غالبا ما يفجر قضايا الإصلاح الكبرى في المجتمعات،مبادرون لا يتوفرون دائما على معرفة كافية تجعلهم يحتاطون في طروحاتهم من العواقب التي يمكن أن تتسبب فيها دعواتهم الجريئة. غير أن لهؤلاء فضيلة، في كل زمان ومكان،ومهما تكن السياقات، أنهم يكونون سببا في تحريك نقاش، ظل مؤجلا ومغيبا لسبب أو لآخر، بشأن قضايا يلفها الصمت، خوفا أو نفاقا. يتورع اهل العلم والرأي الصائب عن الخوض فيها، خشية ردود أفعال من جمهور لا يفقه في العلم شيئا، أو من "نخب" مستفيدة من بقاء الأوضاع على حالها وخاصة حين تتداخل القضايا مع الشأن الديني. والمعروف أن المغرب شهد انفجارات اجتماعية عنيفة، على خلفية المسألة التعليمية ومشاريع إصلاح تحمس لها مسؤولون، أعمتهم المقاربة التكنوقراطية، من لم تكن لهم دراية بما يختلج في الوجدان الشعبي. والمثال الأبرز هو انتفاضة 23 مارس في الدارالبيضاء التي سالت فيها دماء وسقط ضحايا. وفي الزمن الراهن، يبدو غريبا ومثيرا حقا، أن تصدر دعوة العدول عن التلقين بالعربية الفصحى في التعليم الابتدائي واستبدالها بالدارجة (اية دارجة) وتجفيف هذه المرحلة المبكرة من ينابيع الدين ؛ من ناشط جمعوي، يحوم حوله الكثير من القيل والقال، حقا أو باطلا ؛ ليست له اراء محترمة وآراء متفردة وعميقة فيما له صلة بالتربية والتعليم، فبالأحرى علوم اللغة ونظريات التعلم والاستيعاب. وعلى افتراض حسن النية وصدقها عند صاحب الدعوة، وأن الباعث نبيل على ما أطل به على الرأي العام المغربي، فإنه ما كان ينبغي له أن يجاهر بمثل موقفه الصادموالغريب، في أعقاب ندوة وصفت بالدولية؛ لا تعرفالجهات التي نظمتها وكذا مقدار الصدقية العلمية للباحثين العلماء الذين شاركوا فيها، وتجربتهم المديدة في حقل التربية والتعليم. ربما كان جديرا بالسيد "نور الدين عيوش" وهو المختص في مجال التواصل، أن يقترح، على سبيل المثال، تنظيم ندوة وطنية، تجمع المختصين والممارسين والفاعلين من مختلف الآفاق والمشارب التربوية، لمناقشة موضوع "لغات التعلم" من زاوية المقاربات ووجهات النظر السيكولوجية واللسانية والبيداغوجية ؛وانطلاقا من مردودية المنظومة التعليمية المطبقة حاليا،وتأسيسا كذلك على مشروع أرضية تربوية، يتداول بصددها المختصون في علوم اللغة والفاعلون التربويون والمتدخلون في العملية التعليمية برمتها. مرة أخرى، لا ينبغي مصادرة أراء الناس، ولا محاسبتهم على النوايا والدوافع العميقة التي تحركهم؛ لكن الوازع الوطني والاخلاقي، يحتم توجيه بعض الأسئلة الى صاحب المبادرة السيد "عيوش" وهو للعلم وفيما أعلم، ليس مختصا في علوم اللغة وأساليب تدريسها. لا أحد يخالفه الراي في أن الوضع التعليمي في المغرب لا يسر أحدا ولا يطمئن على ولوج المستقبل من ابواب المعرفة الواسعة؛واللغة، أية لغة كانت، هي أحد المفاتيح الأساسية للولوج المبتغى. يجب التساؤل بدءا، هل تستند دعوته "عيوش" على تقييم كمي وكيفي، للحصيلة التربوية في التعليم الابتدائي؟ ما طبيعة المرتكزات النظرية التي بنى عليها افتراضاته؟ وما قيمة البراهين العلمية التي أوصلته إلى خلاصات ونتائج بنى عليها دعوته المثيرة؟ وعلى افتراض أن العربية الفصحىالمغلفة برداء الدين، تشكل من وجهة نظر الناشط "عيوش" عائقا معرفيا، يحول دون استيعاب المتعلم بشكل جيد وتمنعه من التعبير عن ملكاته ومواهبه بطلاقة وتلقائية؛ أفلم يكن حريا به، وهو يبشر بدعوته، التدليل بالتجارب المماثلة الناجحة في بيئات تربوية أخرى، اختارت مثل نهجه؟ لماذا اختار العربية تحديدا ولم يبشر بدعوته لدى الفرنسيين والألمان؟ أليست الفرنسية الملقنة للصغار وهي فصيحة، لا تخلو بدورها من صعوبات جمة مثل أية لغة، بما فيها الدارجة؟ لماذا لا تطبق نظريته على الفرنسية في مدارسنا؟ لماذا لا يدلي برأي صريح بشأن إضافة لغة ثالثة هي الأمازيغية في التعليم، ما يجعل المتعلم المغربي في مواجهة ثلاثة أنظمة في الرسم الكتابي. ألايشكل ذلك عبئا إضافيا على التلقين ؟الإشارة هنا إلى الامازيغية، كمعطى تربوي، فقط ولا يقصد منه البتة التشكيك فيها او الجدل بشأنها. الواقع أن الأسئلة كثيرة بهذا الخصوص، لا نوقف شلالها،دون استفسار "المدعي" عن الكلفة المالية لمقترحه، وهو رجل الحساب والربح والخسارة واية استراتيجية تعليمية لتكوين المكونين وأي عتاد تربوي هيأه لهذه الغاية؟ نعم، يتوهم اشباه "الحداثيين" أن التخلص من كل ما له صلة بالماضي، هو شرط الدخول إلى المستقبل ومجتمع المعرفة الجديدة. وبالتالي فإن الحل أو الدواء، جاهز، تم صنعه في مختبرات الخارج، ولا ضرر في استيراده و تطبيقه قسرا، على المجتمع المتخلف، دون التفكير في العواقبوالمضاعفات الجانبية،وتأثيرها على البنية الذهنية والثقافية والقيمية لمجتمع ما؛ فما المجتمعات عير المتقدمة، إلا حقول تجارب واطفالها ومتعلموها "فئران مخبرية". ويعرف المشتغلون بالبحث اللغوي والخائضون في علوم التربية، صعوبات مرحلة التعليم الأولي، نجحت الأبحاث والتجارب التربوية المتناسلة في تذليل الكثير منها، وما زالت الاجتهادات مستمرة؛ دفعتها انجازات التكنولوجيا الحديثة في مجال التعليم؛ فأصبحت كثير من الصعوبات ثانوية،بفضل ثورة المعرفة. ولو كان السيد،عيوش، عالما حقا، لدعا إلى استثمار ما تيسره الثورة التكنولوجية لتطويع اللغة العربية الفصحى ما يمكن المتعلم الصغير من استعمالها بمهارة وسرعة، وكأنه يمارس لعبة جذابة. ولمن لا يعلم، فإن دعوة "الخلاص من الفصحى" الذي بشر به السيد عيوش، ليست جديدة، بقدر ما هيتطاول على الجهود الموصولة التي انشغل أصحابها بالبحث عن استراتيجية تعليمية،لتيسير اللغات الصعبة، كيفما كانت، لتصبح سهلة الاستيعاب.إنه مطمح أية بيداغوجيا في الماضي البعيد والحاضر الآني. تنكر البيداغوجيا وجود صعوبات مطلقة مثلما لا تسلم سهولة الاكتساب. كل العراقيل قابلة للتذليل بالاعتماد على الأساليب التعليمية والطرق التربوية الناجعة.