كَثُرت منشوراته بشكل واضح على الفيسبوك في الخامس من دجنبر، وكانت كلماته مغلّفة بألم عميق وحسرة واضحة، بعض أصدقائه اعتقدوا أن الأمر يتعلق بحالة نفسية سيئة وعابرة، كتلك التي يجتازها كل البشر في صراعهم مع متاعب الحياة، إلا أن خيبة ذلك اليوم، كانت بمثابة الاستعداد الأخير للوداع الأخير لطالب نجيب عانى كثيرا من صعوبات مادية وفق شهادات لزملائه. رحل مراد البناي الحراق يوم الجمعة الماضي، وهذا بعدما سقط جسده من سطح عمارة بمرتيل، ليكون "الانتحار" الثاني في صفوف طلبة البلد في أقل من شهر، بعد فاجعة انتحار طالبة بالرباط.. إلاّ أن الحسم الرسمي بكون الواقعة انتحارا لم تتأكد بعد رسميا، حسب شهادة عائلته، غير أن ما كتبه على الفيسبوك، ساعات قليلة قبل مفارقته الحياة، يوثق لأزمة نفسية حادة. "ها أنا ذا أموت.. أردت أن أقول للرفاق إن الغزلان تموت عند أهلها بينما الصقور لا يهمها أين تموت.. لقد مات الإنسان.. العالم كله يريد قتلي، آسف، ليس العالم.. يبقى المتفرجون الذين ستعجبهم حكايتي" ذلك جانب مما كتبه الراحل يوم قبل يوم من الواقعة، بتصورات أدبية غاية في القتامة، بعضها يستنجد بما خطه ذات يوم الروائي التشيكي "كافكا" في مؤلفه "المسخ".. بل إن الراحل غيّر صورة "بروفايله" ووضع مكانها صورة لبطل الرواية الذي تمثّله "كافكا" على هيئة فراشة هائلة الحجم بوجه بشري. حسب ما جمعناه من سيرة الفقيد ابن مدينة القصر الكبير عام 1990، فقد كان متفوقا في دراسته، حصل على البكالوريا بميزة حسن، وعلى شهادة التقني العالم بالأقسام التحضيرية في شعبة المعلوميات بميزة حسن كذلك، وبعد ذلك التحق بالمدرسة العليا للأساتذة جامعة عبد المالك السعدي حيث نال شهادة الإجازة المهنية في تنمية الويب بميزة مستحسن، وتمكّن من الولوج إلى سلك الماستر داخل نفس المؤسسة، تخصص الهندسة البيداغوجية المتعددة الوسائط، حيث كان يدرس في السنة الثانية قبيل وفاته. ولم يكن وقت الفقيد مخصصاً بالكامل في الدراسة التقنية، فقد كان قارئاً نهماً للأدب. ويتذكر بعض من حاورناهم تعلقه الشديد بالكتب، زيادة على نضاله داخل صفوف الطلبة القاعديين التقدميين، ونشاطه داخل حركة 20 فبراير. هل كانت لمراد مشاكل مادية؟ يؤكد أحد أصدقاءه هذا المعطى، مشيراً إلى أنه عانى كثيراً طوال سنواته الجامعية، غير أنه كان يجد دائماً مكاناً للسكن، ففي سنتيه الأولتين من التعليم الجامعي، كان يسكن بداخلية المدرسة العليا للأساتذة، وفي السنة الثالثة اكترى شقة مع بعض زملائه، أما خلال سنتي الدراسة بسلك الماستر، فقد كان الراحل يسكن في منزل رفقة أخويه، كما يفيد شقيقه يوسف، معتبراً أنه كان يحاول الالتحاق هذه السنة بالحي الجامعي، إلا أن بعض المشاكل الإدارية منعته من ذلك. لكن هناك رواية أخرى لموت الراحل تبتعد عن الانتحار وتشير إلى سبب آخر للوفاة، بالنظر إلى أنه وجود كلمة "القتل" في كتابته الأخيرة، حيث يتهم "جهات معينة" بالتخطيط لقتله، قارنا بينها وبين "الدولة" و"إسرائيل" و"فرنسا".. والشك في مسألة الانتحار قد يظهر للبعض في حديث صديقه علي الذي اعتبر أن معرفته بالراحل تجعله لا يصدّق مجرّد الحديث عن تفكيره بالإقدامه على الانتحار، معتبراً أن هناك لغزا ما في هذه القضية، خاصة وأنه كان دائم الحديث عن ظلم ما في حق أسرته. يوسف، أخ الراحل، فنّد كل ما يروج من أحاديث عن انتهاكات بحق الأسرة، مؤكدا كذلك أن الأب يشتغل كاتبا عموميا، ولا زال يعيل الأسرة، خلافاً لما جاء في منشور وضعه الراحل على صفحته بالفيسبوك، قال فيه إن والده هَجَر الأم وهو لا زال طفلا صغيرا. ويضيف يوسف أن النشاط النضالي لمراد كان يجعله في مواجهة واضحة مع إدارة المدرسة ومع السلطات الأمنية، خاصة وأن بعض زملائه قد تم اعتقالهم في فترة من الفترات نتيجة مشاركتهم في بعض الاحتجاجات، لذلك كان الفقيد يتلقى أحيانا بعض التهديدات بالتركيز على الدراسة والابتعاد عن النشاط القاعدي وفق حديث يوسف، مشدداً كذلك على أن تقرير التشريح الطبي لم يخرج، وأن الشرطة لم تبحث بما فيه الكفاية عن سبب الوفاة، حيث سلموهم الجثة في وقت قياسي. كما واجه الفقيد بعض المشاكل في الحصول على المنحة، أهمها عدم تمكنه من الحصول على شهادة التسجيل بالمدرسة، بعدما طالبه المدير باعتذار مكتوب على إثر نقاش حاد بين الطرفين، حسب حديث "محمد" أحد أقرب أصدقاءه، الذي ذكر كذلك أن مراد ترك بعض الأوراق عند صديق له، وطلب منه نشرها في حالة وفاته، وهي الأوراق التي توجد بها تتمة القصص والخواطر المتشائمة التي كان يخطّها على الفايسبوك. ولحد اللحظة، لم يصدق عدد من أصدقاء يوسف أن يكون قد مات منتحراً، وكل ما يطالبون به، هو أن تظهر الحقيقة كاملة، حيث نظموا اليوم الاثنين وقفات احتجاجية من أجل جلاء الحقيقة كاملة ومن أجل تبيان الصورة كاملة دون تشويش. فهل هناك تفاصيل أخرى لم تظهر بعد؟ أم أن القصة كلها تتلخص في انتحار طالبٍ ضاق ذرعا بالحياة؟