«روح التوافق الذي ميز عمل الأغلبية» هذا هو مضمون البلاغ الأخير الذي أصدرته الأغلبية عقب اجتماع لقياداتها يوم الأربعاء الماضي من أجل لملمة الأزمة السياسية الجديدة التي كادت تعصف مرة أخرى بالتحالف الحكومي على خلفية المراسلة الجوابية لوزير المالية محمد بوسعيد إلى بعض قيادات المعارضة دون علم من رئيس الحكومة. هذا العنوان لا يقتصر فقط على هذا البلاغ بل هو عنوان عريض لكل الولاية الحكومية الحالية التي تشرف على نهايتها ودخلت العد العكسي في ترقب للانتخابات التشريعية المقبلة في أكتوبر القادم. التوافق لفظ يحمل منطوقا ومفهوما، فأما المنطوق فهو الانسجام والتآلف وأما المفهوم فهو الانسجام والتآلف بعد خلاف وربما صراع ونزاع. في المعجم السياسي يستعمل التوافق عادة للدلالة على درجة التقارب التي قد تصل إليها الأغلبية والمعارضة، لكن في السياق السياسي الحالي أصبح التوافق هو أقصى المطالب التي تبحث عنها الأغلبية وتطمح من أجل الوصول إليها في ظل تعدد وتواتر الأزمات السياسية والشخصية داخل الحكومة، والتي وضعت رئيسها في مواجهة أعضاء حكومته الذين قرروا التغريد خارج السرب أو اتخاذ مبادرات فردية أو صياغة قرارات دون علمه أو استشارته كما هو الحال مع صندوق التنمية القروية الذي تندر عليه بعض الظرفاء فسماه «صندوق مافراسيش» إشارة إلى موقف عبد الإله بنكيران الذي عبر عن مفاجأته من تفويض تدبير الميزانية إلى وزير الفلاحة وتجاوز المسؤول التنفيذي الأول. التوافق شعار ظلت الحكومة التي عاشت أولى أزماتها بخروج حزب الاستقلال في سابقة من نوعها في تاريخ الحياة السياسية تقبله على مضض تجاوزا لاحتمالات انفجار هذا التحالف الذي يضم في طياته أحزابا تنتمي إلى آفاق ومرجعيات إيديولوجية وسياسية مختلفة بل ومتضاربة أحيانا. هذه الهشاشة التي ميزت أغلبية عبد الإله بنكيران وظلت سيفا مسلطا على رأسه منذ توليه مسؤولية التدبير ليست سوى انعكاسا لما يميز المشهد والحقل الحزبي والسياسي الوطني الذي لا يزال يعاني من ضعف النخب وانعدام الثقافة السياسية الديمقراطية وتدخل الفاعلين من خارج الحقل الانتخابي وتشرذم وبلقنة القوى السياسية وكذا غياب المشروع الوطني المستمد من شعبية جارفة بالنظر إلى العزوف المزمن للمواطنين عن السياسة متابعة أو ممارسة أو تصويتا. فما هي الدروس المستخلصة من تجربة هذا التحالف الذي يظل أهون من بيت العنكبوت؟ انسحاب حزب الاستقلال.. أول طعنة للتحالف الحكومي في ماي من سنة 2013 اتخذ المجلس الوطني لحزب الاستقلال قرارا بالانسحاب من الحكومة الحالية والانضمام لصفوف المعارضة بعد أن استنفذ الحزب، حسب بيان المجلس، جميع إمكانيات التنبيه والنصح ووفائه بجميع التزاماته تجاه حلفائه، وكذا بسبب عدم اكتراث الحكومة لخطورة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإصرار على التباطؤ في تنزيل مضامين الدستور. ولجأ حزب الاستقلال حينها إلى الفصل 42 من الدستور لتقديم شكوى إلى الملك ضد رئيس الحكومة وانتظار التحكيم الملكي. وقد مثل انسحاب الاستقلال أول اختبار حقيقي للتحالف الحكومي بالنظر إلى المكانة التي كان يحتلها هذا الحزب في هرمية المقاعد الوزارية وكذا بالنظر إلى تقاربه المرجعي والإيديولوجي مع الحزب الذي يتزعم الحكومة: العدالة والتنمية. كان من الممكن أن تضع هذه الأزمة المغرب على شفا حالة من عدم الاستقرار بشكل غير مسبوق إلا أنه سرعان ما تم احتواؤها ليتم تعويض حزب الاستقلال بحزب التجمع الوطني للأحرار. ورغم ذلك فإن انسحاب شباط وحزبه من التحالف الحكومي ورغم كل التأويلات التي حاولت تفسيره وتبريره كان بمثابة دليل على أن هذه الحكومة «من الخيمة خرجت مايلة». كما أثبت أن نزوعات الزعامة والقيادة لا تسمح لبعض الأحزاب السياسية وخصوصا تلك التي تستند إلى مرجعية تاريخية وطنية بالانضواء تحت لواء حكومة لا تقودها أو لا تتحكم في توجيهها. فأزمة حزب الاستقلال كانت في أحد جوانبها مرتبطة بالصراع على الزعامة الذي كان واضحا من طموحات الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط وهي الطموحات التي سرعان ما انطفأت وخبا أوارها بعد صدمة نتائج