شغلت الساحة الفكرية المغربية مؤخرا بتداعيات الدعوة إلى إحلال الدارجة المغربية محل الفصحى في التعليم والقراءة، وما تلاها من سجالات حادة لا يسمع معها صوت للمعرفة. الآن وقد بدأت حدة النقاش بالتراجع، فقد أمكن الإسهام في النقاش بهذه الأفكار. تحينت الدعوة إلى إحلال الدارجة المغربية محل الفصحى في التعليم وقوع حدث وطني تصحيحي، هو دعوة جلالة الملك محمد السادس إلى إصلاح الأعطاب والاختلالات التي شابت نظامنا التعليمي جراء تعريضه لموجات متتالية من التجارب والمحاولات التي لم يكن أكثرها مهنيا ولا قاصدا إلى بناء منظومة تربوية سليمة وقادرة على أن ترتفع بالإنسان إلى المستوى المعرفي اللائق. لقد تحدث جلالة الملك بصراحة متناهية عن المستوى الذي تردى إليه تعليمنا العمومي، ثم دعا إلى وضع تصور وطني شامل تسهم فيه كل الفعاليات المتمرسة بالعملية التعليمية والقادرة على الإسهام في بناء تصور تعليمي جديد. لكن بعض من كانوا يبطنون روح العداء للفصحى، رأوا أن الفرصة مواتية جدا للانقضاض عليها في غمرة البحث والسؤال عن العوامل التي سببت ضعف المستوى التعليمي، فاقترحت اعتماد العامية بدلا عن الفصحى، لتكون لغة للتعليم في إيحاء واضح إلى كون الفصحى علة الضعف وسببه، وقد فات هؤلاء أن ضعف المستوى المعرفي ليس خاصا بالمواد التي تدرس بالعربية الفصحى، وإنما هو ضعف عام يشمل كل المواد الدراسية، بما فيها تلك التي تدرس بلغات أخرى غير العربية كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية، وهذه المواد يعرف القائمون على العملية التعليمية أن مستوى التلاميذ فيها أشد ضعفا وهزالا. وحينما يغتنم البعض مناسبة البحث عن إصلاح جذري لتعليمنا، فيمرر أفكارا لا صلة لها بموضوع التعليم، فإن هذا الاستغلال للظرف وللحالة لا يمثل اعتداء على الفصحى، ومحاولة للإجهاز عليها فحسب، وإنما يتضمن أيضا تضليلا وتفويتا لفرصة السير في الطريق المؤدية إلى الغاية. وحين يضلل من يبحث عن مطلوبه في أول الطريق، ويشار عليه بسلوك طريق أخرى غير مؤدية إلى القصد، فإن ذلك لا يكون إلا تطويلا لزمن البحث وإبعادا عن المطلوب من أن يدرك في الزمن المناسب. وحينما يتم فحص الدعوة إلى استعمال العامية في التدريس، فإنه لا ضرورة لشخصنتها وقصرها على من دعا إليها راهنا، لأنها دعوة هي أقدم في زمنها من وجود الداعين إليها حاليا، وهي أيضا أكبر وأثقل من أحجام دعاتها ومن مستوياتهم العلمية، وقد عرفت هذه الدعوة حالات عديدة من الخفاء والتجلي عبر زمن طويل، لكن سوء التقدير سول إسنادها إلى من لا تتوفر فيهم شروط علمية تؤهلهم لأن يؤدوا دورهم بكفاءة، ولعلهم قد وضعوا أنفسهم بين أن يحققوا شيئا من النجاح، أو تحترق أسماؤهم ويعودوا من جديد إلى الظل وإلى الخفاء، وهم مستبشرون بأنهم لم يخسروا شيئا، لأنهم لم يكن لهم شيء يخافون خسرانه أصلا، ومهما يكن فإن هذه الدعوة تتطلب أن تواجه علميا بما تستحقه من البحث من أجل إيضاحها في أعين المواطنين بخلاف من يدعو إليها لأن صاحب الحاجة أرعن كما يقال، وسأعالج قضية الدعوة إلى العامية على مستويين: – مستوى عرض مسارها والإشارة إلى روادها وأقطابها. – مستوى تحليل الدعوة في جوهرها، وإمكانات تنفيذها، وتداعياتها على الهوية والمعرفة معا. مسار الدعوة إلى العامية تقترن بدايات الدعوة إلى اعتماد العامية في التعليم وفي الكتابة بالفترة التي سبقت استيلاء القوى الاستعمارية على البلاد العربية والإسلامية، وقد كان الاهتمام بالعامية وبجمع نصوصها وبالتنظير لها خطوة تمهيدية وإسهاما معرفيا ودعما ثقافيا قدمته النخب المثقفة للمشروع التجزيئي الاستعماري، وقد كانت تلك النخب بحكم موقعها على وعي كامل بأهمية اللغة وقدرتها على الحفاظ على هوية الأمة من خلال ما تحمله الكلمة من بصمات حضارية وثقافية تصوغ الوعي وتحمي الخصوصية. لقد أنجزت دراسات عديدة عن منشأ الدعوة إلى العامية في الشرق العربي، وكان من أهمها أطروحة قيمة تقدمت بها د. نفوسة زكرياء سعيد إلى جامعة الإسكندرية سنة 1964 وعنونتها بتاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، وقد كان هذا العمل من الاستيعاب والتقصي على المستوى الذي جعله متفردا في حينه، فأثنى عليه العلامة محمود محمد شاكر وقال عنه: لا أظنني قرأت منذ سنوات طوال كتابا يتناول المسائل العامة في حياتنا الحديثة بذل فيه صاحبه من الوقت والجهد والأناة ما بذلت د. نفوسة في كتابها هذا. ( أباطيل وأسمار محمود شاكر ص 154). وفي هذا العمل العلمي الرصين رصدت د. نفوسة ببدايات اهتمام أوروبا بالعامية، فأرجعتها إلى أوليات القرن 18 حينما أسست معاهد لدراسة العامية في دول أوربية كثيرة، فكان منها مدرسة نابولي المؤسسة عام 1727 ومدرسة فينا 1854، ومدرسة باريز 1959 ومدرسة روسيا 1814، ومدرسة المجر 1891، ثم أنشأت جامعة لندن فرعا لدراسة العامية والفصحى، واشتغل الألمان بالعامية كذلك.( تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر ص 9). وبعد تتبع طويل واستعراض لجهود كثير ممن حملوا الدعوة إلى العامية، وفحص ما كان لهم من ارتباط وثيق بالدوائر الاستعمارية وبالمؤسسات التنصيرية، انتهت د. نفوسة إلى استخلاص أن غاية هؤلاء قد كانت هي الرغبة في إحداث القطيعة بين أفراد الأمة وكتابها الذي ظلت تستمد منه قيمها ومبادئها ورؤيتها للحياة وللوجود، وقد أيدت د. نفوسة ما ذهبت إليه، بما ذكره مصطفى صادق الرافعي من أن صحيفة أمريكية دعته إلى ترك استعمال الجملة القرآنية والحديثية، فامتنع وقال: إن القرآن هو قمة البيان بالنسبة للعربية، وقد صدر مثل هذا الموقف عن رجل مسيحي هو إبراهيم اليازجي لما طلب منه أن يصحح ترجمة عامية للإنجيل ، فاقترح أن يعيد ترجمته إلى العربية الفصحى فرفض له ذلك. ( تاريخ الدعوة إلى العامية ص 65). من المتابعات الجيدة لمسار الدعوة إلى العامية ما كتبته أستاذتنا د. عائشة عبد الرحمن في كتابها لغتنا والحياة ابتداء من ص 95، وقد وسعت فيه من زاوية الرؤية فتحدثت عن مواجهة العربية في الجزائر خصوصا. وقد أرخت د. بنت الشاطئ لبداية الدعوة في مصر بسنة 1880 لما نشر وِلْهلم سْبِيتا مدير دار الكتب المصرية كتابا بالألمانية تنبأ فيه بموت الفصحى مثلما ماتت اللاتينية. وقد أسس هذا المستشرق تحليله وتوقعه على واقع الثنائية اللغوية في مصر، وهي تتمثل في استعمال فئة عريضة من المصريين للعامية بينما تظل الفصحى لغة النخبة العلمية. وقد صور سبيتا هذه الظاهرة على أنها تمثل عائقا دون تمكن المصريين من الانخراط في التعلم بسبب عجزهم عن استيعاب الفصحى. وبعد محاولة سبيتا، وفي سنة 1893 حاضر مهندس الري الإنجليزي ويلكوكس الذي كان يخفي أنه منصر في نادي الأزبكية، ودعا إلى إحلال العامية محل الفصحى في الكتابة والتأليف، وكان حجته أن المصريين لا يمتلكون قوة الاختراع لأنهم يستعملون الفصحى، وقد حرص ويلكوكس على تثبيت مقالته وترسيخها في البيئة الثقافية، فدعا إليها في العدد الأول من مجلة الأزهر التي آلت إليه بعد أن تخلى محرراها عنها. وقد دعا العلماء إلى الكتابة في مجلة الأزهر بالعامية، لكن هؤلاء بعثوا إليه بمقالات عربية فصيحة ، وأصدرت جماعة منهم مجلة علمية مضادة هي مجلة المهندس، ونشروا فيها بحوثا علمية ورياضية بالفصحى التي زعم ويلكوكس أنها ليست لغة علم، وبعد إعراض شامل اضطر ويلكوكس إلى إيقاف مجلته بعدما أصدر عشرة أعداد منها، وذلك سنة 1893 وفي هذه الفترة أصدر عبد الله النديم صحيفة الأستاذ سنة 1892. وقد رد النديم على ويلكوكس قائلا: إننا نعلم علم اليقين أنه لو ظهر ألف داع بل مئات الألوف من دعاة أوروبا لاستعمال لغة تميت لغة القرآن ما وجدوا آذانا سامعة .( لغتنا والحياة 109) وبعد تلمظ ويلكوكس لعاب الحسرة والإحساس بخيبة المسعى، وبعد صمت دام ثلاثين سنة عاد ليكشف عن مكنونات صدره وعن حقيقة انتمائه وعن الباعث على دعوته، فترجم الإنجيل إلى العامية، وأصدره سنة 1925، وألف كتابا رديفا دعاه الأكل والإيمان، فتبين من خلال هذا أن الرجل كله لم يكن إلا منصرا يتستر بدعاوى الإصلاح والنهوض ، وهو لا يقصد إلا إلى إحداث القطيعة بين الأمة والقرآن الكريم. وفي الربع الثاني من القرن العشرين لم يوجد للفصحى خصم أشد لدادة من سلامة موسى، وكان هو أيضا مسيحيا يغيظه تواصل الناس مع القرآن ومع الحديث والعلوم الإسلامية، ففوق الكثير من سهامه إلى الفصحى متذرعا بالحجج التي سبقه إليها سبيتا وويلكوكس وغيرهما. إن قراءة عابرة في مشروع الدعوة إلى العامية وإلى الذرائع التي قام عليها يتبين منها أنها مجرد ذرائع واهية وأنها ليست إلا واجهة لعدوان مبيت ضد الفصحى. ذلك بأن قياس العربية على اللاتينية وتوقع أن يكون لها المصير نفسه، هو قياس مع وجود الفارق الكبير والبون الشاسع، لأن ميزة العربية أنها استوعبت النص القرآني وأدت معانيه، وقد تميز هذا النص بأنه النص الوحيد الذي حافظ على اللغة كما تنزل بها، بينما كتبت نصوص الكتب الدينية السابقة بلغات مغايرة للغات التنزيل، فبالنسبة لإنجيل متى وهو أقدم الأناجيل، فإنه مترجم إلى اللاتينية عن الآرامية المحدثة التي تكلم بها عيسى عليه السلام، ولم يتبق في النص اللاتيني من اللغة الآرامية القديمة إلا ست عشرة كلمة. (الأسفار المقدسة د. علي عبد الواحد وافي ص 87) بينما حفظ النص القرآني العربي متواترا وأحصيت حروفه وآياته وسوره وضبط المعجم والمهمل من حروفه، ورصدت معاني كلماته، وفسرت جمله واستنبطت بلاغته، وبذلت في خدمته جهود لم يحظ بمثلها كتاب آخر, وأخيرا فقد ضمن الله تعالى حفظ هذا النص لما قال: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” [ الحجر 9] ومن المنطقي أن تظل الفصحى محفوظة بحفظ القرآن، وان يستمر بقاؤها ببقائه ولا يكون لها مصير اللاتينية أو غيرها، ويتأكد هذا بمعرفة أن هذه الفصحى هي الأطول عمرا، إذ أن الكثير من كلماتها