إن الارتداد عن سجل الفصحى إلى الدارجة،لا يحل المشكل أبدا.. وهل يعلم السيد عيوش، مثلا أن الشقيقة تونس، حاولت تطبيق ما يشبه دعوته، خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي، حيث طور اللغويون والتربيون فيها، استراتيجية تعليمية دعت إلى التقريب بين الفصحى والعامية أو اللهجة الأم؛ ليس بمثل توصيف تصور السيد عيوش، وإنما بناء على إجراءات تربوية منها حصر الرصيد اللغوي في التعليم الأساسي الواجب استيعابه وتخليصه من الغريب والمهمل والحوشي في اللغة،كما يقول الأقدمون، بهدف تضييق المعابر بين ضفتي الفصحى والعامية. واقترح التربويون التونسيون لتجريب تلك البيداغوجية عدم الشكل والاكتفاء بتسكين أواخر الكلمات، على اعتبار أن الإعراب يمثل صعوبة. وبالتالي تصبح جملة مثل "انا خرجت من الدار ومشيت للمدرسة وركبت السيارة" فصيحة إذا ما أشكلت بالشكل التام، ودارجة بتسكين أواخر الكلمات فيها. هذه الاستراتيجية المرحلية والانتقالية، يمكن تطويرها، لكنها لا تعني قطعا اللجوء لدارجة لقيطة أو مصطنعة لحل مشاكل وصعوبات استيعاب العربية الفصحى. وبموازاة هذا الحل، طور الباحثون في علوم اللغة والتربية، منذ القديم، استراتيجيات بديبة ومكملة لتيسير تعلم اللغة بينها استبعاد النحو الصريح واستبداله بالضمني، بحيث يميز المتعلم بين الفاعل و المفعول والظرف، دون أن يستعمل المسميات النحوية وحفظ القاعدة. يؤجل استيعاب القواعد لمرحلة لاحقة، تبعا لارتقاء النمو المعرفي للمتعلم، حتى يدرك سر قواعد النحو وتمييز المجردات من المحسوسات والانتقال من البسيط إلى المركب. يكمن عائق الإصلاح التربوي في المغرب، وأغلب البلدان العربية، في ضعف المعرفة بالمشاكل أولا وهيمنة الرؤية المحافظة إلى قضايا اللغة،والتوجس من المقاربات الحديثة في التعلم وسواه؛ إلى جانب قصور في البحث العلمي ورتابة الممارسة التربوية. نسأل صاحب الدعوة إلى أعلاء الدارجة :كيف يفسر أنا متعلما ولد في قرية مغربية نائية، لغته الأم هي الأمازيغية، دخل المدرسة العصرية، ودرس على أيدي متعلمين غير مؤهلين. وفي مرحلة من التعليم سيلقن المواد العلمية بالعربية الممزوجة بالفرنسية... هذه الخلطة العجيبة من اللغات والمعارف، في ذهن المتعلم تنتج لنا في النهاية تلميذا متفوقا، قادرا على مواصلة التعليم الجامعي بلغة غير العربية أو بها، يحصل في المدارس الأجنبية على معدلات التفوق. هل توجد صعوبات أعقد من هذه؟ وهل تتساوى بما يتخيله صاحب الدعوة من مشاكل العربية الفصحى؟ إن الحوافز القوية على التعلم،قادرة على تجاوز الصعوبات وشق الطرق في صخور المعارف. وبدل تعويد المتعلم على السلوك المتكاسل والاكتفاء بالعلم الخفيف، يجب تحفيزه وشحذ ذهنه وتطوير قدراته، بكل المنشطات التعليمية ليستزيد من المعرفة. لا يقبل عاقل أن تتحول قاعات الدرس إلى ساحة للملاكمةاللغوية بسقط الكلام. وهذا ليس انتقاصا من الدراجة كأداة تواصل. وأخيرا فإن المشكل ليس محصورا في المفاضلة بين الفصحى والدارجة، فلكل وسيلة وظيفتها، بل في توفير شروط تعليم جيد وناجع ونافع في مدرسة وطنية، ينهض بالرسالة فيها مكونون ومؤطرون أكفاء، وفق استراتيجية تعليمية واضحة وعدالة في الحظوظ والفرص بين المتعلمين. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.