الانتخابات الجماعية وهزيمة القيادي الاستقلالي في عقر داره وخسارته لعمادة مدينة فاس. أزمة انسحاب حزب الاستقلال أثارت كذلك النقاش مجددا حول مدى استقلالية القرار الحزبي بالنظر إلى أن كثيرا من التحليلات والقراءات بل وحتى بعض الأنباء تحدثت عن كون حزب الاستقلال لم يتخذ قرار الانسحاب من الحكومة بمحض إرادته وإنما بتوجيه من قوى فاعلة خارج الحكومة من أجل إحراج حزب العدالة والتنمية ووضع العصا في العجلة والدفع ربما نحو إسقاط هذه الحكومة في حال عجزها عن إيجاد البديل لحزب الاستقلال. المواجهة العلنية بين بنكيران ووزيره في التربية الوطنية لم يجد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران صعوبة في خلق الانضباط والتناغم داخل فريقه الحكومي أكثر مما وجدها في مواجهة بعض الوزراء التقنوقراط الذين التحف بعضهم بجبة حزبية مؤقتة أو دخل الحكومة من دون غطاء حزبي معين. ولا يزال عبد الإله بنكيران يواجه تحديا صريحا من وزيره في التربية الوطنية الذي راكم مجموعة من القرارات رأى فيها بنكيران وحزبه الإسلامي خروجا عن خط الهوية الوطنية والثوابت الثقافية للمغرب. هذه المواجهة بين بنكيران وبلمختار تكررت على مدى العامين الماضيين ففي نهاية سنة 2015 اختار عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة منصة مجلس المستشارين ليهاجم وزيره في التربية الوطنية والتكوين المهني. وكان بنكيران يحاول من خلال هذه المواجهة الصريحة مع الوزير المذكور حرص حزبه على الالتزام بما جاء في برنامجه الانتخابي في محور القيم والتربية الوطنية. إلا أن خرجات بنكيران في مواجهة بلمختار أظهرت مدى هشاشة التماسك بين أعضاء الفريق الحكومي ومحدودية سلطة رئيس الحكومة على بعض الوزراء، فما كان من بنكيران إلا أن وجه نقدا صريحا لوزير التربية عندما كشف أنه ضد فرنسة التعليم في المواد العلمية بالمستوى الثانوي، وأنه هو من يملك تقدير اتخاذ بعض القرارات، وأن الملك اختاره ليكون رئيس الحكومة ولم يختر رشيد بلمختار . رئيس الحكومة، الذي أثار هذه القضية علانية وأمام كاميرات وميكروفونات وسائل الإعلام كان يحاول تبرئة نفسه وحزبه وحكومته مما يتخذه الوزير بملختار من قرارات في ملف التعليم غير أنه كشف بالملموس أن نفوذ التقنوقراط في الحكومة السياسية الحالية لا يزال كبيرا ومؤثرا خصوصا أن القرارات التي انتقدها رئيس الحكومة السنة الماضية تم تفعيلها رسميا في وزارة التربية الوطنية في الآونة الأخيرة، وعجز رئيس الحكومة عن اتخاذ ما يلزم من إجراءات إدارية وتنفيذية للحؤول دونها. أزمة صندوق التنمية القروية وصراع العمالقة الصراع بين بنكيران ووزرائه لم يقتصر على مواجهته وانتقاده للوزير رشيد بلمختار بل امتد إلى أحد أعمدة التحالف الحكومي المتمثل في وزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش. فالنفوذ السياسي الذي أصبحت تحظى به شخصية الرجل لم يمنع رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران من محاولة فرض سلطته التي يكفلها الدستور على صندوق التنمية القروية الذي أوكله قانون المالية برسم سنة 2016 إلى نفوذ وزير الفلاحة. أزمة صندوق التنمية القروية كانت علامة مميزة في مسار الحكومة الحالية وفي سجل أزماتها التي لا تنتهي حيث عكست في الوقت نفسه عدم وضوح الرؤية السياسية خصوصا فيما يتعلق بتدبير الموارد المالية للدولة خصوصا أن الأمر يتعلق بميزانية ضخمة تصل إلى 55 مليار درهم، وكذلك عكست عدم مصداقية التوازنات السياسية الظاهرة للعيان والتي تخفي وراءها خريطة سياسية عميقة يحتل فيها بعض الوزراء مواقع أكثر نفوذا من رئيس الحكومة نفسه. هذه الأزمة التي تفاقمت بسرعة بعد أن رأى عبد الإله بنكيران في تفويت قانون المالية حق تدبير موارد الصندوق للوزير أخنوش مؤامرة تواطأ فيها وزير المالية محمد بوسعيد وفوزي لقجع مدير الميزانية من أجل تجريد رئيس الحكومة من صلاحيات يضمنها له الدستور والقانون خصوصا أن حكومة بنكيران كان لها الفضل الكبير في توفير موارد هذا الصندوق من سياساتها التقشفية والإصلاحية خصوصا في مجال دعم المواد الأساسية وعلى رأسها الوقود. يذكر أن هذه