وضع دولة المغرب التاريخي، أو كما كان يطلق عليه سابقا (المغرب الأقصى) بين دول منطقة المغرب العربي (الإسلامي). معلوم أنّ المغرب هو الدولة الوحيدة من بين دول المغرب العربي الذي انفصل عن الخلافة الإسلامية بالمشرق العربي منذ نشأة دولة الأدارسة بفاس عام 789م. فبالنسبة للمغاربة يمثل السادس من فبراير لعام 789م يوم السيادة المغربية الكاملة، حيث عد الشعب المغربي ذلك اليوم بمثابة قيام دولته الحرة ذات السيادة والمستقلة عن أي كيان خارجي. وبعد عهد الدولة الإدريسية تعاقب على حكم المغرب دول عديدة قوية وإلى يومنا هذا مرورا بالعصور التاريخية بعد الأدارسة، من: (دولة المرابطين 1056 1147) ثم (الموحدين 1147 1262) ثم ( المرينيين 1262 1465) ثم ( الوطاسيين 1472-1552م) وإن كان الوطاسيون هم امتداد للمرينيون في الأصل. ثم الدولة السعدية (1554-1659م). إلى أن استقر الأمر عند دولة العلويين منذ عام 1600م. وقد كان المغرب بمثابة امبراطورية مترامية الأطراف وصلت حدوده إلى دولة النيجر. إلا أنّه اليوم أضحت مساحته صغيرة جدا على ما كان عليه، مقارنة مع دول الجوار.
وقد كان للمغاربة الفضل في المساهمة في نشر الإسلام في القارة السمراء أفريقيا، كما كانوا من أوائل من نشره في أوروبا بالعبور إلى شبه الجزيرة الإيبيرية إسبانيا على يد الفارس المغوار، والقائد المحنك المغربي الأمازيغي، طارق بن زياد، حيث خضعت دولة الأندلس ولفترة طويلة تحت حكم سلطان المغرب إلى أن سقطت غرناطة وسلمها الأمير عبد الله الصغير للصليبيين سنة 1492م وفر عائدا إلى المغرب. فقام الإسبان بالانتقام لتلك الفتوحات المغربية من خلال محاكم التفتيش، كما قاموا كذلك باحتلال تراب المملكة من خلال مدينتي سبتة ومليلية والجزر الجعفرية، ثم احتلوا حديثا الصحراء المغربية سنة 1884م.
ويعود التآكل والانتقاص في أراضي المملكة المغربية إلى فترة الاحتلال الفرنسي لدول المغرب العربي الإسلامي. لقد كانت الجزائر عبر العصور تابعة منذ الفتوحات إلى الخلافة الإسلامية في المشرق العربي، إلى أن احتلها الفرنسيون سنة 1830م. ولأنّها لم تكن دولة مستقلة كالمغرب، بحكم تبعيتها للخلافة العثمانية، ثم للاحتلال الغربي، إلّا بعد خروج الفرنسيين منها سنة 1962م بعد احتلال دام زهاء مائة وثلاثين سنة. عكس المغرب الذي كان مملكة كاملة السيادة، إلى أن فرضت عليه الحماية من طرف فرنسا سنة 1912م. ولم تُحكم فرنسا كامل سيطرتها على المملكة المغربية إلا بعد مرور اثنين وعشرين عاما من احتلالها له، بل ولم يجرُؤ المحتل الفرنسي على أن ينقص ولو حبة رمل من تراب المغرب إلا بعد أن احتله بالكامل سنة 1934م. فمناطق مثل تندوف سوارا، غمارة، توات، تيميمو، بشار. . مثلا كانت دائما وأبدا عبر عصور التاريخ أراضيَ تابعة للمملكة المغربية. والدليل على ذلك؛ أولا: اعتراف دولة الاحتلال نفسها، وثانيا، أنّ المحتل الفرنسي كما هو معلوم، كان قد أحكم سيطرته على جارتنا الجزائر منذ عقود سنة 1830م، ورغم ذلك لم يُقدم على استقطاعها من تراب المغرب وضمها لمستعمراته في الجزائر إلا بعد أن احتل المغرب كاملا واخضعه لسيطرته، وذلك في عام 1934م، ولو كانت المناطق المذكورة أراضيَ جزائرية كما يزعمون، لما انتظر المحتل الفرنسي ما يزيد عن المائة عام - وهي الفترة ما بين احتلاله للجزائر والمغرب كي يبسط سيطرته عليها ويضمها لتراب الجزائر. فلماذا انتظر إذن المحتل الفرنسي كل تلك الفترة؟ وما السر في ذلك؟ الجواب لا يخفى على متتبعي التاريخ؛ لأنها أراضٍ كانت دائما وابدا تحت السيادة المغربية!.
