تواجه اللغةَ العربيةَ مجموعة من التحديات في المغرب، وكذا الدول العربية التي تشابهه في نظامها التربوي، حيث لا نحتاج إلى عناء كبير للإقرار بضعف متكلم اللغة العربية، "فلا تختلف تقارير الخبراء في وصف اللغة العربية بأنها تعاني اليوم ضمورا بين أهلها وذويها قبل غيرهم، وفي دارها قبل دار غيرها" . وفي هذا الصدد، أثبت الفاسي الفهري الفكرة نفسها قائلا: "إن أزمة اللغة العربية في المغرب حقا قائمة في مستويات كثيرة لم تعد محتملة، أزمة وضع (في التعليم والإدارة والاقتصاد)، وأزمة متن (معاجم وقواعد ونصوص)، ووظيفيات في الحياة العامة والإدارة" . مفاد هذا الكلام أن التواصل بالعربية، باعتباره هدفا من تعليم اللغة، لم يتحقق، وأن التداول بالعربية بين أهلها لم يتحقق، الشيء الذي يؤكد وجود خلل يشكو منه الدرس اللغوي العربي. فما مؤشرات هذا الخلل؟ وما أسبابه؟ .1- مؤشرات ضعف الدرس اللغوي العربي 1.1- وضعية اللغة العربية في المغرب يقر الدستور المغربي برسمية اللغة العربية في المغرب، فهي اللغة الناطقة بلسان أهلها، والشاهدة على ذويها.إلا أن وضعها لا يعكس ما صرح به الدستور، حيث تستعمل في مجالات محدودة وتحاصر بلغات أخرى، ذلك أن العامية هي اللغة السائدة في البيت والشارع والسوق. وتبقى الفرنسية، باعتبارها لغة أجنبية، هي اللغة الموظفة في الاقتصاد والإدارة. ويعني هذا أن العربية في وضعية غير مريحة، فبالرغم من كون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد استنادا إلى الدستور، فإن هناك إقرارا فعليا بثنائية لغوية وظيفية فيما يبدو، بل أحادية لغوية فرنسية في التعامل مع عدد من المجالات. وحتى نذكر ببعض الأمثلة، فإن النصوص والمراسلات الرسمية تحرر أكثر فأكثر بالفرنسية، وإذا وجدت صيغة معربة لها فإنها غالبا ما تكتب بلغة ركيكة غير مفهومة، ومن أمثلة هذه الظاهرة أن كل المواد العلمية والتقنية تدرس بالفرنسية (وخصوصا في التعليم الجامعي)" إن وضع اللغة العربية جدير بالاهتمام باعتبار العربية لغة القرآن والعرب والهوية الثقافية، لذلك فإن اللائق بالعربية هو أن تسترجع همتها وقوتها في البلاد العربية لتكون اللغة الرسمية، حقا. فالمتأمل للغة العربية في المغرب، يكشف اختلالات لغوية تتجلى في هيمنة العامية في الحديث اليومي، وهيمنة الفرنسية في الشؤون الاقتصادية. وهذه الوضعية تدعو للاستغراب، وهذا ما عبر عنه الفاسي الفهري (2005) قائلا: "ولست لأدري كيف سنقوم هذا الوضع الاستيلابي الذي أصبحنا نحياه جميعا في أسرنا ومجتمعنا، وأصبحنا نشح فيه حتى في الحديث العادي بدارجتنا المغربية أو أمازيغيتنا، ناهيك عن فصيحتنا. فافرنجج لساننا في المخبزة والمقهى والقناتين الأولى والثانية، والاجتماع بالجامعة أو الجماعة، في بيتنا مع أطفالنا" . وتماشيا مع ما سبق، فإن العربية مهمشة في الحياة العامة المغربية، "ذلك أننا في المغرب، لا نأكل بالعربية، ولا نملأ بها شيكنا البنكي، ولا نتسلم بها الوصل البريدي ولا نعبئ بها بطاقة الأمن، إلخ. والتجارة