تعود إلى العصر الجاهلي الموغل في القدم، وإلى الزمن الذي تلا تنزيل القرآن وإلى الآن، وهي تتلى في المحاريب وتلقى بها الخطب في جميع بقاع العالم. هي التي تخاطب بها جماهير الأمة فتلهب المشاعر فتنتفض مدافعة عن حريتها وعن قيمها واختياراتها المشتركة. أما عن شبهة وجود العامية إلى جانب الفصحى، فتلك ظاهرة لغوية عرفتها كل اللغات منذ زمن سحيق. فقد وجد إلى جانب العربية الفصحى التي مثلتها لغة قريش لهجات أخرى وثقتها المصادر، ومع ذلك فقد كان العرب يلتقون في معارض الشعر في عكاظ ومجنة وذي المجاز، ويتذوقون جيده ويكتبونه بماء الذهب، لم يمنعهم من ذلك وجود لهجات تخالف الفصحى. وفي جميع البيئات اللغوية تتعايش لغات العلم والأدب مع لغات عامية يتداولها الناس، وما تعرفه الفصحى من مجاورة العامية لها هو ما تعرفه العاميات نفسها، إذ تنبثق إلى جانبها هي أيضا عاميات أخرى هي لغات فئات من الشباب ومن الحرفيين ومن بعض الفئات الاجتماعية الفنية والإشهارية وغيرها، وهذا كله يجري على طبيعة اللغة التي هي كائن حي ومتطور دوما. ومن بين كل المتابعات التي تناولت قضية الدعوة إلى العامية يتبوأ ما كتبه العلامة محمود محمد شاكر موقع الصدارة والتميز. وقد نشر ضمن كتابه أباطيل وأسمار مقالات تتبع فيها موضوع الدعوة إلى العامية، ومن أهمها مقالته التي عنونها ب: هذا هو تاريخنا. ( أباطيل وأسمار محمود شاكر 151 ) ومقالته الموالية التي عنونها ب : وهذه هي آثارها.( أباطيل وأسمار 172). لقد ذهب محمود شاكر أبعد من غيره في البحث عن جذور الاهتمام الأوربي بالعامية، وأرجع ذلك إلى سنة 1664 حين دعا البارون دي ويتز إلى تأسيس مدرسة جامعية تكون قاعدة لتعليم التبشير المسيحي، تعلم فيها لغات الشرق التي يناط بها أمر التبشير. ( أباطيل وأسمار 184) وقد استعرض محمود شاكر أسماء الكثير من الدعاة إلى العامية ومنهم ولهلم سبيتا الذي انتقد ازدواجية الاستعمال اللغوي، فاقترح تعميم العامية بدل أن يقترح تعميم تعليم جيد. وقد عاب سبيتا طريقة الكتابة العربية، وحاول أن يطمئن مستعملي الفصحى بأن ما يدعو إليه لا يجور على اللغة الفصيحة التي تستعمل في العبادات، وكأن هذا ليس هو أيضا نوعا آخر من الازدواجية اللغوية التي انتقدها. لقد أوهم سبيتا ومن جاء بعده أن الفصحى بكتابتها هي أشد تعقيدا من لغات أخرى كالصينية التي تكتب بحروف عديدة، ومع ذلك يحقق أهلها بها إنجازات علمية باهرة. وقد تبنت جريدة المقتطف الموالية للإنجليز دعوة سبيتا وروجت لها. وقد كان من دعاة العامية الذين تحدث عنهم محمود شاكر كارل فولرس الألماني، والمبشر الإنجليزي ويلكوكس الذي ترجم الإنجيل إلى العامية، وسلك طريقة المبشرين في الإغراء بالمال، فأعلن في جريدة الأزهر أنه يمنح من كتب مقالا بالعامية أربع جنيهات إفرنكية. ( أباطيل وأسمار ص 165) ومن دعاة العامية الذين تحدث عنهم شاكر المستشرق سلدن ويلمور الذي ألف سنة 1901 كتابا سماه العربية المحلية في مصر. وقد زعم أن عالما لغويا أمريكيا يشاطره آراءه في ضرورة التخلي عن الفصحى، وإن كان لم يذكر اسمه، ولا إن كان هو من يوحي إليه بهذه الأفكار. ومن الناقمين على العربية الذين تحدث عنهم محمود شاكر طويلا لويس عوض المسيحي. لقد شخص محمود شاكر الباعث على هذه الحملة الضارية ضد الفصحى فقال: فمنذ استيقظ العالم الأوروبي لنهضته الحديثة، وهو يرى عجبا من حوله، أمم مختلفة الأجناس والألسنة من قلب روسيا، إلى الصين، إلى الهند، إلى جزائر الهند، إلى فارس، إلى تركيا، إلى بلاد العرب، إلى شمال إفريقيا، إلى القارة الإفريقية وسواحلها، إلى قلب أوروبا نفسها، تتلو كتابا واحدا يجمعها، يقرؤه من لسانه العربية، ومن لسانه غير العربية، وتحفظه جمهرة كبيرة منهم عن ظهر قلب، عرفت لغة العرب أم لم تعرفها، ومن لم يحفظ جميعه حفظ بعضه، ليقيم به صلاته، وتداخلت لغته في اللغات، وتحولت خطوط الأمم إلى الخط الذي يكتب به هذا الكتاب كالهند وجزائر الهند، وفارس وسائر من دان بالإسلام، فكان عجبا أن يكون في الأرض كتاب له هذه القوة الخارقة في تحويل البشر إلى اتجاه واحد متسق على اختلاف الأجناس والألوان والألسنة ( أباطيل وأسمار ص 158). الاهتمام بالعامية والدعوة إليها في الغرب الإسلامي كثيرا ما يقتصر الباحثون في تاريخ الدعوة إلى العامية على إيراد وقائع تمت في الشرق العربي، ويفوتهم أن الاهتمام بالعامية قد بدأ مبكرا في الغرب الإسلامي بحكم التماس والاتصال بين المسلمين والمسيحيين على أرض الأندلس، وبحكم تنامي الرغبة لدى المنصرين في تنفيذ مشروع الاسترداد وتنصير المسلمين وإلحاقهم بالعالم المسيحي. وفيما قرأت لم أجد أن باحثا تقصى الموضوع مثلما فعل أستاذنا د. محمد بنشريفة الذي أسعفه اطلاعه الواسع على التاريخ الثقافي للغرب الإسلامي، واتصاله الوثيق بمصادر المعرفة الإسلامية بمادة علمية تمكن بها من معالجة الموضوع معالجة رصينة، فكتب بحثا بعنوان: حول معاجم اللغة العامية المغربية عرض تاريخي، وقدمه إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورتها الخامسة والستين مارس 1999. وقد نشرت مجلة المجمع هذا البحث في عددها 89. ويذكر د. بنشريفة أن بدايات الاهتمام بالعامية في الأندلس تعود إلى القرن السابع الهجري، لما وضع الراهب الكطلاني ريموند مرتين الذي وضع معجما عربيا لاتينيا وآخر لاتينيا عربيا، اعتمد فيه عامية شرق الأندلس، ويبدو أن هذا الراهب كان مطلعا على الفصحى وعلى بعض العلوم الإسلامية، وقد بلغ من غروره ادعاؤه القدرة على معارضة القرآن.