الحزب الإسلامي ينقلب على نفسه ويسلم الحكومة إلى"ورثة" مجموعة الثمانية الواضح اليوم، بعد أزيد من واحد وعشرين شهرا على انطلاق عمل حكومة "عبد الإله بنكيران"، أن حزب العدالة والتنمية ظاهرة حزبية باتت تقبل بالتعايش السياسي الحزبي والمفاوضات والتنازلات ،والتفسير الممكن لهذه الظاهرة مرتبط بالإحساس بالتكلفة السياسية الثقيلة الناتجة عن الفشل في تدبير التمرين السياسي الأول مع حزب الاستقلال. ويلاحظ، ونحن على أبواب ميلاد النسخة الثانية من حكومة العدالة والتنمية، أن "عبدالاله بنكيران " أضاع تسعة أشهر من عمر حكومته في صراع شخصي مع "شباط ومفاوضات شخصية مع "مزوار". فالمعلومات المتوفرة تبين أن "بنكيران" قبل بشروط التجمع الوطني للأحرار التي يبدو انها جد مرتفعة من حيث سقفها إذا ما قورنت بشروط حزب الاستقلال، فقبول "بنكيران" بتعديل يعيد توزيع بعض القطاعات الوزارية وتسليمه ثمانية قطاعات ما بين وزارات ووزارات منتدبة إلى التجمع الوطني للأحرار وقبوله تعديل البرنامج باستقبال أربعة الى خمسة صفحات من التجمع الوطني للأحرار،حسب المعلومات الأولية، معناه أن صراعه مع "شباط" كان شخصيا وليس سياسيا، فمطالب الاستقلال كانت تتضمن نقاش حول منهجية العمل وتطالب بإعادة توزيع جزئي للقطاعات ،وهي اقل مما يقبل به اليوم "عبدالاله بنكيران"، الشيء الذي يضعنا أمام تفسيرين متكاملين: الأول أن "عبد الإله بنكيران" شخصن الصراع مع حزب تاريخي كالاستقلال في "حميد شباط" وتعامل معه كنزاع شخصي، لدرجة جعله لم يقبل مطالب الاستقلال الأقرب إيديولوجيا الى حزبه، والثاني أن حماس العدالة والتنمية في حكومة "بنكيران" الأولى بدأ يضعف، وبات في الحكومة الثانية يقبل بأي شيء مقابل الاستمرار في التجربة، فلا أحد كان يتصور أن يصل التجمع الوطني للأحرار، كتجمع بشري بدون هوية إيديولوجية وخبرة سياسية، إلى هذا الحجم من المكاسب في المفاوضات مع العدالة والتنمية، وفق المعطيات المتوفرة لحد الآن. وبذلك يكون "عبد الإله بنكيران" قد قاد معركة خاسرة بالمفهوم السياسي مع الاستقلال، وكان من الممكن أن يوقف الأزمة الحكومة في يناير 2013 مع مذكرة الاستقلال الأولى. وإذا كان نجاح حزب العدالة والتنمية في الحفاظ على التماسك الظاهري للأغلبية تشرحه طريقة اشتغال وعدم خضوعه للمفاوضات والمقايضات وإدراكه، إلى حدود انسحاب حزب الاستقلال، أنه ليس له ما يخسره إذا سقطت الحكومة، فإنه من المتوقع اليوم أن تضعف هذه النزعة (عدم قبوله بالمفاوضات والتنازلات) بعد أن بدا الحزب ضعيفا وهو يقبل بجميع شروط حزب التجمع الوطني للأحرار أثناء مفاوضات تشكيل حكومة بنكيران الثانية، ويبدو أن مياها كثيرة جرت تحت أرجل العدالة والتنمية في الفترة الممتدة ما بين انسحاب الاستقلال والمفاوضات مع الأحرار. هل ماتت أسطورة التخويف بالشارع لكن السؤال اليوم، بعد كل هذه التنازلات التي قدمها حزب العدالة والتنمية، هو هل المفاتيح السياسية التي وظفها حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال الواحد وعشرين شهرا الماضية وواجه بها كل الانتقادات والمطالب ،لازالت قائمة ؟ فهل سيستمر حزب العدالة والتنمية في توظيف مفتاح "التخويف بتونس ومصر" حيث لوحظ أن قيادات العدالة والتنمية ظلت تحيل باستمرار على ما يجري في التجربتين، وهي إشارة سعى من خلالها الحزب الحاكم الى وضع قاعدة افتراضية ضمنية تقول ان إسقاط أو عرقلة عمل حكومة العدالة والتنمية معناه السقوط في نفس الأحداث التي تعرفها مصر وتونس، وهي قاعدة ليست صحيحة، لأن الفوز في انتخابات 25 نونبر2011 وباقي الانتخابات الجزئية في 2012 و2013 لا يعني أن الشارع ثابت ولم يتغير، وهل سيستمر حزب العدالة والتنمية في توظيف المفتاح الثاني، القائم على استعمال عبارات "التوافق مع الملك" التي تحمل إشارات أن العدالة والتنمية ينزع نحو الاشتغال ب "اللامكتوب" أكثر من المكتوب في دستور يوليوز 2011، وهي مسألة تتضح درجتها أكثر مع طريقة إعداد وتحضير النصوص القانونية التنظيمية والتعامل مع الوقائع والأحداث القادمة؟ وهل سيستمر في توظيف المفتاح القائم على "النزعة السياسية الشكية" التي يشتغل بهذا حزب العدالة والتنمية الحاكم بتفسيره لكل المطالب والوقائع أن وراءها شيء ما بما فيها مطلب "حميد شباط" حول التعديل الحكومي منذ تسعة اشهر. هذه النزعة السياسية التي يبدو أنها تخفي قلقا نفسيا لحزب العدالة والتنمية وهو يقود الحكومة، قلقا يعكس عدم استقراره رغم أن التوازنات السياسية كانت تتغير تدريجيا لصالحه منذ بداية حكومته نتيجة أخطاء متعددة ارتكبت في المعارضة وخارج المعارضة في التعامل مع ظاهرة العدالة والتنمية الحاكم. ويبدو أن "الدولة العميقة" نجحت وهي تراقب حزب العدالة والتنمية وهو يستعد للدخول في تجربته الحكومية الثانية في احتواء الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) وقطع صلته الضعيفة أصلا مع التنظيمات الإسلامية المعتدلة الحاكمة في مصر وتونس الذي كان حزب العدالة والتنمية يحاول الاقتراب منها في بداية اشتغاله (نصائح "بنكيران" ل"مرسي" وزيارة "الغنوشي" وأعضاء من النهضة للمغرب)، كما نجحت في إضعاف صلته مع بعض التنظيمات والمؤسسات الحكومية في الخليج، مقابل ذلك، فقد بات الحزب الحاكم يعاني من الإرهاق بكثرة حضوره في الإعلام، وهي المسألة التي لم تنتبه إليها قيادات الحزب التي تعاقبت على القنوات الإعلامية وهي تردد نفس الخطاب دون تطويره. أكثر من ذلك لاحظت العديد من التنظيمات المجتمعية المدنية أن حزب العدالة والتنمية الحاكم غير منفتح على كل الأفكار والتيارات، ويبدو واضحا ذلك من خلال ظاهرة اللجن (لجن الوزيرة "الحقاوي" والوزير "الشوباني" ) التي باتت تنتج الاحتجاج، ومن المتوقع أن تدخل الحكومة في صراع مع تنظيمات المجتمع المدني بعد أن لاحظت بعض التنظيمات أن الحزب الحاكم يحمل وظيفة جديدة للمجتمع المدني وهي وظيفة "التأليف بين القلوب". فالصدام مع تنظيمات المجتمع المدني والاستهلاك الإعلامي دون تغيير الخطاب وإحساس العقل المجتمعي ب"الستاتيكو" بعد مرافعة كبيرة لحزب العدالة والتنمية خلال سنة تضمنت وعودا بحل قضايا اجتماعية كبرى كالأسعار والتشغيل والخدمات الصحية ...