الأزمة انتهت باعتراف رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، أنه «تنازل» عن صفة «الآمر بالصرف» في ما يتعلق بصندوق «تنمية العالم القروي» لصالح وزير الفلاحة عزيز أخنوش، بعدما أثارت المادة 30 من مشروع المالية 2016 جدلا سياسيا ودستوريا كبيرا، معترفا في الوقت ذاته أن خلافه مع أخنوش كان «أسوء» خلاف في تاريخ حكومته منذ تعيينها رسميا في 3 يناير 2012. وبينما أثارت هذه الأزمة في بدايتها نقاشا داخليا في حزب العدالة والتنمية وصل حد التشدد لحق رئيس الحكومة في ممارسة اختصاصاته اضطرت الأمانة العامة لحزب «العدالة والتنمية» أن تتفق على طي هذا الملف، و»التنازل» عن المطالبة بإسناد صفة «الآمر بالصرف» لرئاسة الحكومة. مزوار وبنكيران.. السن يضحك للسن منذ أكثر من شهرين ونصف لم يتوقف وزير الشؤون الخارجية والتعاون ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار بديل الاستقلال في الحكومة عن مهاجمتها وانتقاد رئيسها وقراراته وتصريحاته. في فبراير الماضي بدأ حبل الود بين الوزير التجمعي ورئيس الحكومة الإسلامي ينقطع عندما شن مزوار، في كلمة له أمام المجلس الوطني للحزب بالصخيرات، هجوما عنيفا على رئيس الحكومة وحزب العدالة والتنمية، وقال إن الأغلبية الحكومية عرفت شدا داخلها فيما يتعلق بالتحالفات التي أعقبت انتخابات 4 شتنبر. واتهم مزوار بشكل ضمني بنكيران بمحاولة التحكم في القرار الداخلي للتجمع الوطني للأحرار، وقال «لقد اندهشت لما آل إليه النقاش السياسي من تدني، ومن أساليب غير حضارية وغير مألوفة، حيث ظهرت إرادة التحكم في قرارنا الحزبي المستقل، وكانت هناك إرادة لطمسنا، ووصفنا بالخيانة رغم أن الجهة التي هاجمتنا سبق أن أصدرت بيانا يدعو لتوسيع التحالفات، في الوقت الذي كانت المفاوضات بيننا مستمرة". وتابع وزير الخارجية في حكومة عبد الإله بنكيران "فوجئنا كما فوجئ السياسيون بخطاب عنيف ولا أخلاقي وغير حضاري يستهدفنا، خطاب بلغ درجة التعرض للحياة الخاصة للأفراد، فضلا عن وصفنا بالخيانة، « هاد الكلمة استعملها المغاربة في حياتهم مرة وحدة ضد قلة قليلة من المغاربة اختارت أن تكون إلى جانب معسكر الاستعمار ضد الاستقلال»، على حد تعبيره. واعتبر مزوار أن كل ما تعرض له حزب التجمع الوطني للأحرار من حملة غير أخلاقية استهدفته من قبل حزب العدالة والتنمية سببها مقاومته للتحكم والهيمنة، ورفضه الانحناء لخططه وتشبثه باستقلالية قراره، مؤكدا أن حزبه لم يخرق العهود والاتفاقيات، بل قام فقط بممارسة حقه في تدبير تحالفاته المحلية وفق ما يفرضه الواقع، مضيفا أن التحالفات يتم تدبيرها وفق الظروف، وهو ما جعل رئيس الحكومة يقترح علينا الانضمام للحكومة بعدما كانت علاقتنا غير ودية، فأصبحنا بقدرة قادر حلفاء بعدما كنا أعداء، قبل أن نصبح خونة". كان هذا الخطاب الشديد اللهجة من وزير اتجاه رئيسه المباشر في الحكومة بمثابة إعلان الطلاق والقطيعة وربما تبشيرا بانتخابات مبكرة بالنظر إلى أن هذه الانتقادات لا يمكن إلا أن يتلوها قرار بالانسحاب من الحكومة على غرار ما فعله حزب الاستقلال. ولم يتأخر رد رئيس الحكومة على وزيره في الخارجية حيث قال إنه لا يفهم سبب التصريحات التي أطلقها مزوار، خصوصا أنه لا يعرف أحدا من قيادات حزب العدالة والتنمية سبق أن وصف قادة التجمع الوطني للأحرار بالخونة أو الأعداء. وأضاف بنكيران في معرض حديثه عن التحالفات المقبلة بعد انتخابات 7 أكتوبر، أمام أعضاء اللجنة الوطنية لحزبه أن حزب التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية يسعيان للحفاظ على هذا التحالف، وهو الأمر نفسه بالنسبة للحركة الشعبية، أما التصريحات الأخيرة لمزوار فلا تذهب في هذا الشأن، يقول بنكيران. وتابع بنكيران «لا أعرف حقيقة أسباب ودوافع هذه التصريحات"، خصوصا أن مزوار التقيته «وكان من ألطف خلق الله"، مضيفا أنه قرر عدم الرد عليه وطلب من قيادة الحزب عدم الرد أيضا. « قررت منردش بالعار، راه ماشي اللعب هذا، إلى رديت بالعار، خصو يمشي فحالو من الحكومة، أو خصنا نقدمو استقالتنا من الحكومة، وهادشي منبغيهش لبلادي، وعلى كل حال الناس راهم