( بحث حول معاجم اللغة العامية المغربية مجمع مجلة اللغة العربية بالقاهرة عدد 89 ص 135) وقد أثبت الونشريسي في المعيار مناظرة طويلة بين هذا الراهب – وإن كان لم يصرح باسمه – وبين أبي علي الحسين بن رشيق كما أفاد ذلك د. بنشريفة، وقد حاول الراهب دحض تحدي القرآن للناس بأن ياتوا بمثله واستمرار ذلك في الزمن، وقرنه بما روي من أن الحريري ساق بيتين تحدى الناس بأن ياتوا بثالث لهما، وقد حسم ابن رشيق الموقف بأن أضاف إليهما على البديهة بيتا ثالثا، فسقط تحدي الحريري وبطل مستند دعوة الراهب. (المعيار المعرب والجامع المغرب للونشريسي ج 11ص 155). من المهتمين بالعامية الراهب بيدرو دي ألكالا الذي نشر في غرناطة عام 1505 معجما قاصدا إلى الإعانة به على تنصير المسلمين الذين بقوا تحت الذمة، وقد أعاد الراهب الطليطلي PATRICIO DE LATORE الذي عاش في المغرب وسكن طنجة الاشتغال بمعجم بيدرو، وكتب كلماته بالحروف اللاتينية، وأضاف إليه وسماه: سراج في اللغة المعجمية المنقولة من اللغة الإسبانيولية إلى العربية، وقد طبع هذا المعجم بمدريد سنة 1805.( بحث بنشريفة ص 144). وبعد هذه المرحلة جاء رهبان آخرون دونوا ألفاظ العامية ومنهم: الراهب ليرشوندي الذي أكمل سنة 1892 معجمه الإسباني العربي وعنوانهvecabulario espanol arabico وقد ذكر د. بنشريفة أن هذا القاموس طبع عدة مرات وكان مرجعا للإسبان العاملين في مصالح الحامية بشمال المغرب، وكذلك لدى البعثة الكاثوليكية الإسبانية بطنجة. ( بحث بنشريفة ص 145) ومن المهتمين بعاميات الأندلس ألونصو دال كاستيليو وقد عرف به الباحث حسين بوزينب وقدم بحثا عنه إلى أكاديمية المملكة المغربية التي نشرته ضمن أعمال ندوة أمثال العامية بالمغرب 2001. وقد ولد ألونصو بين سنتي 1520 و1530 ومات قبل طرد المورسكيين من إسبانيا. وقد اشتغل بالترجمة وترجم على الخصوص كثيرا من النقوش التي وجدت على جدران قصر الحمراء، وترجم المكاتبات بين أحمد منصور السعدي والملك فيليب الثاني، ومن اثر اشتغاله بالعاميات الأندلسية أنه جمع مجموعة من الأمثال العامية الأندلسية. ( مقال حسين بوزينب ص 371 منشورات أكاديمية المغربية 2001) الاهتمام بالعامية في المغرب العربي إن سمة الدعوة إلى العامية أنها مشروع ثقافي هو جناح من مشروع استعماري أشمل، فكان لزاما أن يكون لكل بلد عربي وإسلامي حظ من هذه الدعوة. لقد دخل الاستعمار الفرنسي الجزائر فوجد بها شعبا يتحدث بالعربية، فكان أن فرض تعليم لغته، ولم يبق للعربية إلا حصة ساعتين في كل أسبوع. ولما كان الاستعمار مضطرا إلى مخاطبة الجزائريين وإلى إيصال تعليماته وإلى بث ثقافة الاستسلام والاستكانة، فقد أحدث سنة 1847 جريدة سماها المبشر، وقد ظلت إلى سنة 1927 تعمل على إفساد السليقة العربية وإلى نشر لغة هجينة ركيكة التراكيب، من مثل قولها في عددها الأول: ( اعلموا يا مسلمين أرشدكم الله العظيم، سلطان إفرنصة نصره الله، اتفق له برأيه وقوع هذا المبشر مختص لفائدتكم يرض لكم ما يرضا لنفسه). ( لغتنا والحياة ص 173). والواضح أن لغة هذا النص لا صلة لها بالأسلوب العربي، لأنها ليست إلا عامية سقيمة، ومع تطاول الزمن واشتداد الاستعمار الفرنسي في فرنسة الجزائر تواكبت المقاومة العسكرية مع المقاومة اللغوية حماية للهوية، فكان من أكثر الأناشيد التي يرددها الناس قول ابن باديس: شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب وبعد جهود تدميرية كثيرة ومع قرب توقيع استقلال الجزائر 1962 عمد بعض الاستعماريين إلى إضرام النار في مكتبة الجزائر بالعاصمة فالتهمت كتبها وطمست مياه الإطفاء الكتابة المتبقية. فدل هذا الحقد الإجرامي على ثقافة الأمة. الدعوة إلى العامية في المغرب. سبق الحديث عن السياسة اللغوية التي اعتمدتها فرنسا في الجزائر، وقد تمثلت في التقليص من عدد ساعات دراسات اللغة العربية إلى حدود ساعتين أسبوعيا في مقابل التمكين للفرنسية في التعليم وفي دواليب الإدارة، مع الاستعانة في التخاطب. وبالنسبة للمغرب فإنه لما تمكن الاستعمار الفرنسي من إحكام قبضته ونفوذه عليه، فقد اعتمد سياسة لغوية وثقافية كانت ذراعا لمشروعه الاستعماري الكبير. وقد كانت رغبة الاستبدال اللغوي وفرض لغته ثابتا من ثوابت سياسته اللغوية، ولم تكن الإجراءات التعليمية والإدارية