ما بين رغبة حزب العدالة والتنمية في الاستمرار في قيادة الحكومة، وإدراك التجمع الوطني للأحرار أنه الحزب الوحيد الممكن لتعويض الفراغ الذي تركه انسحاب حزب الاستقلال، كان من الواضح أن مفاوضات تشكيل الحكومة الواحدة والثلاثين في تاريخ الحكومات المغربية ستكون صعبة وشاقة، وأن "الحزب الإسلامي" سيكون مضطرا لتقديم بعض التنازلات لحليفه الجديد. بيد أن الصورة التي جاءت عليها "حكومة بنكيران" في طبعتها الثانية، أظهرت كيف أن هذه التنازلات قد فاقت كل التصورات، وأصبحنا معها إزاء ردة سياسية ودستورية حقيقية، تؤشر على استعادة الدولة العميقة للمبادرة من جديد بعد أن كانت أحداث "الربيع العربي"، وتداعياته على المستوى المغربي، قد فرضت عليها تقديم بعض التنازلات، إن على المستوى الدستوري أو الانتخابي. وهذه بعض المعطيات التي تبرر مثل هذا الاستنتاج: أولا، أن ارتفاع عدد الوزراء من 32 وزيرا إلى 39 وزيرا، وإن لم يصل بعد إلى الرقم القياسي المسجل باسم حكومة "اليوسفي الأولى" (41 وزيرا)، علاوة على أنه يمثل تناقضا واضحا مع شعار الترشيد والعقلنة، الذي يكاد يشكل ثابتا من ثوابت الخطاب السياسي للحزب الذي يقود الحكومة، فإنه يجعل من الحكومة بنية مفخخة وقابلة للانفجار في كل لحظة وحين. ويصبح هذا الأمر أكثر وضوحا عندما نربطه بالكم الهائل من الوزراء المنتدبين لدى وزراء آخرين (13 وزيرا منتدبا، اثنان منهم فقط منتدبان لدى رئيس الحكومة)، وما يمكن أن يوفره من أرضية خصبة لصراعات تحديد الصلاحيات وترسيم الحدود، خاصة في الحالة التي يكون فيها الوزير والوزير المنتدب لديه ينتميان إلى تشكيلات سياسية مغايرة. ثانيا، أن إعادة الهيكلة التي خضعت لها الحكومة أظهر إلى أي حد خضعت خريطة التقطيع الحكومي لعمليات قيصرية تحكم فيها هاجس "توزير" بعض الأشخاص، إما لاعتبارات حزبية أو عائلية، أكثر من الحاجة إلى وجود هذا القطاع الحكومي أو ذلك، أو الرغبة في تعزيز الجهاز التنفيذي بخبرات وكفاءات يمكن أن تغطي الضعف البين الذي لوحظ في وزراء الحكومة السابقة، وخاصة وزراء "الحزب الحاكم" الحديثي العهد بمثل هذه المسؤوليات. وهذا ما يجعل العلاقات العائلية والشخصية لا تزال حاضرة بقوة كمنفذ من منافذ الاستوزار في الممارسة الحكومية المغربية. ثالثا، أن الحضور الوازن الذي أصبح لوزراء السيادة، ليس فقط على المستوى العددي (ثمانية وزراء، أي بإضافة ثلاثة مقارنة بالحكومة السابقة)، وإنما أيضا على مستوى أهمية وحساسية القطاعات الحكومية التي يتولون الإشراف عليها (الداخلية، الدفاع، الأوقاف والشؤون الإسلامية، الشؤون العامة والحكامة، الأمانة العامة للحكومة، الفلاحة والصيد البحري، التربية الوطنية..)