يقول المتخصص والمؤرخ الفرنسي الكبير في تاريخ القارة الأفريقية (برنار لوغان Bernard Lugan) أنّ "إشعاع المغرب امتد إلى ما وراء تغارت وعلى طول الصحراء انطلاقا من خط أكادير- سجلماسة - توات، ليشمل بذلك مدن شمال المغرب وضفاف أنهار السينغال"... و"أنّ جميع الروابط الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية، التي كانت قائمة بين شمال منطقة الساحل من بحيرة تشاد إلى المحيط الأطلسي، امتدت إلى غاية الواجهة المتوسطية، وكانت تمر بالضرورة عبر المغرب. لقد شكل المغرب الاستمرارية التاريخية الوحيدة على مدى اثنى عشر قرنا"... كما يضيف "إنّ التأثير المغربي في هذه المنطقة الشاسعة، الممتدة من طنجة إلى ضفة نهر السينغال، كان جليا من خلال رواج عملة وحيدة، ونظام موحد للأوزان والمقاييس". ويزيد موضحا "إنّ حركة السلع كانت تمر بدون عوائق جمركية، لأنّ الأمر كان يتعلق بمبادلات داخلية تتم داخل حدود مجموعة ثقافية واقتصادي واحدة"
كما أشار لوغان في كتاباته، إلى أنّ الصحراء مغربية قديما وحديثا بدليل أنّ المساجد في مدينة "تامبوكتو" بمالي كانت تدعو كلها للسلطان المغربي، وأنّ نفوذ المغرب حينئذ وصل إلى مالي وموريطانيا جنوبا.
وبخصوص الحدود والتجزئة والاقتطاعات الترابية التي تمت خلال الفترة الاستعمارية الفرنسية لأرض المغرب، أكد الباحث الفرنسي "لوغان" أنّ الجنرال "دوغول" كان قد اقترح على المغرب سنة 1960م تصحيح الحدود، وبحث استرجاع المملكة لأراضيها التي كانت فرنسا قد ألحقتها بالتراب الجزائري. إلا أنّ "المغاربة رفضوا ذلك، ولم يرغبوا الطعن في ظهر أشقائهم الجزائريين"، حيث "كان من الواضح بالنسبة للمغرب، أنه بمجرد حصول الجزائر على استقلالها سيتم حل جميع القضايا الحدودية بين البلدين الشقيقين. لكن الجزائر عند حصولها على الاستقلال قدمت نفسها على أنها الوريثة الترابية لفرنسا، ورفضت الاعتراف بالحقيقة. انتهى كلامه.