إلا وسائل إلى تحقيق هذه الغاية. وقد استند الاستعمار الفرنسي إلى تاريخ طويل من المقايضة اللغوية والثقافية بدأ مع حملة نابليون وتنامى وتعزز في سياساته في الجزائر على الخصوص. وقد أرست السلطات الفرنسية لتنفيذ مشروعها في المغرب خطة تقوم على دعامتين أساسيتين هما: تعطيل الموجود من مؤسسات التعليم وإنتاج المعرفة وهي التي حفظت اللغة وطورتها، ثم التمكين لمؤسسات يستند إليها المشروع الفرنسي في تحقيق غاياته. وقد عهدت السلطات الفرنسية إلى خبيرين من نخبتها المثقفة هما ألفريد بِل وغاستون لوث، وقد كان لكل منهما أسلوبه الخاص في القضاء على مؤسسات التعليم، وعلى القرويين وابن يوسف تحديدا، وقد كان من رأي ألفريد بِل أن يتم القضاء على مؤسسة القرويين بتركها تموت موتا بطيئا، بينما كان غاستون لوث يرى تطبيق النموذج الذي طبق بالمدارس الجزائرية، فيتم الاقتصار على تدريس العربية في الإعدادية الإسلامية. وبالإمكان الوقوف على تفاصيل السياسة الفرنسية إزاء مؤسسات التعليم الأصيلة فيما كتب عن تاريخ القرويين، وما كتبه المستشرق إكلمان في كتابه المعرفة والسلطة الذي تناول فيه على الخصوص سياسة فرنسا نحو كلية ابن يوسف بمراكش. ومن قبيل ما توجهت به السلطات الفرنسية لإنهاء التعليم العربي، أنها أجهضت مشروعا قويا للإصلاح أصدر بشأنه المولى يوسف ظهيرا سنة 1914 وشكل له لجنة برآسة محمد بن الحسن الحجوي وعضوية عدد من العلماء، ولما أنهت اللجنة مشروعها الذي تكون من 16 فصلا و 102 من المواد، تدخل ليوطي لينهيه بدعوى عدم توفر المواد المالية الكافية لتمويله. ( الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي؛ والمغرب في عهد السلطان مولاي يوسف زين العابدين العلمي ج 2 ص 38) ومن أجل تجفيف المنابع فقد أنهت السلطات الفرنسية وجود الكثير من المدارس التي كانت موجودة بكل مدن المغرب، وقد حولت بعضها إلى إسطبلات كما وقع مع إحدى مدارس سلا التي حولت إلى فندق كان يعرف بفندق أسكور ثم تحول إلى إسطبل، وقد استعرض محمد المكي الناصري أسماء الكثير من هذه المدارس ومواقعها. ( الأحباس الإسلامية للملكة المغربية الشيخ محمد مكي الناصري ص 63) وبالموازاة مع مشروع إنهاء وجود مؤسسات التعليم العربي، فقد أنشأت فرنسا في بلادها معهدا للغات الشرقية الحية ثم أنشأت سنة 1915 معهد الأبحاث العليا المغربية، وهي السنة التي شهدت إجهاض مشروع إصلاح القرويين، وقد نشر هذا المعهد من سنة 1915 إلى نهايته سنة 1959 عددا كبيرا جدا من نصوص اللهجات العامية، واستمر مشروع دعم العامية وخدمتها على ما كان عليه إلى أن كلف الاستعمار جورج كولان الذي كان مرجعا ومستشارا في نشر العامية بالمغرب بإتمام المهمة في صيغة جديدة. وقد بدأ الأسلوب الجديد في الدعوة إلى العامية في التدريس وفي الكتابة بما كتبه المستشرق الفرنسي جورج سيرابان كولان (18931977) حينما نشر في الأربعينات في العدد 550 من مجلة الصباح المصرية مقالا بعنوان بحث إصلاحي أعاد فيه ما قاله سلفه من قدماء دعاة العامية عن وجود ازدواج لغوي رأى كولان أنه لا يمكن تجاوزه إلا باعتماد إحدى طرق ثلاث، وهي: أن يتولى الشباب المتعلم تيسير الفصحى وتقريبها للناس، وهذه عملية تبدو مستحيلة، أو تعمم الدارجة التي يفهمها الجميع أو يتم الاستغناء عنهما معا لتعتمد الفرنسية بدلا منهما. وفور نشر كولان لمقالته تصدى لها العلامة عبد الله كنون في العدد الموالي من مجلة الصباح نفسها وهو العدد 551، وقد أعاد كنون نشر نصه في كتابه التعاشيب. (التعاشيب ص 96 ط 2). لقد أكد كنون أن الازدواجية اللغوية ليست ظاهرة خاصة بمستعملي العربية، كما أنها ليست طارئة أيضا، ففي جميع البيئات توجد لغات معيارية فصيحة تنشأ إلى جانبها لغات تستمد منها وتنمو على هامشها متخففة من كثير من ضوابطها المعيارية الصارمة، وقد تمتح من أي لغة أخرى، تجد فيها كلمات صالحة لأن تعبر بها فتضمها إلى متنها العامي، و بهذا تكون الفصحى بما فيها من دقة في التعبير ودقة في دلالات الألفاظ هي لغة العلم والمعرفة والآداب، وتكون العامية لغة الناس في الأسواق، وفي المنتديات التي يتساهل الناس فيها في التعابير. وبعد جولة عبد الله كنون ورده على كولان، برزت طفرة أخرى تحدث عنها عبد الله العروي في كتابه من “ديوان السياسة”. وقد ذكر أنه علم من طريق هنري لاوست أن إدارة الحماية الفرنسية كانت تنوي أن تجعل الدارجة لغة رسمية بالمغرب، واستدعت لذلك الغرض عددا من المختصين في اللسانيات ومن دارسي اللهجات، فأجمعوا على أن المشروع فاشل. ( من ديوان السياسة عبد الله العروي ص 56) وذكر العروي أنه بعد الاستقلال حاول بعض المتفرنسين إحياء فكرة تعميم الدارجة، لكنهم كانوا لا يطبقون ما يقولون، فاستمرت العربية في أداء وظيفة ما هو فكري فحصي تأملي رمزي ، سواء كان أدبا أو فلسفة أو علما أو تقنية. ( من ديوان السياسة ص 53) وفي مرحلتنا هذه عادت الدعوة إلى