، يجعل منهم ثان أكبر حزب في التركيبة الحكومية، إن لم نقل الحزب الأول عندما نأخذ بعين الاعتبار أن "وزراء الأحرار" هم أنفسهم ليسوا أكثر من وزراء تقنوقراط يلبسون جبة سياسية. وهذه المسألة إذا كانت تسمح للقصر الملكي بتولي الإشراف المباشر على قطاعات حكومية استراتيجية، فإنها تطرح أكثر من علامة استفهام حول مدى تطابقها مع روح الدستور، الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة، ويجعل من الانتخابات ونتائجها أساس "الاختيار الديمقراطي". بل وتطرح التساؤل، أيضا، حول ما إذا كان رئيس الحكومة قد مارس حقه الدستوري في اقتراح الوزراء. رابعا، أن دخول لاعب جديد إلى دائرة الأحزاب المكونة للأغلبية الجديدة (التجمع الوطني للأحرار)، بقدر ما جعله يظفر بثمانية حقائب وزارية، ومن خلالها يهيمن على قطبين على درجة كبيرة من الأهمية (القطب الخارجي من خلال وزارة الشؤون الخارجية والتعاون، الوزارة المكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج وشؤون الهجرة، والقطب الاقتصادي الاجتماعي عبر الإشراف على وزارة المالية والشؤون الاقتصادية والصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي، التجارة الخارجية، والمقاولات الصغرى وإدماج القطاع المنظم..)، بقدر ما سمح ل"تحالف الثمانية" بالإشراف على 14 قطاعا حكوميا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المقاعد التي يتولاها الحزب الآخر الذي كان مكونا من مكونات التحالف المذكور، أي الحركة الشعبية. وهنا يجوز التساؤل حول الوظيفة الحقيقية للانتخابات في الحقل السياسي المغربي إذا كانت الحكومة المنبثقة عنها تجعل الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات جنبا إلى جنب مع الحزب، أو الأحزاب، التي يفترض أنه حصل على أصوات الناخبين لأنه قدم برنامجا انتخابيا مضادا لها، وعمل على تصريف خطاب سياسي يحذر المغاربة بأن الإدلاء بأصواتهم لفائدتها يعني استمرار سياسة التحكم وفساد التدبير. خامسا، أن إبعاد رئيس التجمع الوطني للأحرار عن وزارة المالية، إذا كان قد جنب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية الإحراج الذي كان سيسببه له عودة مزوار لنفس المنصب، الذي كان إشرافه عليه من قبل قد انتهى على إيقاع فضيحة التعويضات، فإن ذلك لم يكن بدون ثمن. فعلاوة على أن هذا الأمر قد فرض عليه التخلي عن وزارة الخارجية، التي لا تخفى أهميتها، فقد جعله يضحي بوزير يحظى باحترام وتقدير في الأوساط السياسية، ويمكن أن يكون "لإقصائه" تأثير على لعبة التوازنات الداخلية لحزب العدالة والتنمية، سيما عندما يكون الدكتور سعد الدين العثماني هو الرئيس الحالي للمجلس الوطني والأمين العام السابق للحزب. سادسا، أن استوزار الزعيم السابق للاتحاد العام للمقاولات (مولاي حفيظ العلمي) باسم حزب لم يسبق أن كان عضوا به (التجمع الوطني للأحرار)، يعيد إلى الأذهان سياسة إصباغ الوزراء، التي كان قد أرسى دعائمها وهندسها المستشار الملكي الراحل مزيان بلفقيه، وتكرست بشكل قوي في ظل حكومة إدريس جطو، حينما أصبح كل من كريم غلاب وعادل الدويري وزيران باسم حزب الاستقلال، ومحمد بوسعيد، باسم التجمع الوطني للأحرار، قبل أن تتواصل في ظل حكومة عباس الفاسي، مع استوزار كل من منصف بلخياط وعزيز أخنوش باسم التجمع الوطني للأحرار. بكل ما يمثله ذلك من تدخل واضح في استقلالية الأحزاب، ومن تبخيس للعمل الحزبي. سابعا، أن استعادة وزارة الداخلية لطابعها السيادي، بعد