يعد اكتشاف حقول النفط ومناجم الحديد وثروات أخرى بكميات محترمة في الصحراء وبالخصوص المناطق المذكورة، العامل الذي أسال لعاب المحتل الفرنسي، وبما أنّ فرنسا كانت تعتبر الجزائر ولاية من ولاياتها، وبالتالي فهي جزء من أراضيها وملكها الخاص، فقد شرعت في التوسع على حساب المملكة المغربية بسرقة أراضيه في واضحة النهار وضمها إلى تراب الجزائر الشقيقة، ولعلّ ذلك قد حدث أيضا على الحدود الشرقيّة للجزائر مع الشقيقة تونس (على الباحثين ضبط ذلك)، ما حدا بفرنسا إلى تدقيق رسم الحدود على هواها في عام 1952 وجعلها تضم كل من مناطق؛ "تندوف" و"كولومب بشار" ضمن مستعمراتها بالجزائر. ومباشرة بعد استقلال المملكة المغربية شرع ملك المغرب محمد الخامس بالمطالبة باسترجاع السيادة على جميع المناطق، بما فيها الأراضي التي كانت تابعة لسيادة المغرب تاريخيا. استجابت فرنسا لمطالب المغرب باستعادة بسط سيطرته على المناطق التي يطالب بها؛ لكنها اشترطت عليه منع الثوار الجزائريين باستخدام الأراضي المغربية كقاعدة خلفية لهم. وبما أنّ المملكة المغربية كانت منخرطة في الدفاع عن استقلال جارتها الشقيقة الجزائر، فقد رفض ملك المغرب تلك الشروط واعتبرها كطعنة خنجر في ظهر الإخوة الجزائريين فرفض العرض الفرنسي القاضي بإرجاع تلك المناطق إلى المغرب بتلك الشروط. وبعد اندحار الغزاة الفرنسيين على إثر ثورة الشعب الجزائري الشقيق وبمساعدة الشعوب العربية وبخاصة يد العون المغربي الواضحة حكومة وشعبا، تنكر صناع القرار في الجزائر إلى حق المغرب في استعادة سيادته على ترابه... يقول المؤرخ الفرنسي لوغان: "ستوجّه الجزائر للمرة الثانية، طعنة للمغرب، إذ أبدت رغبتها، مدعمة في ذلك من قبل إسبانيا، وبصوت "بومدين"، في قيام دولة صحراوية مستقلة. لقد اعتقد ملوك المغرب كما ذكر المؤرخ "لوغان" أنّ الأمر جد سهل من خلال النوايا الحسنة كي تعيد الجزائر طواعية أراضي المغرب المصادرة أثناء فترة الاستعمار، لكنّ حكّامها – للأسف – تعنّتوا بعد استقلالها، ولم يعيدوا الحق المغتصب لأهله، ولم يراعوا حق الجوار، بل انطلقوا مفتخرين بإرث المحتل الفرنسي المسروق من جارهم وشقيقهم المغرب الذي ساعدهم ووقف إلى جانبهم في محنتهم ضد الاستعمار الفرنسي حتّى نالوا استقلالهم التامّ. لقد صدق من قال: اتق شر من أحسنت إليه... وصدق الشاعر:
إن أنت أكرمت الكريم ملكته... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.
وبما أنّ الشعبين الشقيقين المغربي والجزائري المحرومين من الوحدة والاندماج والتواصل والتنقل بحرية على سطح أراضيه التي لم يعرف لها الأجداد حدود في الزمان الغابر يرغبان اليوم في إعادة اللحمة بينهما، ويتطلعان إلى اندماج مغاربي حقيقي، وهو الحلم الذي أحسب أنّه يراود الشعبين الشقيقين التونسي والليبي كذلك ويتطلّعان إلى تحقيقه، وأستطيع أن أجزم أنّ المغرب على استعداد تام لإكمال مشروع النهضة للمغرب العربي الموحد في أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، من خلال حلم (السوق المغاربية المشتركة) على سبيل المثال، وفتح الحدود بين سكانه الذين يزيدون على 100 مليون نسمة إذا ما ألحقنا البلد الشقيق موريتانيا بهم، تشكل طاقة بشرية جد مهمة، يمثل الشباب نسبة عالية فيها (تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة)!... فعلى الجارة الجزائر أن تتحمل مسؤولياتها بكل صدق وأمانة وتعيد النظر في سياساتها نحو شعوب المنطقة التي تنتظر حلّ النزاعات وإحلال السلم والسلام والأمن والأمان بين سكان المنطقة، ولا يكون ذلك إلا من خلال رفع أياديها تماما عن الوحدة الترابية لجارتها وشقيقتها المغرب، وتعيد الحقوق لمستحقيها وتبادر بإعادة تخطيط تصحيح الحدود مع جارتها المغرب بكل صدق وأمانة، كما وتعمل على فتح الحدود بينهما ليندمج الشعبان الشقيقان، فإنّ شعب الجزائر العظيم تربطه علاقة تاريخية بالشعب المغربي المضياف والمؤازر، وقد تعايشا لقرون بل وانصهر الشعبان في فترات من الزمان ولم يتفرّقا إلّا لمّا تدخّل بينهما الاحتلال وأحلّ بينهما ما نرى اليوم من مظاهر الفرقة والتنازع المذهبان للرّيح والقوّة!...