والتعليم العلمي والتقني والمصالح الاقتصادية والإدارية، لا تتكلم عادة بالعربية" . وما يؤكد الأزمة اللغوية في المغرب هو كون العربية ليست وظيفية في الحياة العامة. وإذا كانت الفرنسية مزدهرة في وظيفتها رغم أنها ليست اللغة الرسمية للبلاد، فإن العربية، وهي اللغة الرسمية حسب الدستور، تعيش وضعا يعطل وظائفها الطبيعية ويجعلها تبدو مجردة من المعلومات الواردة، وزمن فرص الشغل والفوائد الاقتصادية والمحيط التكنولوجي . يعني هذا أن العربية الفصيحة تجد نفسها مضايقة بالعامية، أضف إلى ذلك ضعف نسبة التمدرس في كثير من الدول العربية، فمتوسط انتشار الأمية لا يقل عن 50%من مجموع الشعوب العربية، رغم وجود مؤسسات تعليمية كثيرة، أساسية وجامعية. كما أن العربية محاصرة من كل اتجاه، فهي: "محاصرة بطردها من المؤسسات العلمية؛ ومحاصرة بتأخير دورها في استقبال الصغار؛ بل محاصرة بعجزها عن المنافسة الحضارية ومحاصرة بما يحوطها من اللهجات واللغات ". ولا يزال تغليب استعمال العامية في القانون مثل المسرح والسينما سائدا مما يخلق ازدواجية لغوية، إلا أن الازدواجية في حد ذاتها ليست سلبية بالمطلق، فهي تمثل مجالات لغوية مركبة تختلف فيها لغة المدرسة بعض الشيء عن الحياة العملية أو الشارع أو الاقليم. ويجب ألا تعمق الازدواجية الفجوة بين لغة المدرسة ولغة الحديث اليومي، حتى لا تفقد الأولى وظيفتها الحيوية، وتطمح الدراجة في الإحلال محلها . هكذا يبدو جليا للعيان أن اللغة العربية في المغرب تعيش وضعية صعبة وظروف انحطاط خطيرة، حيث تستعمل قي مجالات محدودة. وإذا تأملنا وضعيةالعربية في المغرب مقارنة مع باقي الدول العربية نلحظ بوضوح وضعيتها المتردية. يقول الفاسي الفهري: "وإذا ما توقفنا عند اللغة العربية الأولى (العربية) في البلدان العربية، نلاحظ أن نسبة الاستثمارات وعائدات السياحة، مثلا تتغير تبعا لوضع العربية في المحيط اللغوي للبلد المعني. فالاستثمارات في مصر ولبنان، بل حتى في تونس، تفوق نسبها بكثير تلك التي تؤول إلى المغرب، الذي يعد عادة فرنكفونيا، عند ذوي الاستثمار،... وفي لبنان مثلا (وهو بلد تعدد لغوي) تمثل العربية اللغة الأولى في التواصل والمعاملات السياحة، الخ. ويشعر العربي بالارتياح فيمثل هذا المحيط اللغوي الذي تحظى فيه لغته الأم بالاعتبار المطلوب. ونجد أوضاعا مماثلة فيعدد من البلدان العربية وحتى الإسلامية (كما هو الحال في ماليزيا مثلا)، بما في ذلك البلدان المغاربية، رغم أنها ناطقة بالفرنسية أو الانجليزية مثلنا ، وما يؤكد أزمة اللغة العربية هو أن أغلبية الاقتصاديين المغاربة لا يدينون إلا باللغة الأجنبية (خاصة الفرنسية) في المعاملات الاقتصادية، بل حتى في بالتسيير الإداري، منكرين إمكان أن تصبح اللغة الرسمية لغة اتصال وعمل في هذه الميادين، بل الأدهى من ذلك هو أن هؤلاء قرروا إغلاق أبواب الشغل في وجه الأطر المعربة لصالح أطر أقل كفاءة لأنها تتقن الفرنسية. 