تيشوفو وتيلاحظو»، يقول بنكيران. هذا الصراع الذي لا ينتهي بين رئيس الحكومة والأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار رغم اللقاءات التصالحية بين الفينة والأخرى لا يختلف عن ذلك الذي كان يجسده حميد شباط الأمين العام لحزب الاستقلال قبل انسحابه من الحكومة. فالظاهر أن حكومة عبد الإله بنكيران جمعت من المكونات الحزبية الكثير من الكاريزمات التي يصعب تطويعها في هيكل تنفيذي منسجم دون أن تتناطح فيها الطموحات السياسية، خصوصا على مشارف المواعيد والاستحقاقات الانتخابية. لكن الغريب أن كل هذه الصراعات التي تصل حد تبادل الانتقادات الصريحة بين وزيرين في الحكومة ذاتها تنتهي بلقاء وكأس شاي حفاظا على التوافق والاستقرار ولو كان على حساب وضوح الرؤية والبرنامج السياسي للحكومة. أزمة أساتذة الغد تطرح قضية ولاء الوزراء لرئيسهم يفصح البلاغ الذي صدر عن الأغلبية بعد لقاء يوم الأربعاء الماضي ببيت رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران أن التحالف الذي يقوده حزب العدالة والتنمية سيواصل على مضض عمله إلى نهاية الولاية الحكومية في أكتوبر المقبل. هذا البلاغ الذي جاء مختصرا ومقتضبا دون إشارة إلى حيثيات الاتفاق الذي أفرزه الاجتماع ينبئ عن استمرار رئيس الحكومة في نهج سياسة التجاوز وغض الطرف انسجاما مع مقولة «مكره أخاك لا بطل» بعد أن اتضح جليا من كل الأزمات التي عاشها بنكيران بسبب وزرائه أنه لم ينجح في فرض سلطته كاملة على أعضاء الحكومة. بلاغ الأغلبية الذي كشف أن «اجتماع الأغلبية اتسم بطابع الصراحة والمسؤولية، حيث تم التأكيد على الحفاظ على روح التوافق الذي ميز عمل الأغلبية» بدا مبالغا في لغة الخشب والدبلوماسية عندما أكد أن الحكومة ستواصل عملها وتجاوز التداعيات التي خلفها موضوع الطلبة الأساتذة المتدربين مع التأكيد على ضرورة مواصلة التقدم في إنجاز البرامج الحكومية فيما تبقى من الولاية. الأزمة بين بنكيران ووزيره في المالية محمد بوسعيد اندلعت عندما قام هذا الأخير بالرد على مراسلة لفريقي الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي بمجلس المستشارين في مذكرة جوابية، وذلك استجابة لمطلب من أجل إيجاد حل لمشكل الأساتذة المتدربين الذي عمر لأزيد من خمسة أشهر. هذه المراسلة دقت إسفينا جديدا بين بنكيران ووزيره في المالية تنضاف إلى توتر سابق يتعلق بملف تدبير صندوق التنمية القروية. فقد أعلن رئيس الحكومة، في بلاغ رسمي «استغرابه الشديد لمضمون هذه المراسلة وتوقيتها»، معتبرا أنها «مبادرة فردية تمت دون التشاور مع رئيس الحكومة، ومخالفة للحل الذي اقترحته الحكومة». وبينما أكد الوزير بوسعيد، في مراسلته للفريقين المنتميين إلى صفوف المعارضة بالغرفة البرلمانيّة الثانية، أن «إجراء مباراة لتوظيف خريجي المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين دفعة واحدة يقتضي استصدار مرسوم أو قرار يحدد شروط وكيفيات إجراء مباراة توظيف هذه الفئة برسم الموسم الدراسي 2016-2017، وكذا كيفية شغل المناصب المالية المخصصة لهذه العملية برسم السنتين الماليتين 2016 و2017»، خرج رئيس الحكومة ليقول إنه «بالنظر إلى كون الحكومة حسمت هذا الموضوع، رسميا ونهائيا، فإنه لا يحق لأي وزير أن يشتغل خارج هذا الإطار بأي شكل من الأشكال». وقال بنكيران، في بلاغه إنه «لا حاجة إلى استصدار أي مرسوم أو قرار يحدد شروط وكيفيات إجراء مباراة توظيف خريجي المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين برسم الموسم الدراسي 2016-2017، كما جاء في المراسلة»، مسجلا أن «المرسومين المتعلقين بهذه الفئة يؤطران بشكل واضح هذه الشروط والكيفيات». بلاغ رئيس الحكومة الذي يتبرأ من مبادرة وزيره في المالية كان بمثابة الضوء الأخضر لأعضاء حزب العدالة والتنمية وقياداته التي شنت بدورها هجوما شديدا على الوزير بوسعيد وعلى حزب التجمع الوطني للأحرار المتهم سلفا بأنه يشاكس داخل الأغلبية الحكومية ويحاول التموقع في أفق الانتخابات المقبلة. ولم يكن المهم في رد عبد الإله بنكيران على بوسعيد ما يتعلق بالجانب القانوني الخاص بملف الأساتذة