منذ أن أُطلقت الدعوة التلهيجية العيوشية، أطلقَت معها نقاشا واسعا في الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي والإلكتروني؛ بل صارت حديثَ المجامع ونقاش المجالس وموضوع جدل في الدوائر الخاصة والعامة بين سائر المهتمين؛ فضلا عن أهل الخبرة والاختصاص. لقد صارت "الدعوة" قضيةَ رأي عام. إنها "لحظة تاريخية" كما وصفها أحد الكتاب؛ لحظةٌ بالمعنى الفعال في مسار تداول الشأن العام في المغرب؛ حيث أخرجَت كثيرا من المفكرين والمثقفين عن صمتهم، وأعادت نوعا من الاعتبار لصوت الفكر والمعرفة، بعد أن سادت، في قضايا عديدة وإشكالات نظيرة، أصواتُ الإيديولوجيين والسياسويين وبعض "المتعالمين" الذين يستعيرون لكل شأنٍ صفةَ الاختصاص؛ وما هم بمختصين في شيء، إن هم إلا يخرصون. لقد تحدث في مسألة "تلهيج لغة التدريس في التعليم الأولي" اللسانيون والتربويون وخبراء اللغة والكتابة والممارسون في المنظومة التعليمية المغربية، أساتذةً ومبرمجين ومفتشين وكتاباً وغيرهم من أهل الخبرة، كما تحدث غيرهم ممن لهم اهتمام مواطنٌ وانهمامٌ مسؤولٌ بالشأن العام؛ لدى تحلَّى حديثُهم برصانة التحفظ في الأحكام؛ مع إسنادِ القول في الاستشهاد والتقويم لأهل الاختصاص، وهو ما نأى بهم عن "الدجل" الذي وقعَ فيهِ بعض المتطاولين. وإزاء حيوية هذا الجدل، اضطر الإعلامُ الرسمي إلى الانخراطِ الجزئي، نوعا من الانخراط، في هذا النقاش، و كان أبرزُ مظاهر ذلك عقدُ "ندوةِ العينين"، العروي وعيوش؛ فكان هذا اللقاءُ، على ما أثاره من نقاش وردود أفعال، موعداً استثنائيا للمشاهِد المغربي، أعاد الاعتبارَ لصوتِ "المعرفة" ولطيفٍ من أطيافِ التناظرِ الفكري لا تناقرِ الديكة السائد في دجلِ بعض الفضائياتِ. كما برهن ذاك اللقاءُ، من جهة أخرى، أن المغاربةَ ليسوا ب"الصفاقة" ولا ب"البلاهةِ" التي يسوقها بعضُ مدمني الانتهازية الإعلامية، ومحترفِي "التبليد" العام؛ من خلال مسلسلاتٍ وأفلام عنوانها التفاهة في المضمونِ و"لهجة" الدبلجة؛ والتي حاولوا عبرهَا تحويل التلقي العام للمسلسلات المدبلجةِ من "عربية وسطى" متداولةٍ ومُدرَكة من لدن الأميين ومحدودي الثقافة إلى "دارجة" غايةٍ في الإسفافِ شكلا ومضمونا؛ ولا صلة لها البتةَ بإبداعية العامية المغربيةِ التي يتباكى عليها "العيوشيون"، ممثلينَ لها بنصوص وقصائد "الملحون"، في دليلٍ صارخ على عدم معرفتهم بهذا الفن وبنصوصهِ؛ بل بهويته التي تُؤكد العلاقة العضوية بين العامية المغربية والعربية الفصيحة. إذ تكفي الإشارةُ إلى أن اسمَ "الملحون" مشتق من "اللحن" في اللغةِ؛ أي من تصحيف "المُعرَب" وتحريف الفصيحِ، مما يدل على أن الدارجة المغربية هي مستوى من مستويات العربية، ويؤكد، إلى جانب حجج أخرَ، أنها "عاميةٌ عربية". يتأكَّد هذا أيضاً في مدونتي فنين تراثيين مغربين آخرينِ هما طربُ الآلة وفن السماع؛ حيث التغني بنصوصٍ متجاورة من "المُعرب" و"الملحون" دونَ نشازٍ في التغني أو خللٍ في الأداء الفني أو تنافرٍ في المناسبة الدلالية بين الأشعار. بل نجدُ في مدونةِ فن السماعِ مَا يجسد ببهاءٍ شعري و رونقٍ إبداعي هذا الزواجَ السعيد بين مستويي العربية، "المعرب" و"الملحون" أو