الخ، تدفع الى بداية ارتفاع نزعات معاقبة العدالة والتنمية وهو ما يؤشر على موجة قادمة من الاحتجاجات ضد حكومة العدالة والتنمية ذات طبيعية ثنائية: المطالب الحقوقية والمطالب المعيشية اليومية، والتخوف هو أن تدفع قرارات حكومة العدالة والتنمية بدون انتباه، أو باعتقاد منها أنها تؤطر الشارع ، إلى التقائية هذين النوعين من المطالب في الاحتجاجات القادمة. أضف الى ذلك ان التعايش السياسي بين الأحرار والعدالة والتنمية لن يكون ممكنا بين مرجعية حزب يقول إنه إسلامي (العدالة والتنمية) وحزب لازال يعيش لغطا إيديولوجيا باعتقاده أنه ليبرالي (التجمع الوطني للأحرار)،ف"بنكيران" لن يتعايش مع "مزوار" وسنكون أمام مشهد شبيه بصراع الوزير الأول السابق "عباس الفاسي" مع وزيره في المالية انداك "صلاح الدين مزوار". سواء كان "مزوار" في المالية أو غيره من التجمع الوطني للأحرار او القريبين منه، ويبدو أن أخطاء "بنكيران" ستكلف حزب العدالة والتنمية خسارة سياسية كبيرة، فلا أحد كان يتوقع أن تكون تنازلات كبيرة بهذا الشكل من العدالة والتنمية في مدة زمنية لا تتجاوز تسعة أشهر على بداية "تمرد" الاستقلال على العدالة والتنمية، فالصراعات والمفاوضات أرهقت حزب العدالة والتنمية ويبدو أنه يتجه نحو انتداب "مزوار" لقيادة حكومة بنكيران الثانية. "بنكيران" يسلم الحكومة إلى ورثة مجموعة الثمانية لكن، يبدو أن "بنكيران" ومعه حزب العدالة والتنمية لم ينتبه بهذه التنازلات إلى أنه يسلم تدريجيا قيادة الحكومة إلى ورثة مجموعة الثمانية التي كان يعتقد أنها انهارت بعد نتائج انتخابات 25 نونبر 2011 ، فالتجمع الوطني للأحرار إلى جانب الحركة الشعبية هما وريثان شرعيان لمجموعة الثمانية التي حاربها "بنكيران" في الحملة الانتخابية التي قادته إلى رئاسة الحكومة، مخيرا المغاربة آنداك بين حزبه - العدالة والتنمية- وبين مجموعة الثمانية. فالحزب الحاكم بقيادة "عبدالاله بنكيران" يتجه اليوم بهذه التنازلات إلى إسقاط نفسه والانقلاب على نفسه تدريجيا بتسليمه القطاعات الإستراتيجية والمؤثرة في العمل الحكومي (الداخلية والمالية) إلى ورثة مجموعة الثمانية، فاليوم لما يحتج الحزب الحاكم على نتائج انتخابات مولاي يعقوب ويوجه الاتهام الى ما سماه بالحياد السلبي لرجال السلطة معناه أنه احتجاج على وزير الداخلية، وغدا من المتوقع جدا أن نشاهد "بنكيران" وهو يحتج على وزير ماليته بدعوى عدم قبول التأشير على مشاريع وعد بها العدالة والتنمية المغاربة. نموذج جديد من الانقلابات : حزب إسلامي ينقلب على نفسه هذه الصورة التي باتت محتملة ومتوقعة تبين أن العدالة والتنمية بدا في "الانقلاب" على نفسه وتسليم السلطات الحكومية إلى القيادة الجديدة من ورثة ما تبقى من مجموعة الثمانية، وهو "انقلاب" نادر في العالم أنه حزب ينقلب على نفسه لقلة تجربته وسوء تقديره للتوازنات السياسية واعتقاده انه وحيدا في الشارع بعد 25 نونبر 2011. ونحن اليوم في المغرب أمام نموذج حزبي إسلامي قادته رياح الربيع العربي إلى الحكم لما اجتمعت في 25 نونبر 2011 ثنائية الاحتجاج والعقاب، هذا النموذج الحزبي الذي ينقلب على نفسه ويسقط تدريجيا نفسه بنفسه في منظر شبيه بصورة "العقرب الذي يلدغ ذيله". إننا اليوم إزاء دورة سياسية سريعة وغير عادية يفقد فيها حزب حلفاءه بهذا الشكل، ويقود انقلابا أبيض على نفسه ..! هي سلوكات سياسية تظهر بأن حزب العدالة والتنمية لم يكن يتوقع أن يجد نفسه يوما ما وهو يقود الحكومة، بل كان يعتقد أنه ولد ليحيا في المعارضة، وقد لاحظنا أن سلوكات فريقه البرلماني ووزرائه لازالت مرتبطة بخطاب معارضة الماضي التي تشير إلى أنها غير مسؤولة عن سياسات الماضي، وقد يكون قبوله بهذا السقف من التنازلات، منها تسليم وزارة المالية إلى التجمع الوطني للأحرار، بمثابة إعادة جزء من المسؤولين عن سياسات هذا الماضي الى العمل الحكومي. أغراض حزبية وشخصية في المفاوضات وسيناريو انهيار التجربة بعد سنة فالثابت اليوم أن ما تبقى من ورثة مجموعة الثمانية فرحون بالبقاء أو العودة إلى الحكومة خوفا من الانقراض التدريجي في المعارضة، والواضح أن طول فترة المفاوضات لا يفسره صراع وخلاف حول تقييم لقضايا الدولة وزاوية النظر إلى مقاربة العمل الحكومي المقبلة، وإنما تحكمت فيه توازنات حزبية لا علاقة لها بقضايا الدولة المطروحة في الشارع. فالأحزاب السياسية المعنية بالمفاوضات أظهرت مرة أخرى أن الأغراض الحزبية والشخصية ترتفع وتتغلب على قضايا الدولة، وقد لاحظنا ما يروج حول وزارة الخارجية وكيف تحولت الى "سلة للمهملات" في المفاوضات تستوعب النزاعات الشخصية حول المقاعد الوزارية، وهي مؤشر لأول المخاطر القادمة في عمل الحكومة المقبلة في ظرفية إقليمية مملوءة بالمخاطر، وقد لاحظنا أيضا كيف أن المفاوضات ظلت تتأرجح بين الحقائب والأشخاص وغابت عنها مسالة البرنامج، ولا أحد يعرف اليوم مآل البرنامج الحكومي الذي بات معيبا دستوريا، مادمت محاضر التصويت عليه تشير إلى أن وزراء التجمع الوطني للأحرار صوتوا ضده في مجلس النواب أثناء عرض التجربة الأولى لحكومة "بنكيران". ويبدو أن مؤشرات انهيار الحكومة الجديدة موجودة في طريقة ومضمون المفاوضات قبل ولادة هذه الحكومة، فالسيناريو القادم أمامنا هو أن العدالة والتنمية ينفذ اليوم انقلابا على نفسه، انقلاب سيقوده بعد شهور إلى الانسحاب من الحكومة وتحميل مسؤولية فشل التجربة الحالية إلى التجمع الوطني للأحرار أو الحركة الشعبية، أي إلى ورثة مجموعة الثمانية، ولا أعتقد أن ورثة مجموعة الثمانية (الأحرار والحركة الشعبية) يستحضرون تكلفة هذا السيناريو القادم، فالعدالة والتنمية ارتكب أخطاء كبيرة وبدأ الانسحاب التدريجي من الحكومة، ويبدو أن الصورة اليوم في المغرب هي أننا أمام حزب يدخل للحكومة لأغراض محكومة بتوازنات حزبية وشخصية (التجمع الوطني للأحرار) وحزب يتنازل تدريجيا عن الحكومة لانعدام الخبرة والتجربة (العدالة والتنمية)، وسيكون موضوع التنافس بينهما معا هو : إنهاء تجربة حكومة "بنكيران" الثانية بعد سنة من تعيينها. *رئيس المركز المغاربي للدراسات الأمنية وتحليل السياسات [email protected]