العامية إلى أداء دور التجلي بعد الخفاء والبروز بعد الكُمون وإلى لملمة بعض من يسهل جمعهم على أي مشروع يمكن أن يوفر لهم فرصة للبروز الاجتماعي ولتداول أسمائهم في المنابر الإعلامية، ولو عن طريق توجيه النقد إليهم لأن ذلك يكفي في الإشارة إلى وجودهم. إن سمة الدعوة في صيغتها المغربية الجديدة أن من تبناها حاليا ليس على المستوى المعرفي الذي كان للمستشرقين الذين دعوا إليها، ولعل الاستهانة بالقضية وسوء تقدير ما تمثله بالنسبة للضمير الجمعي هو الذي سوغ إسنادها هذه المرة إلى من لا صلة له معرفيا بالموضوع. الدعوة إلى العامية قراءة في الدلالات والغايات إذا نحن حاولنا أن نفصل الدعوة على العامية حاليا عن مسارها التاريخي، واستبعدنا كل تأثير خارجي عليها فلم نر فيها إلا أنها بوح عادي بأفكار عرضت لأصحابها، فإن ذلك مما يحتم التركيز على حقيقة الدعوة مباشرة ومناقشتها مناقشة علمية محايدة. فنقول: – إن الدعوة إلى اعتماد العامية بدلا عن الفصحى وإحلالها محلها، تتأسس على خطأ معرفي كبير هو توهم تكافؤ العامية مع الفصحى، واستوائها معها في الإفصاح عن كل المعاني من غير إخلال بشيء منها ولا تضحية بأكثرها، والحقيقة هي أن نسبة العامية إلى الفصحى هي نسبة اللهجة المحلية المحدودة في مكان التداول وفي الأغراض المعبر عنها إلى لغة واسعة في مادتها دقيقة في معانيها، تقيم الفروق بين الكلمات، ولا تسمح باستعمال كلمة بدلا عن غيرها غالبا، وبذلك كانت قادرة على استيعاب النص القرآني الذي يتميز بكونه رسالة عالمية تؤدي معاني محددة إلى كل الناس. إن مما لا شك فيه أنه لا تصح المقارنة بين الفصحى والعاميات الكثيرة المستلة منها أساسا، لأن أي لغة لم تخدم ولم يشتغل عليها بمثل ما حظيت به العربية، ولم تجمع مادتها مثلما جمعت مادة الفصحى. وقد أحصى محمد الشرقاوي إقبال في كتابه معجم المعاجم 1500 من معاجم العربية. ولم يكتب عن نحو أي لغة وعن تركيبها مثل ما كتبه النحاة عن ضبط تراكيب العربية ابتداء مما كتبه سيبويه، فتقصى به التراكيب الصحيحة وضبط حروف العربية وتتبع أوزان الأسماء فيها، وتعقبه أبو بكر الزبيدي بكتابه الاستدراك على سيبويه في كتاب الأبنية والزيادات، وهو كتاب نشره المستشرق أغناطيوس كويدي عام 1890 واشتغل الناس بكتاب سيبويه واختص بعضهم في شرح شواهده الشعرية فقط، فكانت حصيلة أعمالهم ثمانية عشر شرحا. ونشأت عن دراسات النحو العربي مدارس واسعة منها المدرسة البصرية ومن روادها سيبويه، ومدرسة الكوفة، ومن روادها الكسائي، ثم المدرسة البغدادية ومن روادها أبو علي الفارسي وابن جني، والمدرسة المغربية ومن روادها أبو الحسين بن الطراوة، وابن مضاء القرطبي، ومحمد بن طلحة، وأبو موسى الجزولي، وأبو علي الشلوبين. وتقصى اللغويون مصادر العربية فاستبعدوا ما ليس منها، فقالوا مثلا: لا يوجد في كل العربية اسم على فِعُل بكسر الفاء وضم العين، وما جاء من مثل حِبُك فإنما هو من تداخل اللغات، وليس وزنا في العربية.( المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءة لابن جني ج 2ص 387) وألف بن خالويه كتابا ضخما هو كتاب “ليس من كلام العرب” فتحدث عن الصيغ والأوزان التي لا تصح في العربية، وذكر مثلا أنه لا وجود لكلمة كل حروفها من جنس واحد إلا كلمة بَبَّة . ( كتاب ليس ابن خالويه ص 26). وتتبع الصرفيون أفعال العربية ووضعوا فيها معاجم خاصة بالأفعال من أبرزها كتاب الأفعال لابن القوطية ثم كتاب الأفعال لابن القطاع السعدي، وقد هذب كتاب ابن القوطية، ومنها كتاب الأفعال لأبي عثمان السرقسطي. ويضاف إلى هذا كله نشوء علم خاص هو علم الصرف الذي اعتنى بأوزان الأفعال والأسماء وما هو مقيس منها وما هو شاذ، وكانت لامية ابن مالك مادة تعليمية أساسية في بابها. وألف اللغويون والأصوليون وعلماء القرآن كتبا خاصة بحثوا فيها حروف المعاني وهي أخص من حروف المباني، وهي كتب عديدة منها كتاب الحروف للقزاز القيرواني وكتاب الأزهية في الحروف للهروي، وكتاب منازل الحروف للرماني وكتاب رصف المباني في حروف المعاني لأحمد بن عبد النور المالقي وكتاب مغني اللبيب لابن هشام وكتاب الجنى الداني في حروف المعاني لابن أم قاسم المرادي. وقد أوسع الأصوليون والمفسرون أحرف المباني بحثا لما يترتب عنها من أحكام تكليفية. ومن غير هذا وذاك كتب البلاغيون الكثير عن الأسلوب العربي وعن أسرار الجمال والفصاحة فيه. وإذا كان أمر العربية على هذا النحو من الشساعة والدقة والضبط، فإن توهم إمكان تفريغ معانيها ودلالات ألفاظها في لهجة عامية يكون أشبه بمحاولة تفريغ بحر محيط في كأس صغيرة، إن لم نقل إنه محاولة قاصدة وغير معلنة للتضحية بكل المعاني والمضامين الدينية والحضارية التي تحملها الكلمة العربية مثلما تحمل البصمة الوراثية كل خصائص صاحبها. – إن من الحقائق التي تغيب عمن لم يتمرس بالعربية ولم يعرف أسرارها هو أن الكلمة ذات دلالة دقيقة محددة، وإذا تحدث الناس عما يسمونه المترادفات، فإن ذلك غالبا ما يعبر عن جهل بالفروق بين كلمة وأخرى، فكلمة قعد وجلس مثلا لا تستويان عند بعض اللغويين، فالجلوس يكون عن تمدد على الأرض، بينما يكون القعود بعد الوقوف وهكذا.