المتدربين بقدر ما كان المهم فيه هو محاولته توضيح المساطر والقواعد التي تجعل الوزير تحت سلطة رئيس الحكومة الذي يخول له القانون والدستور ضرورة الاطلاع على قرارات ومبادرات وزرائه وخصوصا تلك المتعلقة بملفات حساسة من قبيل هذا الملف. ومرة أخرى ظهر من خلال هذه الأزمة التي يبدو أنه تم التغطية عليها مرة أخرى في انتظار موعد الانتخابات المقبلة أن بنكيران عاش طيلة ولايته الحكومية ضحية لتحالفاته السياسية الهشة وغير الواضحة الآفاق والمعالم. الانتخابات الجماعية.. أزمة غطتها الفرحة بالمقاعد لم يكد ينتهي الإعلان الرسمي عن نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية المنظمة في 4 شتنبر الماضي حتى بدأت مكونات الأغلبية في البحث عن مواقع لها في الجماعات والمدن والجهات سعيا للحصول على حصتها من حظوظ التسيير والتدبير. ورغم أن هذه الأحزاب أصدرت في 5 شتنبر أي اليوم الموالي للاقتراع بلاغا، تؤكد فيه عزمها تدبير تحالفاتها في إطار احترام منطق الأغلبية الحكومية في مختلف مستويات الجماعات الترابية، وبأن أي تحالفات خارج منطق الأغلبية "لا يمكن أن يكون إلا استثناء يخضع لتشاور مسبق» إلا أن هذا لم يخفف من وطأة الصراع وحدة التصريحات والمناورات التي شهدتها انتخابات مجالس الجهات ورئاستها على الخصوص. فهذا التنسيق المعلن سرعان ما تم التراجع عنه ولو بشكل نسبي عندما أصدر حزب العدالة والتنمية يوم الثلاثاء 8 شتنبر بلاغا أعلن فيه "عدم استبعاده" لإمكانية التحالف مع أحزاب خارج الأغلبية الحكومية لتشكيل مكاتب مجالس الجهات والجماعات. وهذا ما اعتبره أعضاء من حزب التجمع الوطني للأحرار إشارة إلى "عدم التزام العدالة والتنمية بالوفاء لأحزاب الأغلبية"، معتبرين أن بلاغ الأمانة العامة ل»البيجيدي» لمح إلى إمكانية عقد الحزب التحالف مع أحزاب المعارضة، بما فيها حزب الأصالة والمعاصرة وحزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي». وقد شكلت هذه التصريحات والتصريحات المضادة إيذانا باحتمال دخول التحالف الحكومي في أزمة سياسية جديدة على خلفية تدبير نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية. وهذا ما طفا على السطح لاحقا بعد شهور طويلة عندما استعاد وزير الشؤون الخارجية صلاح الدين مزوار محطة الانتخابات الجماعية ليؤكد في أحد لقاءات الحزب أن النقاش السياسي في المغرب وصل إلى مستويات متدنية قائلا: «إندهشت لما وصل إليه النقاش السياسي من تدني بسبب اللجوء إلى بعض الأساليب غير الحضارية وغير المألوفة في المشهد السياسي المغربي، عكست نزوعا نحو الهيمنة وإرادة التحكم في قرارنا الحزبي المستقل»، وتابع «لن أعود إلى التفاصيل فالكل يعرفها، ولو كانت هناك محاولات لطمسها كون الجهة التي هاجمتنا هي التي أعلنت بعد يومين من الانتخابات الأخيرة، قرار توسيع التحالفات خارج الائتلاف الحكومي». وهذا ما يدفع بعض المتابعين للشأن السياسي إلى تفسير أزمات الحكومة ومكونات الأغلبية بفشلها في تدبير الانتخابات الجماعية والجهوية بشكل توافقي واضح. هذه الهشاشة في تحالف الحكومة ظهرت كذلك في بعض الأحداث التي أعقبت الانتخابات وهمت قيادات حزبية في مكونات الأغلبية كما تناقلت بعض وسائل الإعلام عن انسحاب امحند العنصر، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، من أول اجتماع عقَدَهُ التحاف الحكومي، مباشرة بعد الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات الجماعية والجهوية. وقد كان سبب انسحاب العنصر من اجتماع التحالف الحكومي، احتجاجه على عدم منح رئاسة جهة فاس–مكناس لحزب «السنبلة» بعد اعتراض رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، على اقتراح محمد أوزين، وزير الشباب والرياضة المُقال من منصبه، لشغل منصب رئيس الجهة. وقد كادت أزمة الانتخابات تعصف بالتحالف الحكومي خصوصا عند تدبير تحالفات رئاسة الجهات وتوزيع الحصص على مكونات الأغلبية، وهو الأمر الذي تطلبت مفاوضاته سلسلة من الاجتماعات المكثفة من أجل التوصل إلى تسويات ترضي الأطراف، خاصة العدالة والتنمية والأحرار، في التوافق على تقاسم الجهات الأربع التي فازت الأغلبية فيها، فضلا عن الإشكال الذي يطرحه تموقع كل طرف في عدد من المدن الكبرى التي حصل فيها حزب العدالة والتنمية على أكبر عدد من المقاعد دون أن تحسمها بالأغلبية. محمد العمراني بوخبزة *: طريق تسيير الشأن العام لا تكون معبدة ورئيس الحكومة طور من أدائه في تدبير الأزمات – هل يمكن الحديث عن أزمة حكومية في ظل تنازع الاختصاصات التي عرفتها الحكومة خلال ولايتها وفي ظل التصريحات المتضاربة بين الأمناء العامين لأحزاب الأغلبية؟ مصطلح الأزمة نوعا ما ثقيل داخل النظام السياسي المغربي، فالحديث عن أزمة ربما قد يعطي انطباعا مفاده أن مرحلة التوتر الحاصلة قد تفضي لنتائج لا تحمد عقباها، ففي المجال السياسي المغربي هناك حدود للتوتر، لذلك أعتقد أنه لا يمكن تسميتها بالأزمة بقدر ما يمكن تسميتها بسوء التفاهم بين مكونات الائتلاف الحكومي، كذلك انطلاقا من طبيعة الائتلاف الحكومي كان من المتوقع أن تعرف الحكومة طيلة خمس سنوات من وجودها حالات من التنازع وحالات من التوتر، والدليل على ذلك أن الحكومة في بداياتها عرفت هذه الوضعية التي أدت إلى انسحاب حزب الاستقلال وتعويضه بحزب التجمع الوطني للأحرار. فهذا التحول على مستوى التكوين الحكومي فرض وصول الوضع إلى اختلاف في وجهات النظر في كثير من الأمور، أولا حزب التجمع الوطني للأحرار جاء من المعارضة لأنه كان عنصرا من عناصر المعارضة، بالإضافة إلى أنه كان في حالة اصطدام قوي بين حزب العدالة والتنمية خاصة في شخص أمينه العام إثر اتهامه بحصوله على «العلاواة» عندما كان متوليا منصب وزير الاقتصاد والمالية. إذ كانت هناك حملة قوية ضده، وبالتالي انضمامه للحكومة جعل أداءها في حالة ارتباك والدليل الخلاافات التي وقعت بين حزب العدالة والتنمية كحزب من خلال رئيسه وحزب التجمع الوطني للأحرار، سواء تعلق الموضوع بملف التنمية القروية مع أخنوش أو ملف الأساتذة المتدربين الأخير مع بوسعيد وكلاهما ينتميان عمليا لحزب الأحرار، فبمجرد انضمام هذا الحزب للتحالف الحكومي في الولاية الثانية كان في نقاش واسع، حيث من الضروري إعادة النظر في التصريح الحكومي الذي تم تقديمه في 2012 والذي كان تصريحا حكوميا لأربعة أحزاب العدالة والتنمية، التقدم والاشتراكية، الحركة الشعبية وحزب الاستقلال، لكن بعد انضمام حزب الأحرار في 2013 كان ولابد من إعادة النظر في التصريح الحكومي لكي يتم تضمينه وجهات نظر حزب الأحرار. وهذا لم يحصل ليعمل بعد ذلك الحزب على تنزيل تصريح بأن التصريح الحكومي لم يساهم في صياغته وهذا خلق بطبيعة الحال اختلافا في وجهات النظر ما بين وزراء التجمع الوطني للأحرار وبين رئيس الحكومة بالتحديد، فحتى على مستوى المفاوضات فانضمام هذا الحزب كان له كلفة والتي كانت في الواقع عالية تجاوزت حتى مطالب حزب الاستقلال لكي يبقى في الحكومة، إذ حصل على حقائب مهمة، وتمت إعادة هيكلة الحكومة بكاملها بالإضافة إلى إعادة النظر في الحقائب الوزارية وهذا ما أثر على الأداء والتجانس ين مكونات الأغلبية لا على مستوى الحكومة ولا على مستوى البرلمان بغرفتيه، واتضح هذا أكثر عند الانتخابات الجماعية بحيث أن التنسيق بين مكونات الأغلبية لم يكن، بل وأكثر من ذلك عمد حزب الأحرار إلى التحالف مع أحزاب المعارضة قصد تمكنه من التسيير أو المشاركة في تسيير مجالس الجماعات وكان سببا في عدم تمكن حزب العدالة والتنمية من رئاسة بعض مجالس الجهات، وهذا أيضا خلق جوا مشحونا في العلاقة القائمة بين الحزبين، وبالتالي أي مبادرة من حزب الأحرار ينظر إليها من منظور الشك والريبة من طرف رئيس الحكومة رغم أنه سبق له أن قال إنه يمتص بعض الأمور التي صدرت من طرف قيادات حزب الأحرار. – كيف تجدون تدبير رئيس الحكومة للأزمات التي تلقتها حكومته خلال سنوات ولايتها؟ الكثير من المتتبعين يعتبرون أن هذه الحكومة استنزفت قواها ومجهوداتها في تدبير الخلافات القائمة بين مكوناتها فبعد كل ملف يظهر ملف جديد وبالتالي كان هناك استنزاف للقدرات والمجهودات التي كان من المفروض توفيرها لتحسين الأداء الحكومي والعمل على إنهاء الأوراش الإصلاحية التي تم فتحها، ولكن لربما لاحظنا كيف أنه في كل مرة كان رئيس الحكومة يستفيد من التجارب السابقة، فدخول حزب العدالة والتنمية لأول مرة لتدبير الشأن العام ليس أمرا سهلا وكذلك حجم الاختصاصات التي أصبحت للحكومة في ظل دستور 2011 وبالتالي نجد أن رئيس الحكومة طور من أدائه في التدبير الحكومي، ونحن نعلم أن شخصية رئيس الحكومة شخصية صدامية ولكن مع مرور الوقت يظهر أنه أصبح قادرا على امتصاص حالات التشنج التي تقع بين مكونات الائتلاف الحكومي وقد لاحظنا أنه في الملف الأخير ملف الأساتذة المتدربين كان موقفه أكثر صرامة بالمقارنة مع الملفات التي سبقت، ولا أظن أن ما يقع الآن من شنآن بين حزب العدالة والتنمية وحزب التجمع الوطني للأحرار قد تكون له انعكاسات أكبر مما وقع الآن خاصة أنه كانت هناك محاولة لرص الصدع بين الطرفين بواساطة حزب التقدم والاشتراكية، وحضور أحزاب الأغلبية بمنزل رئيس الحكومة دليل على أن جميع الخلافات لم يعد لها وجود لدى جميع الأطراف، والحكومة المغربية مطالبة اليوم باستكمال ما تبقى من أوراش الإصلاح والقوانين التنظيمية ذات الخصوصية كقانون الإضراب وقانون الأمازيغية، بالإضافة إلى تهيئ الأجواء المرتبطة بالاستحقاقات المقبلة التي تعتبر تحديا كبيرا على مستوى الحكومة والمغرب بصفة عامة. – هل استطاعت الحكومة المغربية تنزيل أهم الإصلاحات الكبرى في ظل هذه الخلافات والتشويشات المستمرة؟ أستطيع القول إن طريق تسيير وتدبير الشأن العام لا يكون دائما معبدا أو مفروشا بالورود، لابد من اصطدامات وصعوبات تعترض الحكومة، وهي صعوبات عادية بفعل ثقل الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمالي للمغرب، كما أن هذه الحكومة جاءت في سياق حساس جدا حيث جاءت بعد الربيع العربي وبعد دستور جديد، وبعد رفع سقف المطالب الاجتماعية وهذا أمر عادي وربما المنهجية التي يعتمدها رئيس الحكومة في مواجهة بعض التحديات التدبيرية هي التي طرحت هذه الإشكالات وجعلت الأطراف المعنية بها تحس أن الحكومة غير جادة. – استحضارا لهذه المعطيات، ماهي السيناريوهات المفتوحة على مستوى الخريطة السياسية المقبلة ؟ بدأت الخريطة تتضح ابتداء من انتخابات 2015 الجماعية، حيث اتضح جليا أن هناك ثلاثة أحزاب أخرى تتنافس على مركزية الريادة، على اعتبار أن الهاجس الذي يحكم الأحزاب المغربية اليوم هو المركز الأول الذي يفضي لرئاسة الحكومة، فبالتالي هناك تنافس حاد بين حزب العدالة والتنمية والاستقلال والأصالة والمعاصرة وكذلك هناك نوع من التردد فيما يخص انتماء الأحزاب الأخرى للميل نحو ذاك الطرف أو ذاك، ولربما هناك ارتباك في الجهة التي ستتجه نحوها الأحزاب الأخرى باحثة عن موقع مع الأطراف الثلاثة، ونسجل أن حزب التجمع الوطني للأحرار يميل إلى التحالف مع حزب الأصالة والمعاصرة بينما حزب التقدم والاشتراكية ظل وفيا لحزب العدالة والتنمية. خمسة دروس مستفادة من أزمات حكومة بنكيران تفصح الأزمات التي تعيشها حكومة عبد الإله بنكيران منذ تنصيبها في يناير 2012 والتي مست تماسك تحالفها وتنسيق مواقفها السياسية أن هذه الحكومة التي تعتبر من ثمار تداعيات الربيع العربي لم تكن انتقالا نوعيا وحقيقيا أو تحولا تاريخيا فعليا في الحقل السياسي على سكة الانتقال والتحول الديمقراطي. وبينما قد يقرأ البعض في هذه الأزمات والاهتزازات التي عاشها تحالف الأغلبية الحكومية ظاهرة صحية تعيد الحياة للحقل السياسي الذي عاش لسنوات على إيقاع الركود، تكشف خلفيات هذه المحطات أن الحقل السياسي لا يزال يعيش على إيقاع التحكم وتداخل الأدوار والاختصاصات وغياب الوضوح في الولاء السياسي وتراجع حيز المرجعيات الإيديولوجية لصالح الحفاظ على التوازنات والاستقرار مهما كان عقيما وبدون نتائج. فهذه الحكومة لم تسلم منذ تنصيبها من أزمات وانقلابات ومؤامرات داخلية خلقت الجدل وأثارت النقاش بين مكونات التحالف الحكومي وبين متابعي الشأن الحزبي والسياسي. وتترك تجربة هذا التحالف الحكومي الذي تترقب مكوناته أكتوبر القادم من أجل إعادة توزيع وصياغة الخريطة السياسية مجموعة من الخلاصات والدروس المفيدة. استمرار نفوذ حكومة الظل لقد أفرز الخطاب السياسي لحكومة العدالة