قل "الفصيح" و"العامي"، كما هو شأنُ قصيدة "الفياشية" الشهيرة (راجع على الشبكة العنكبوتية حلقاتِ البرنامج التلفزي "رحيق الكلام" الذي قمنا، بفضل الله، خلالَه طوال شهر رمضان الأخير بشرح متن "الفياشية"). على أن انتماء "الفصيح" و "العامي" إلى نفس "المتصل اللساني"، حسب عبارة الخبير اللساني عبد القادر الفاسي الفهري، هو الذي يسوغ التجانس المذكورَ، مثلما يُسَوِّغُ أيضا ظاهرةَ التعلم السريع لمختلف اللهجات العامية العربية من خلال تتبع المسلسلات والأفلام الناطقةِ بها، ومن لدن مختلف الشرائح وكيفما كانت مستويات تعلمها، بعكس تعذر ذلك مع اللغات الأجنبية كاللغةِ الفرنسية مثلا. و في هذا بيانٌ لتهافتِ الصراعِ الذي أراد التلهيجيون تهييجهُ بين العربية والعامية المغربية، من أجل تكريس النفوذ للفرنكفوني. إن اللغة العربيةَ، وهي تثيرُ ما أثارته، كشفتْ، من جهة، عن أهميتها في حياة المغاربةِ على مختلف المستويات الدينية والعلمية والثقافية والوجدانية والتعليمية؛ كما كشفت، من ناحية ثانية، عن سوء فهم كبيرٍ من لدن البعض لموقع هذه اللغة في المعرفة والحياة، وكذا عدم إدراكهم لقدراتها التعبيرية ولامتدادها الحضاري؛ بل عدم استيعابهم لأبعاد اللغةِ العربيةِ بما هي لسان للهوية. وهو ما يوجب على أهلها واجباتٍ حيالها؛ من حمايةٍ، وتعزيز تداولٍ، وتقوية استعمالٍ، وتطوير مناهج تعليمها، وتحديث طرائق تعبيرها، والحرص على جودتها وجودة حضورها بوصفِ ذلكَ جزءاً من الحرص العام على مختلف عناصر ومظاهر السيادة والهوية. وإذا كانت العربية تعيش اليومُ، مغربيا، في وضعية مرتكبة على مستوى الحضور الإعلامي والتواصلي والتعليمي والتداول العام، فلأن الوضعَ المغربيَّ العام مرتكب اقتصاديا واجتماعيا وحضاريا. إن ارتباك وضعِ اللغة العربيةِ في مجتمعنا المغربيِّ جزءٌ من الارتباك الناجمِ عن التخلف العام الذي يطوقنا، والذي يمس أيضا منظومتنا التعليمية في مختلف مناحيها، كما أنه ناجمٌ عن جملة أسباب من سياسةٍ ارتجالية، وسوء حكامة، وفشل متوال في التعاطي من قضايا التعليم بنياتٍ تحتيةً وتكوينا للأساتيذ وأساليبَ تدريس، كما هو ناجمٌ كذلك عن عدم الحسم في الاختيار اللغوي للغة التدريس في مختلف أسلاك التعليم. وإذا أضفنا إلى مختلف تلك العواملِ، تراجعَ التحفيز على التعلم، والاستثمار في تدعم التعليم بوجه عام؛ وما يتصلُ باللغة العربية بوجه خاص، أدركنا تلك الصورة الشائنة التي صارَ إليها التعليمُ في متخيل المتعلمين، والوضعيةَ المتأزمة التي آلت إليها العلاقة بين المعلم والمتعلم؛ والتي حطت من "رسالةِ" التعليمِ و نقلتها من وضع اعتباري ذي هيبة ووقار إلى وضعيةٍ تنعدم فيها قيم إجلال وتوقيرِ رمزيةِ الرسالة التعليمية؛ وهما شرطان حتميان في نجاح أي عملية تعليمية تعلُّمية. وقد كرست هذهِ الوضعيةَ المتأزمةَ، وضعيةُ الأستاذ اجتماعياً، والتي أثرت سلباً على صورتِهِ لدى المتعلم والمجتمع، مثلما كبحتْ من حماسهِ على التجديد المستمِر لتكوينه، والحفاظ على اللياقة المعرفية اللازمة في أساليب ومضامين المعارف والمهارات التي يستهدف إقدار المتعلمين عليها. هكذا يبدو أن ارتباكَ المنظومةِ التعليمية هو حصيلةٌ لجملة من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، والتي كان من نتائجها تراجعُ مستوى ونتائج المنظومة التعليمية، تراجعٌ كان ، من ضمن مظاهرهِ، تردي مستوى تعلم وتعليم اللغة العربية. ومن ثم فمن الإجحاف والخطل تحميلُ "العربية" مسؤوليةَ هذا التدهور؛ لأنها أيضا ضحيةٌ من ضحاياه. لقد أفضى العمَى في تحديد موطنِ "الداء" إلى عماءٍ آخرَ في اقتراح "الدواء"؛ فكان أن حُمِّلت العربيةُ أوزارا لم تقترفها، وصارتْ "حجَّام" صومعةِ "التعليم"، فطولب برأسِها عند سقوط الصومعة. وأكيدٌ أنه كان وراء هذا الطلبِ خلفياتٌ ونوايا مبيَّتَة، عملت كثير من التدخلاتِ والمقالاتِ والآراء، على فضحها. ذلك من "المتربصينَ" بالعربيةِ، ما فتئوا يبحثون عن الذرائعِ والمبررات لتبخيسها وتهميشها؛ لغايات لا صلة لها بما يعلنونه ويصرحُون به. مقاصدُ وغايات لا يُمليهاَ انسياقٌ ساذجٌ مع نظرية المؤامرةِ، بل تفضحها مقارنة أقوالهم بأحوالهم، ودعاواهم بسلوكاتهم، ومقدمات كلامهم بنتائجه. وهي غايات يمكن إجمالها أولا في الاستفادةِ من الريع اللغوي الذي يوفره لهم إبعاد العربية من الإعلام والإشهار والإدارة والتداول العام؛ وثانيا في رغبةِ الحفاظ على تبعية المغاربة والمغرب للفرنكفونية التي ما تفتأ ترفع من امتيازات المتفرنسين، اجتماعيا واقتصاديا، وتهمِّش المُعربينَ في مختلف مجالات العمل والحياة، وكأنهم مواطنون من درجة ثانية؛ و ثالثا في رغبة محمومة من أجل محاربة "الأصولية" والتشدد الديني؛ وذلكَ من وهمٍ سبق أن أبطلنا أسسَه (راجع مقالنا على موقع "هسبريس" و "إسلام مغربي": "إضاءات حول تداخل اللغوي والديني في توصيات ندوة مؤسسة زاكورة")؛ و يتعلقُ الأمرُ بوهم مفاده أن قوةَ ذاك التيارِ مستمَدةٌ من التماهي بين اللغةِ العربيةِ والتقليدانيةِ في الفكر والدين والحياة، من هنا وجبت، حسب هذه الرؤية السقيمةِ، محاصرةُ الأصوليةِ بالإمعانِ في محاصرةِ العربيةِ. بينما اللغةُ العربيةُ قويةٌ بالوحيِ القرآنيِّ لأنه جاء بلسان عربي مبين، مثلمَا هيَ قويةٌ أيضا بقدرتها على استيعاب مختلفِ المعارف والعلوم والآداب والفنون الإنسانيةِ حسب قدرة الناطقين بها على الابتكار والتجديد والإبداع، وهو ما يجهله، أو يتجاهلُهُ، المتربصونَ بها. بل إن فهم الوحي القرآني يتجدَّد بتجدد هذه القدرة، وهو ما يتساوى في عدمِ استيعابهِ محاصرو العربية من "الفرنكفونيين الحداثويين" و"التقليدانيين المنغلقين". علاوةً على هذا، فإن أيِّ تطوير أو تحديث سيظل معطوبا إن طُلبَ بغير لغة أهله، فهاهي دول غرب إفريقيا تبنت الفرنسية، وأخرى من شرقها تبنت الإنجليزية دون أن يجوز بها ذاك التبني إلى ضفة التقدم والازدهار، فيما إسرائيل بعبريتها المحدودةِ في عدد متكلِّمِيها؛ و التي لم يتم إحياؤُها إلا حديثاً بعد سُبَاتٍ تاريخي ناهزَ 1700 سنة؛ ها هي إسرائيلُ تتبنى إحياءَها و معيرَتَها اعتماداً أساسا على علوم اللغة العربيةِ؛ وخصوصا على "كتاب" سيبويه الفارسي؛ وتقوم بترسيمها وتدريسِها، بل وتدريس مختلف العلومِ والمعارف بها. وغنيٌّ عن البيان مكانةُ إسرائيل اليوم في سلم البحث العلمي، في حين تنعدمُ من خريطةِ الدول المتقدمة