أن غادرها الأمين العام لحزب الحركة الشعبية ليحل محله شخصية تدرجت في عدد من أسلاك الإدارة، يعطي إشارة واضحة على حرص النظام على استمرار الطابع الاستثنائي لهذه الوزارة، واعتبارها ليس مجرد وزارة من بين الوزارات التي تتكون منها الحكومة وإنما "حكومة قائمة بذاتها". صحيح أن "تحزيب" هذه الوزارة في الحكومة السابقة لم يكن يعني غياب نفوذ القصر عليها، فلا أحد كان يصدق أن امحند العنصر هو من كان يتولى تدبير شؤونها، ولكن، مع ذلك، فإن مجرد تعيين "وزير حزبي" على رأسها كان، في حد ذاته، يعد تحولا، سيما بالنسبة لوزارة ظلت طيلة تاريخها ممنوعة على الأحزاب ومحتكرة من طرف أشخاص ذوو ارتباط مباشر بالقصر الملكي.. ثامنا، أن استفادة بعض الأحزاب الموروثة عن الأغلبية السابقة من حقائب وزارية جديدة، وخاصة الحركة الشعبية (وزارة منتدبة مكلفة بالبيئة، ووزارة منتدبة لدى وزير التربية الوطنية والتكوين المهني) والتقدم والاشتراكية (وزارة منتدبة مكلفة بالماء)، إذا كان يعطي الانطباع بتعزيز مكانتها في خريطة التمثيل الحكومي، فإن الأمر لا يبدو كذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار أن مكانة الأمينين العامين للحزبين قد تعرضت إلى كثير من التحجيم، حينما أرغم أحدهما (العنصر) على اقتسام نفس القطاع الحكومي الذي كان يسيره الآخر في الحكومة السابقة (نبيل بنعبد الله). تاسعا، أن الحزب الذي حاز على أكبر نتيجة في تاريخ الانتخابات المغربية، والتي أهلته لكي يقود أول حكومة في ظل دستور فرضه مناخ سياسي غير مسبوق، هو نفسه الحزب الذي جرى إبعاده من قطاعات حكومية مهمة وحيوية (الخارجية، والشؤون العامة والحكامة، والصناعة والتجارة والاستثمار)، دون أن يغير من هذا الواقع توليه تسيير قطاع حكومي جديد (الطاقة والمعادن والماء والبيئة)، بالنظر إلى أنه يقتسمه مع وزيرتين منتدبتين، إحداهما من الأحرار والأخرى من التقدم والاشتراكية. وإذا ما أضفنا إلى هذه القطاعات التي خسرها في التعديل الحكومي الأخير، القطاعات التي لم يكن يتولى الإشراف عليها في الحكومة السابقة، يصبح من الواضح أن "الحزب الإسلامي" يفقد السيطرة على ثلاثة مجالات رئيسية (المجال الأمني، المجال الخارجي، مجال الاقتصاد الاجتماعي، بما فيه المجال الفلاحي) يصعب على أي حزب أن يتولى تدبير "السياسة العامة للدولة" بدون أن يكون مشرفا عليها. عاشرا، أن انتقال عدد "الوزراء النساء" من واحدة في الحكومة السابقة إلى ستة في الحكومة الحالية إذا كان يشكل تعزيزا لمكانة المرأة في التركيبة الحكومية، ومن ثم في الحياة السياسية، فإنه يبقى محدودا عندما نأخذ بعين الاعتبار ارتفاع عدد الوزراء في هذه الحكومة مقارنة بسابقتها، وبصفة خاصة طبيعة الحقائب الوزارية التي أسندت لهن. فإثناء منهن فقط اللواتي يحملن "صفة وزير"، بينما الأربعة الأخريات يحملن صفة "وزير منتدب" فقط. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن إحداهن ليس لها قطاعا حكوميا محددا(وزيرة منتدبة لدى وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكون الأطر).