"إذن أنت تسافرين.. لوحدك؟" هكذا سألتني المرأة الجالسة بجواري بلكنة إنجليزية واضحة، ونحن داخل حجرة ممتلئة على متن قطار سريع، يمر عبر أراض زراعية شاسعة مغربية. كنا الوحيدات الغير منقبات، والمسافرون دون رفقة على متن العربة. السفر لوحدي، في البلدان المسلمة الواقعة بشمال أفريقيا، حيث الأماكن العامة يغلب عليها الحضور الذكوري، هو السؤال الذي كنت أتلقاه في كل مكان تقريبا، من صالة انتظار المسافرين في مطار العاصمة إلى مطبخ "رياض" وهي المنازل التقليدية بفناء شاسع مفتوح السقف بأعماق المدينة القديمة لفاس المحاطة بأسوارها العتيقة. الاغتصاب بالنظر ومع أخبار التحرش والاعتداءات الجنسية المنتشرة من مصر إلى الهند إلى البرازيل، كنت مدركة تماما كسائحة غربية شقراء، أنني لن أستطيع المرور دون أن ألفت الانتباه، وملاحظة العديد من الرجال المغاربة الذين لا يترددون في الحملقة والمراقبة. قال لي صحافي زميل إن شقيقاته اللواتي يعشن في الدارالبيضاء تعبن من "اغتصاب النظر"، كما يصفنه. خلال شهري يناير ويونيو الماضيين، قضيت أكثر من ثلاثة أسابيع أستكشف المغرب، من مدنه وعواصمه الإمبريالية إلى واحاته الصحراوية، لوحدي في معظم الأوقات، وأحيانا برفقة مجموعة من الطلاب من إحدى الجامعات الأمريكية حيث أقوم بمهنتي كمدرسة. كنا جميعنا نساء عدا رجلا واحدا. وعلى الرغم من لباسنا المحافظ المتواضع، كانت مجموعتنا توقف حركة المرور حرفيا. ولوحدي، تعلمت أن أقول بحزم "لا شكرا"/ "نو ثانك يو"، لكل دعوة أو عرض موجه لي، حتى استطعت أن أستمتع وأنا أتجول محاولة تذوق البلاد بعيون امرأة. طبعا، هذا يعني أني كنت أتجول، وأنا أحاول تجنب التحديق بالمارة لتفادي المواجهة، لكن أيضا محاولة التمعن في جمال هذه الأرض الفاتنة بثرواتها الثقافية القديمة، مع جذور لا تتغير من الأمية والفقر. التراث الروماني تقاسمت مع رفيقة رحلة القطار نقاشاتنا النسوية العالمية، حول كحل الأعين والزواج بفارس الأحلام، وذكرتي محدثتي بكلامها وحكاياتها، مصففة الشعر من الدارالبيضاء، بشجاعة نساء منقوشات على الفسيفساء الرومانية الرائعة ب"وليلي"، على بعد بضعة كيلومترات شمال قطارنا المتوجه من وسط المغرب إلى شماله. أطلال مدينة "وليلي" التي تعود إلى ما يقارب الألفي سنة، مع قوس النصر المحاط بصفوف من أعمدة كنيسة، على رأس كل منها عش من اللقالق، تلوح في الأفق في عزلة رائعة، ونقوش وفسيفساء خلابة. على تلك الفسيفساء تجد رسومات لآلهة وإلهات رومانية في جلسات أنس ومرح، بأثواب كاشفة لا تخفي الكثير، رسومات تعبر عن قيم أخلاقية تختلف جذريا عن قيم حاضر أناس المدينة وضواحيها في شمال البلاد. وبعد بضع ساعات بالسيارة، شمالا عبر جبال الريف، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط المغطى أغلبه بالحصى، على مرأى من إسبانيا، كنت الوحيدة التي تسبح بالبيكيني، بين نساء محجبات يرتدين سترات رياضية تغطي من الرأس إلى الكاحل. العواصم الكبرى فاس، المدينة العتيقة أشبه بخلية نحل عملاقة، بنوافذ كثيرة ومنازل مبنية بأسلوب تقليدي ومحلات مكتظة وأحواض مائية على شكل وعاء داخل كل بناية. لكن المعادلة انقلبت حين وضعت نفس البيكيني في زيارة إلى حمام من حمامات مدينة فاس. في ذلك الحمام المغربي، حيث تلك المدلكة التي تفوح منها رائحة العرق، تشتغل بلا مبالاة، بعد أن مرغتني في صابون أسود مصنوع من الزيتون، وأنا جالسة على لوح من الرخام، وضعت على يدها لفافة تخرج الخلايا ميتة عملاقة من الجلد، وأنا أسمع صوت نساء أخريات يثرثرن ويبتسمن في ودية، وفهمت وهن ينظر إلي حين قالت واحدة للأخرى: "انظرن إلى الأمريكية القذرة". في مدينة مراكش الخلابة، يمكنك أن تذهب للتسوق إن كنت من عشاق المساومة التي لا نهاية لها، فقط تتبع تدفق النساء المحليات بين متاهات السوق لتصل إلى بضائع من كل نوع، من الحلويات إلى منتوجات الجلد، إلى الحرف اليدوية المعدنية. وإن كنت مثلي تكره التسوق، استمتع بالألوان والروائح وتجول بين المدارس الدينية والإسلامية العتيقة، حيث تجد في مدرسة "بن يوسف" غرف نوم صغيرة في فناء مشمس، في كل شبر منه مناظر من المنحوتات الخشبية المعقدة، ونقوش جبص وفسيفساء هندسية. . معظم السياح في مراكش يركزون على الأسواق حول ساحة "جماع الفنا"، ساحة المدينة المركزية التي تعج بأكشاك الطعام حتى الفجر. لكنهم يهملون جمالية آثار مهجورة عظيمة من القرن 16، مثل قصر البديع المبني بالحجر الرملي الوردي، وقبور السعديين، وهو مجمع للدفن مكسو بقراميد ملونة. الشيء نفسه ينطبق على العاصمة السابقة الأخرى، مكناس، المتواجدة على بعد أقل من 80 كيلومترا من مدينة فاس، حيث تركت المدينة القديمة وراء وذهبت أتجول لوحدي بين الأثار العملاقة.. الصوامع التي شيدت في القرن 17، والمزارع والإسطبلات. نساء من المدينة في مدينة الرباط، قضيت أمسية كاملة وأنا أراقب نساء من كل الأعمار، يدخلن بحجابهن من الشارع إلى المطبخ، ويزلن الحجاب ويتركن شعورهن على طبيعتها لطهي الكسكس، وعجن الخبز وحلويات اللوز، بينما يشاهدن التلفاز الذي يصدح بجلسات مجلس النواب. وفي مقهى مزدحم بأحد أحياء المدينة، جلست مع طالبات مغربيات تشاركت معهن عصائر وأكواب كاكاو وحلويات.. أخبرتني إحداهن أنها في طور إنجاز فيلم وثائقي عن التحرش الجنسي، وأخبرتني الأخرى أنها تستعد للسفر لوحدها للدراسة في الصين.