والمتطورةِ دولةٌ طلبتْ التقدمَ بغير لُغَتِها. إن مسألة تطويرِ اللغة الرسميةِ وطلبِ أسباب ذلك، يتعلق أساساً بالإرادة والقرار السياسيين، وهما واضحان في الدستور وفي مختلف الوثائق الرسمية التي تكفلت الدولة، من خلالها، بمسؤوليةَ حمايةِ اللغتين الرسميتين وتطويرهما والتمكين لهما في التعامل مع المواطن المغربي كحق من حقوق مواطنيته؛ كما تتكفلُ الدولةُ بحمايةِ سائر اللهجات من دوارج عربية وأمازيغيات وحسانية، دون خلط في الوظائف والمهام مع اللغتين الرسميتين. فمعلومٌ أن للثقافة الشفاهية وظائفَها ومجالات حياتها وسياقات انتعاشها، وللثقافة الكتابية واللغة العالمةِ وظائفها ومجالاتها وسياقاتها، وذلك في تعايش وتكامل خلاق، ترفُده لغات أجنبية كلغات انفتاح يجب أن تتقدمها الإنجليزية، دونَ إحلال لها محل لغات الهوية في الوظائف أو المجالات أو السياقات، بل ينبغي جعل هذا الانفتاح داعماً للغات الهوية من خلال الترجمةِ منها وإليها، وعبر مختلف طرائق تحقيق ذاك التكامل الخلاق المشار إليه آنفا. وهذا ما تقتضيهِ "الديمقراطيةُ اللغويةُ"، وهذا ما يمكن أن يعمل المتخصصون في السياسةِ اللغوية على التخطيطِ المحكَم له؛ وبهذا المسار تطورَ المتطوِّرون ممن أحسنوا تدبير التعدد اللغويِّ، فيما آل غيرُهُم إلى حروبٍ لغوية أهدروا فيها المال والزمن والطاقات بلا طائل؛ مثلما أهدروا نعمة "الأمن اللغوي" داخل المجتمع. وإجمالا، فإن اللغة العربية لا محالةَ سائرةٌ نحو رسم أفقها المستقبليِّ، إن تحققت "الديمقراطية اللغوية" المطلوبَةُ، لا سيما وأنها تمتلك من المقومات العلمية والتعبيرية والحضارية والوجدانية والدينية ما يؤهلها لتكون إحدى لغات المستقبل كما أكدت إحدى الدراسات البريطانية الحديثة، وكما صدقت على ذلك المديرةُ العامة ل"اليونسكو" إيرينا بوكوفا في رسالتها بمناسبة اليوم العالمي للغة الضاد لعام 2013م. الأمر الذي يثبتُهُ هذا الحضور المتصاعد للغة العربيةِ اليومَ في الإعلام المكتوبِ والفضائياتِ ومواقع التواصلِ على شبكة الإنترنيت، والذي جعل العربيةَ تحتلُّ اليوم المرتبة الرابعة بين لغات العالم تداولاً وانتشاراً، متقدمة بذلك على عدة لغات من بينها الفرنسية. نعم تحتاجُ العربية اليوم، كسائرِ اللغات التي تسعى إلى التطور، إلى تحديثِ طرائق تعليمها وتطوير مناهج تلقينها، وكذا إلى تحيين معاجِمها، وإقدارها على تكلم العلومِ الإنسانيةِ في أحدث فتوحِها، والعلوم الصرفة بمختلف تشعباتها، كما تحتاجُ إلى التكوين الحديثِ لمعلِّمِيها، وتحسينِ حضورِها في الإعلامِ والإشهارِ والتواصل العام... إلخ. وهذه أوراشٌ لا يعز على أهلها الاضطلاعُ بها، بل ثمة مجهودات منسية رفيعة في هذا الباب قامت بها "مجامع اللغة العربية" و"مكتب تنسيق التعريب" بالمغرب وغيرها من المؤسسات؛ فضلا عن مجهودات رائدة في تعريب العلوم في التعليم العالي بنجاح في بعض البلدان العربية، مما ينبغي الإفادةُ منه واستثماره في تحرير اللغة العربية من تهميشها وجعلها وسيلة للتحرر والتطور. بهذا الأفق يُمكن للعربيةِ أن تخرجَ من الجدلِ المثارِ حولهَا بنفعٍ بليغٍ، فيما سيرتدُّ الدجلُ متهافِتاً و قد انقلبَ على أهلهِ عليهم حسراتٍ.