( تاج العروس للزبيدي مادة ق ع د. 5 / 194 ط. دار الفكر 1994 ) ( ومادة ج ل س 8/227). – إن من سمات النص القرآني الذي يرى دعاة العامية أن بإمكانها أن تتحمله أنه نص تحتل فيه الكلمة مكانها، ولا يمكن أن تزحزح أو يستبدل بها غيرها من العربية نفسها، وأذكر أن الأستاذة د. عائشة عبد الرحمن كانت تلقي علينا دروسها في البيان القرآني، وكانت كثيرا ما تسأل عن الكلمات التي يمكن أن تعوض ألفاظا في مثل قول الله تعالى:” ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر” [ التكاثر 01] وكانت تسأل عن فعل يؤدي معنى ألهاكم، فيقول الطلبة شغلكم، فكانت تجيب إذا صح أن تكون ألهى بمعنى شغل؟ فإنه يصح أن يغير اسم وزارة الشغل إلى وزارة اللهو مثلا، وكانت تسأل عن فعل يعوض فعل زرتم المقابر، فيقال لها سكنتم، فتجيب: إذن يصح أن يقول شخص عمن زاره إنه سكن عنده؟ والأمثلة من هذا كثيرة وهي تعم القرآن كله. وعلى هذا فإنه يجب الخلوص إلى أن النص القرآني يستحيل نقله إلى العامية أو إلى لغة أخرى غيرها أيضا، والذين ينقلون الكلمة القرآنية إلى لغة أخرى إنما ينقلون ما فهموه هم منها، وكثيرا ما تكون دلالات الكلمة القرآنية كثيرة ومتعددة كما في قوله تعالى :”ولا يضار كاتب ولا شهيد” [ البقرة 281 ] وفعل يضار يحتمل أن يضر الكاتب بالغير، كما يحتمل أن يلحق الضرر به، وكما في قوله تعالى: “أنا آتيك به”.[ النمل 40 ] وهي تحتمل أن تكون فعل مضارع أو اسم فاعل من أتى. وبهذا لا يكون اختيار أحد معاني الكلمة دون غيره إلا تحكما وإلغاء لما سواها من معاني كثيرة. – من خصوصيات العربية الفصيحة التي تميزها عن غيرها من اللغات التي قيست عليها في توقع انتهائها وسحبها من التداول، أن للفصحى صلة عضوية بالهوية وبالإسلام، لأن العربية هي التي قدمت الإسلام إلى الناس، وتحملت كلماتها وحيه، وامتزجت به لما كانت هي معجزة الإسلام الأولى والكبرى فكان إعجاز القرآن الأول هو لغته وبيانه. وبعد التقاء العربية بالإسلام، وتحملها لنصه المعجز، فإنه أغناها بما أغدق عليها من المضامين والدلالات التي لم يكن لها به عهد، ثم نشأت عن دراسة القرآن والسنة بعد ذلك علوم كثيرة منحت العربية دلالات جديدة، وأصبح لكثير من الكلمات العربية دلالات ثلاثية، دلالة لغوية أصلية، ثم دلالة شرعية دينية، ودلالة اصطلاحية معرفية. وبهذه المستويات لا زالت الكلمة العربية تفحص وتدرس. وتأسيسا على هذه المعطيات، فإن الدعوة إلى التحول من الفصحى إلى العامية تبدو غير وجيهة ولا ممكنة معرفيا، إلا إذا كان إهدار كل المضامين غير اللغوية العادية التي تتضمنها الكلمة العربية هو المراد بهذه الدعوة. وإلا فبالإمكان طرح أسئلة عن وجود ألفاظ عامية بإمكانها أن تؤدي مضامين كلمات فصيحة تنتمي إلى حقول معرفية عديدة مثل كلمات الإرسال والإعضال والتخريج والتدبيج والإعلال من مصطلحات علوم الحديث. كما يمكن التساؤل عن ألفاظ عامية بإمكانها أن تنوب مناب كلمات من مثل الذمة والأهلية والسبر والتقسيم وتنقيح المناط وغيرها من كلمات المعجم الأصولي. كما يمكن التساؤل أيضا عن مقابلات لكلمات من مثل الطاهر والطهور والأوقاص والمزابنة والعِينة والحجب والمناسخة والعول والرد من ألفاظ الفقه الإسلامي. إن الأكيد هو أن هذه الكلمات مشحونة بدلالاتها الدقيقة التي لا مقابل لها في أي لغة من اللغات العالمية فضلا عن العامية، فلذلك لا تكون الاستعاضة عن الفصحى إلا تضحية بجميع تلك المضامين. حينما يدعو الداعي إلى اعتماد العامية في التدريس وفي التعلم رغم ما هي عليه من قصور وعجز وعدم دقة، فإن هذه الدعوة توهم للوهلة الأولى بأن هناك فعلا عامية مشتركة يمكن الرجوع إليها جماعيا لتكون لغة وطنية جامعة. لكن الواقع بالنسبة للحالة المغربية هو أن هناك عاميات تتقارب وتتباعد وتتسامح فيها الألفاظ بالدرجة التي تغيب معها دقة الأداء ويتعذر معها الوفاء بكل المعاني والمضامين. وإن من المماحكة أن ينكر أحدهم مقدار الاختلاف بين عاميات كالعامية الحسانية في جنوب المغرب إن هي قورنت بعامية الشمال، أو بعامية ساكنة النجود الشرقية، وكثيرا ما لا يقع التفاهم إلا بشيء غير قليل من الحدس والتقدير ومن العودة إلى سياقات الجمل. فإذا كان الأمر كذلك، فإن الدعوة إلى لهجات تصطبغ كل منها بالمحلية والمحدودية في مجال التداول، وبقابلية إضاعة المعنى لا يمكن أن تساعد على أن تكون العامية لغة علمية ووطنية موحدة. لقد مر بعض الباحثين المهتمين بالعاميات من التنظير إلى التفعيل فأنجزوا فعلا معاجم للعاميات، وكانت عناوين تلك المعاجم مشيرة إلى محدودية المجالات المكانية للتداول، ومع ذلك لم يستطع أي معجم منها أن يكون