تحكي إليف شافاق في روايتها "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب" قصة عاهرة من إسطنبول تُدعى تيكيلا ليلى. يصف العنوان والنصف الأول من الرواية آخر لحظات من وعي ليلى وهي تنتقل ما بين الحياة والموت. في بداية الرواية، يتوقف قلب المرأة عن النبض؛ لكن دماغها مستمر في التذكر. يعتقد الناس أن المرء أصبح جثة في اللحظة ذاتها التي لفظ فيها آخر أنفاسه.. لكن الأمور لم تكن واضحة. مثلما كان هناك عدد لا يحصى من الظلال بين الأسود القاتم والأبيض اللامع، كانت هناك مراحل متعددة لما يسمى "الراحة الأبدية". قررت ليلى أنه إذا كانت هناك حدود بين عالم الحياة وما وراءه، فيجب أن تكون قابلة للاحتراق مثل الحجر الرملي. يموت الإنسان؛ لكن ذاكرته تظل في الاشتغال لمدة عشر دقائق... حقيقة علمية وظفتها الكاتبة؛ لكن لا يمكن الجزم بها. مكب النفاية توصلت ليلى إلى هذا الاستنتاج وهي محشوة / مرمية في حاوية قمامة في ضواحي مدينة إسطنبول، حيث قُتلت للتو. من كانت تلك المرأة؟ من قتلها؟ من سيتذكرها عندما تذهب؟ ما هي عواقب تلك الوحشية؟ هذه هي الأسئلة التي تطرحها الرواية تاركة مساحة كبيرة للتأويل والتأمل عن مفاهيم الألم والفكاهة والحب وجدوى الإنسان... تضعنا الكاتبة في المقام الأول في صلب جغرافية مكان القصة بمساعدتنا في التعرف على خريطة إسطنبول، التي يتم فيها تحديد بعض الأماكن الرئيسية التي يعطيها السرد معنى جديدا: فندق إنتركونتيننتال، المقبرة المهجورة، جسر البوسفور. تحدد هذه الصورة نغمة الصفحات التالية. تصبح الخريطة تمثيلا مرئيا واضحا ليس فقط لإعدادات القصة ولكن أيضا لنية المؤلفة ومواقفها.. على الرغم من اتساع القصة التي تتحرك عبر الزمان والمكان والشخصيات ومستويات الوجود، فإن الرواية تظل متجذرة في الأحاسيس التي تصنع الحياة اليومية لشخصياتها ومحتوية على طموحات هائلة واهتمام دقيق بالتفاصيل.. مع سؤال كبير هل تستحق ليلى أن ترمى في مكب للنفايات؟ !!! الجزء الأول تضعنا المؤلفة في الجزء الأول من روايتها في دماغ ليلى. نبدأ في احتساب الزمن المتبقي لوفاتها، كما نقرأ كيف كانت حياتها. كل دقيقة تمر تتميز بذاكرة حسية جيدة: وزن الملح الذي غطت به القابلة جسد الرضيعة ليلى عند الولادة حيث فاحت رائحة الليمون والسكر والماء على موقد المنزل المحافظ في طفولتها، طعم القهوة مع المعطرات القوية والداكنة الذي شربته بطلة الرواية أثناء استراحاتها في بيت الدعارة حيث كانت تعمل. مع تضاؤل وعي ليلى تتسع ذكرياتها. لا يكتشف القارئ فقط اللحظات والأماكن اللذيذة التي شكلتها؛ بل يكتشف أيضا الأشخاص الذين قابلتهم ليلى في تلك الأماكن: والداها وشقيقها وسيدتها وعشيقها. كما تلقي نظرة على قصص خمسة من أصدقائها المقربين لقلبها. مثل تيكيلا ليلى، أصبح الخمسة منبوذين في المجتمع التركي: نالان امرأة متحولة جنسيا، وحميرة شابة هاربة.. وجميلة تم تهريبها إلى إسطنبول من الصومال، وزينب تعاني من مشكل القزامة. سنان، الرجل الوحيد في المجموعة، يقضي أيامه كعامل مكتب متشدد؛ لكنه في الليل يعيش حياة سرية. يشكلون معا ما تسميه نالان "عائلة مائية" يمكن أن "تشغل مساحة أكبر من جميع أقاربك مجتمعين.. لكن أولئك الذين لم يختبروا شعور الرفض من قبل عائلتك لن يفهموا هذه الحقيقة خلال مليون سنة. لذا، قرر الخمسة أن يودعوا ليلى بطريقتهم الخاصة والتي لم يودعها أقاربها ولا السلطة بالطريقة ذاتها. الجزء الثاني إذا كان الجزء الأول من الرواية عبارة عن دراسة شخصية فإن الجزء الثاني عبارة عن جزء صغير. تنتقل القصة من الداخل إلى الخارج، ومن الفكر إلى الفعل، ومن تركيب الحياة إلى التقلبات والمنعطفات في يوم حافل. هدايا إليف شافاق ككاتبة وسرعتها الواثقة وصدقها العاطفي ووعيها السياسي تربط النصفين معا وتشكل من كلا الجزءين نصا ممتصا ومتحركا بانسياب كبير. تكتب المؤلفة بصبر وشجاعة ورحمة. رواية هي صورة مبهرة لمدينة ومجتمع ذكوري مشبع بالأحكام المسبقة وروح فردية تبحث في تمردها. صوت المحرومين والمنبوذين إن رواية شافاق جريئة وأصيلة بشكل لا يصدق تعيد إحياء العالم السفلي في إسطنبول، من خلال الذكريات الحية للعاهرة تيكيلا ليلى التي تقع جثتها في القمامة. عمل خيالي جريء يدفع القارئ إلى عوالم مذهلة لبطلة تقاوم بتصميم عنيد وخزات مجتمع لا تنقطع وتعيش على أنقاض تفاؤل حذر: شخصية لا تُنسى.. هذه الرواية الشجاعة والآسرة للغاية تشهد على قوة الصداقة وروح الإنسان. هذه الرواية ليست جيدة: إنها جيدة جدا وإليف شافاق كاتبة رائعة وروايتها مليئة بالاختراقات اللغوية والألعاب النارية اللفظية. وهي رواية مكثفة وحسية. رواية تعطي صوتا وهامشا كبيرا للمحرومين والمنبوذين والمهجورين وتحول أغنيتهم المؤلمة إلى جمال خالص. نقضي أكثر من عشر دقائق وثماني وثلاثين ثانية في هذا العالم الغريب، الذي أوجدت لنا فيه الكاتبة موطنا جديدا للكلمات وهي تقدم نقدا لاذعا لثقافة تدعي حماية شرف المرأة؛ ولكنها في الوقت نفسه ترفضها بحماس شديد. *كاتب مغربي