1--2عدم القدرة على التواصل بالعربية. تم التحدث في الفقرة السابقة عن وضعية اللغة العربية باعتبارها من مؤشرات الخلل، وتبين أنها تعيش ظروف انحطاط، وذلك ما تؤكده جهات متعددة تهتم بالموضوع. ويتجلى هذا الضعف في عدم وظيفية العربية في التواصل. إن ما يمكن ملاحظته بسهولة هو أن التلاميذ والطلبة في المؤسسات التعليمية والجامعية لا يستطيعون التعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم بلغة عربية سليمة وبطلاقة وتلقائية. والمدرسون أنفسهم، وفي كل المستويات، قد لا يستطيعون ذلك أيضا، فهم، إذن لا يستطيعون أن يكونوا نماذج صالحة لتلامذتهم وطلبتهم . والمثقفون الآخرون في المنابر المختلفة عاجزون أيضاعن استعمال اللغة العربية استعمالا صحيحا. وأحسن مثال على ذلك الصحافيون، حيث يمكن رصد عجز الصحافي عن وضع السؤال أو الإجابة عنه بتلقائية وبلغة عربية سليمة، والمذيع في الإذاعة أو التلفزة لا يستطيع أن يقرأ قراءة صحيحة ما هو مكتوب أمامه، إذ يرفع المنصوب وينصب المرفوع (ما حقه الرفع). ومثال ذلك قول المذيع: كان حجاج بيت الله واقفون بعرفة. فالمذيع نصب ما حقه الرفع (الحجاج) ورفع ما حقه النصب (واقفين). كما أن اللغة التي يتواصل بها الشعب هي العامية، بينما يبقى العجز سائدا في التواصل باللغة العربية الفصيحة. فهاته الأخيرة لم تطوع علميا وتكنولوجيا للقيام بوظائف محددة وجديدة في التعليم، إذ إن هناك اختلالات في لغة التعليم وتعليم اللغة. ويتجلى هذا في ضعف إتقان اللغة العربية لدى المتعلم، وضعف نوعية تعليمها وضعف الوسائط الموظفة والمعارف مردود التعليم بصفة عامة. وأشار عبد الصبور شاهين (2002) إلى أن العربية تواجه جملة من التحديات التي تعاني من أجلها نوعا من العزلة عن الحياة اللغوية، وأول هذا التحديات عزلة اللغة عن الاستعمال العام، حيث حلت اللهجات العامية محلها، وأخذت مكانها في ألسنة الناطقين العرب، ونتج عن ذلك نشوء مجموعة اللهجات المحلية التي تختلف من بلد على آخر داخل القطر الواحد، فإذا كان عدد البلاد العربية اثنين وعشرين دولة هي مجموع الأعضاء في جامعة الدول العربية، فإن لدينا اثنين وعشرين لهجة، تتفرع عنا لهجات بلدية تتميز كل منها عن الأخرى ببعض الخواص الصوتية. والجدير بالذكر أن العربية تستعمل فيبعض المجالات القليلة وتظهر عليها مظاهر الضعف إن على مستوى المكتوب أو المسموع. فأما المكتوب، فيمكن في عدم السلامة في الأسلوب، وتركيب الجمل تركيبا ينم عن التكلف، وغلبة الركاكة والسماجة والبعد عن جماليات اللغو، حتى يصل الكلام المكتوب في أحيان كثيرة إلى مستوى يقرب من العامية، أو يتسم بالتكلف الذي لا يهز مشاعرا ولا يحدث في النفوس الأثر المطلوب . أضف إلى ذلك إهمال علامات الترقيم من فاصلة ونقطة إهمالا يرهق قارئ الكلام المكتوب في فهم معانيه، ويصعب عليه إدراك علاقات الجمل بعضها ببعض، ومعرفة نهاية الكلام وبداية كلام أخر، فضلا عن جهل معاني الأدوات اللغوية ووظائفها بحيث تستعمل استعمالا اعتباطيا لا تراعي فيه دقة توظيف الأداة، كعدم التفريق بين: "إذا" و "إن" الشرطيتين/ و"لم" و "لما" الجازمتين، وحرفي الجواب "نعم" و"بلى"، و"لا" النافية للجنس، واستعمال أداة التوكيد في موضع لا يقتضي التوكيد، وسوء استعمال "أحد" و"إحدى" في مثل قولهم: إحدى المستشفيات وأحد المدارس... والقائمة طويلة من الأخطاء اللغوية الشائعة. وأما المسموع، فحدث ولا حرج، فعلاوة على الأخطاء الصرفية والنحوية والأخطاء الشائعة وركاكة الأسلوب وعدم الترابط بين الجمل، هناك أخطاء مرتبطة بالجانب الصوتي حيث يغيب تقريبا النطق الصحيح للذال والثاء والظاء، وتنطق الذال دالا والثاء تاء والظاء ضاء. نتوصل من خلال المؤشرين السابقين المتعلقين بوضعية اللغة العربية وعدم القدرة على التواصل بها من قبل أبناء العربية، إلى نتيجة واقعية تشهد عليها الحياة اليومية هي ضعف وظيفية اللغة العربية، وحتى إن وظفت فإنها تشكو من نقائض عددية إن على مستوى المسموع أو على مستوى المكتوب كما وضحنا سابقا. وهذا الوضع يفرض السؤال التالي، لماذا أضحت اللغة العربية على هذا الحال؟ لماذا لا يحقق الدرس اللغوي العربي التواصل المنشود؟ لماذا هذا الخلل؟ وبعباره أخرى ما أسباب هذا الخلل؟ 2- بعض أسباب ضعف وظيفية اللغة العربية ترتبط أسباب ضعف وظيفية اللغة العربية ارتباطا وثيقا بتعليمها. ذلك أن للتعليم دورا حاسما في تغيير الوضع "فهو - كما قيل – أهم عوامل التغيير على وجه الأرض، وهو مصدر الرفاه والتقدم الاقتصادي والرقي الاجتماعي... فالتعليم هو أعظم الوسائل لتحقيق المساواة الاجتماعية" ، بمعنى أن ضعف اللغة العربية مرتبط بتعليمها. يقولالبوشيخي: "ولئن كان هناك تفاوت بين المهتمين ف يتعدد العوائق والأسباب ومواطن الضعف، فإن ثمة إجماعا على أن للتعليم دورا يكاد يكون حاسما في تغيير هذا الوضع" . وما يؤكد دور التعليم في ضعف وظيفية اللغة العربية هو أن مراحل التعليم من الابتدائي مرورا بالإعدادي ووصولا إلى الثانوي لم تعط التلميذ المنشود القادر على التعبير عن همومه ومشاكل عصره بلغة عربية سليمة و فصيحة. وهذا التلميذ العاجز عن التعبير هو ما ينتقل إلى الجامعة وهو على تلك الحالة من الضعف. أضف إلى ذلك أن الضعف عام يمس قدرة التلاميذ على الأداء اللغوي السليم نطقا وكتابة وفهما، وهذا يفسر فشل العملية التعليمية في تحقيق الهدف المنشود. وقد يكون السبب هو عدم امتلاك المدرسين لناصية اللغة، وعدم ملاءمة محتويات الكتب المدرسية من الناحية التربوية مع مستوى التلاميذ، وقد يكون الغلاف الزمني المخصص للغة العربية غير كاف لتحقيق الهدف من تعلمها. وفي الختام نقول: مهما تنوعت الأسباب فإنها تتصل اتصالا وثيقا بنوعية تعليمها. فالعربية باعتبارها تحمل رمزية ذات أهمية، فاللائق بها أن تحظى بعناية فائقة لجعلها لغة وظيفية. ولا شك أن أولى الخطوات تقتضي إعادة النظر في تعليمها، وذلك بتكوين مدرسي العربية تكوينا فعالا، وتخصيص الغلاف الزمني الكافي لتدريسها تدريسا فعالا، والتفكير بمنهج علمي في العملية التعليمية يتيح تجاوز الصعوبات وتحقيق الطموحات.