مستوعبا للعامية التي تخصص فيها، وكان الناظر فيها يتبين أن العامية المرصودة ليست لهجة لكثير ممن ليسوا من أهلها. ويمكن أن نأخذ من هذه المعاجم نماذج منها معجم الألفاظ العامية ذات الأصول العربية لعبد المنعم عبد العال، وهو يقوم على أساس الإيهام بوجود عامية واحدة ركز عليها في درسه والأمر ليس كذلك، ومنها معجم كولان الذي دعاه مؤلفه معجم العامية المغربية، وإن كان هو أيضا لم يستوعب كل عاميات المغرب، ومنها معجم لهجة شمال المغرب تطوان وما حولها لعبد المنعم عبد العال. ومن خلال دراسة هذه المعاجم الثلاثة، يتكشف أنها لا تستوعب ألفاظ أي عامية فضلا عن أن تحيط بالعاميات كلها، وقد تورد كلمات وأساليب لا تستعمل في أقرب الجهات المجاورة لأماكن تداولها، ومن أمثلة هذا جملة ساقها معجم لهجة شمال المغرب ونصها: قال شحال من ساع؟ قال ل تسعود، قال ل تسعود و يا ش؟ قال ل تسعود ساكت ( معجم لهجة شما ل المغرب ص 151 ). ومعناها: قال له كم الساعة؟ قال التاسعة، قال له وأي شيء؟ قال التاسعة تماما. إن هذا الأسلوب يوشك أن يكون خاصا بمنطقة معينة ولا يتداول في غيرها وإن كان بالإمكان فهمه داخل المغرب من خلال تحكيم القرائن اللفظية المرافقة. وإذا عدنا إلى معجم كولان وهو يقع في سبعة مجلدات وقد أراد له صاحبه أن يكون شاملا يضم عاميات المغرب، فإننا نلاحظ أن منهج انتقاء العينات التي رجع إليها كولان كان قاصرا إذ لم يمثل كل جهات المغرب، لأن أكبر اعتماده كان على أشخاص محددين هم أحمد كوتا المراكشي، وأحمد بن داود الرباطي وأحمد الشرقي من طنجة والصديق الفاسي من فاس Le Dictionnaire COLIN d, Arabe Dialectal Marocain وهؤلاء المذكورون بأسمائهم في مقدمة المعجم لا يمثلون المغرب في شساعته وفي تعدد لهجاته، لذلك فقد خلا معجم كولان من الكثير من الألفاظ العامية الرائجة في مناطق أخرى وضم كلمات لا تكاد تعرف في مناطق أخرى من مثل كلمة أعيوع وهو نشيد نسائي جبلي تعرفه بعض مناطق المغرب. ( معجم كولان 1/18 ) إن الميزة الأساس لأي لغة هي قدرتها على التمكين من التواصل بكل دقة، وأداؤها المعنى إلى أكبر عدد من الناس، وهذا هو ما يجعل اللغة عالمية، لكن اللهجات المحلية تظل موسومة بمحدودية مجالات تداولها، يستعملها الناس في علاقاتهم البينية الحميمية بغض النظر عن فهم الآخرين أو عدم فهمهم لها. وإذا اعتمدت اللهجة المحلية على ما هي عليه من محدودية، فإن الأثر المباشر لذلك هو أن يصير المتعلم بها سجين محيط تتداول فيه تلك اللهجة، ولو دعي المتعلم بها إلى أن يغادر بيئته إلى بلاد أخرى في الشرق العربي مثلا، لكان شبه عاجزا عن المتابعة وعن التواصل مع لهجات أخرى، وستطول معاناته مع دلالات الكلمات. وباعتماد العاميات على مستوى الوطن العربي والبلاد التي تستعمل العربية، فإن تلك البلاد ستعيش حالة من التجزئة الثقافية تضاف إلى حالة التجزئة السياسية الواقعة فعلا. – وعلى نحو ما ينقطع المتعلم بالعامية عن غيره في المكان، فإنه ينقطع بكيفية أفظع في الزمان، ويتعذر عليه أن يقرأ شيئا مما دُون بعربية فصيحة، فيمتنع عليه أن يقرأ القرآن والحديث وهما مصدرا الاستقاء والاستمداد، وينقطع عن تراث أمته فلا يقرأ منه فكرها أو أدبها أو قيمها، فيفقد بهذا معنى الانتماء إليها، وينحجر في شرنقة لهجته التي عزلته عن محيطه الثقافي والحضاري القديم والحديث. لهذه الاعتبارات التي أسلفت فإن الدعوة إلى العامية لا يمكن أن تكون دعوة بريئة ولا نتيجة بحث نزيه غير مغرض، وإنما هي محاولة لاقتلاع الإنسان المسلم من ثقافة أمته وعزله ثقافيا وشعوريا ليسهل تشكيله وإلحاقه بأي نموذج ثقافي آخر. على أنه لا يجوز استخلاص أن الاهتمام بالعامية في صورة موازية للاعتناء بالفصحى أمر غير حميد، فذلك ما لا يقال به، لأن كثيرا ممن اهتموا بالعامية علميا كانوا من رجال الفصحى المجيدين في الكتابة بها والدفاع عنها، فقد كتب عبد الله كنون بحثا بعنوان “عاميتنا والمعجمية” سرد فيه طائفة من ألفاظ العامية المغربية، وقدمه إلى مجمع اللغة العربية، واشتغل عبد العزيز الأهواني بأمثال عوام الأندلس ونشر عنها مقالا ضمن تكريمية عميد الأدب العربي، ودرس عبد الحميد يونس الأدب الشعبي، وقد أصغيت إليه بفاس ولم يكن في خطابه ما يصرف عن الفصحى، وأنجز د. محمد بنشريفة أطروحته عن أمثال العوام في الأندلس، فكان بحثا مرجعيا، وأنجز د.عباس الجراري أطروحته في الشعر الملحون المغربي، ومن اليسير ملاحظة أن العامية كونت رصيدها المعرفي مما استقته من آداب العربية وعلومها، وفي شعر الملحون قصائد جياد، تحدثت عن أسماء الله الحسنى ونظمت السيرة النبوية، وعرفت بأخلاق الإسلام وقيمه، وكان منها قصائد مفعمة بأدب الحكمة والتوجيه. وبهذا النوع من الاهتمام يتبين الفرق بين توظيف العامية لنقل القيم إلى أفراد الأمة، وبين استدعائها لأن تكون معولا تهدم به الفصحى فتقطع الطرق المؤدية إلى مصادر الهداية والرشاد.