والتنمية في مواجهة المعارضة وتأثيراتها ومناوراتها معجما سياسيا جديدا كان عنوانه الرئيسي «التماسيح والعفاريت». هذا المعجم ليس في الحقيقة سوى مجاز يغطي على معضلة مزمنة تعاني منها تجربة الحكومة الحالية كما عانت منها تجارب حكومية سابقة (تجربة حكومة اليوسفي مع إدريس البصري مثلا). هذه المعضلة هي تحكم فاعلين سياسيين من خارج السلطة التنفيذية الرسمية المتمثلة في مكونات التحالف. فالنظام السياسي المغربي المتأسس على ازدواجية تاريخية بين المؤسسة الملكية والحكومة المنتخبة يضع هذه الأخيرة باستمرار في موقع تبعية وانقياد، بل ويظهرها أحيانا في صورة العاجز والفاشل، وبدل أن تتضافر السلطات وتتعاون مكونات الحقل السياسي فيما بينها تخرج أحيانا إلى حالة من الصراع والتنافس على المواقع والنفوذ. خلاصة تجربة الحكومة مع انفلاتات وزرائها سواء التقنوقراط أو الحزبيون على سبيل المثال تؤكد أن رئيس الحكومة ليس هو وحده المتحكم في توجهات وقرارات وزرائه واختياراتهم. تعثر تأهيل المشهد الحزبي وتنظيمه رغم مضي عقد من الزمن على المصادقة على قانون الأحزاب السياسية لم يسهم هذا الإطار التشريعي كما كان معلنا من حيثياته في إعادة تأهيل المشهد الحزبي وتنظيمه وتوضيح طبيعة تناقضاته الإيديولوجية والسياسية والفكرية. فلا تزال جل الأحزاب السياسية تسبح في فضاء سياسي غير واضح المعالم تتداخل فيه التوجهات والمرجعيات، وتذوب فيه الانتماءات والأطر الفكرية حد الانصهار، خصوصا بعد تراجع أحزاب اليسار من ساحة النضال السياسي وموقع المعارضة المؤثرة. هذا الفشل في تأهيل المشهد الحزبي عنوانه العريض هو العجز عن إفراز قطبية حزبية ثنائية أو ثلاثية تقود العمل السياسي وتحقق مبدأ التناوب الديمقراطي فعليا. الإصلاح الدستوري وحده لا يكفي من بين الدروس المهمة المستفادة من أزمات الحكومة الحالية وتحالفها ما يفيد أن الإصلاح الدستوري وحده لا يكفي، فرغم ما جاءت به وثيقة 2011 من مستجدات خصوصا فيما يتعلق بتوضيح المنهجية الديمقراطية وحسم طريقة وشروط انتقاء رئيس الحكومة وتشكيلها واختيار أعضائها، إلا أن الأزمات السياسية التي عاشها التحالف الحكومي بقيادة العدالة والتنمية خصوصا مع حزبي التجمع الوطني للأحرار والاستقلال تؤكد أن القانون ليس عصا سحرية ضامنة للاستقرار ولتقاليد ديمقراطية راسخة وقواعد سياسية ملزمة لجميع الأطراف. الظاهر أن العوامل المرتبطة بالثقافة السياسية للفاعلين في المجال الحزبي وكذا ازدواجية النظام السياسي وتعدد المتدخلين في الشأن العمومي تبقى عوامل حاسمة في مجال تنظيم القرار وصناعته. رئاسة الحكومة تعجز عن مأسسة ذاتها تعتبر الحكومة الحالية أول حكومة تمارس أعمالها وأنشطتها تحت إشراف «رئيس الحكومة» الذي عوض بناء على الهندسة الدستورية الجديدة منصب «الوزير الأول» في الصيغة الدستورية السابقة. هذا المسؤول التنفيذي منحه الدستور صلاحيات أوسع ومهام أشمل من الوزير الأول، إلا أن التفعيل السياسي والتقني لهذه الصلاحيات لم يسمح لعبد الإله بنكيران وحكومته بالتمكين لمؤسسة رئاسة الحكومة القوية والناجزة على الأقل في مواجهة أعضائها ووزرائها. تمرد بعض الوزراء على رئيس الحكومة كما هو الحال بالنسبة لوزير التربية الوطنية وكذا وزير المالية، وكذا تخلي رئيس الحكومة «طواعية» عن بعض صلاحياته ومنها مثلا سلطة التعيين في بعض المناصب السامية، أو تفويضه لتدبير بعض الموارد المالية إلى وزير في الحكومة رغم اعتراضه على ذلك، كل هذه الأمثلة دليل قاطع على أن الحكومة جاءت برئيس للحكومة لكنها لم تؤسس بعد لمؤسسة رئاسة الحكومة. القطبية الحزبية لا تزال حلما بعيدا يبدو أن طموح القطبية الحزبية والسياسية لا يزال بعيد المنال فقد بينت أزمات التجربة الحكومية الحالية أن الخلافات بين الأحزاب السياسية سهلة البروز والهيمنة على المشهد وأن ما يفرق أحزاب التحالف الحكومي أو حتى جبهة المعارضة يطغى في كثير من الأحيان على ما يوحدها. وهذا يظهر جليا في مختلف المحطات سواء التشريعية أو التنفيذية التي أثارت بعض الشروخ والفجوات في هذا التحالف سواء في حالة حزب الاستقلال الذي سرعان من انسحب من الحكومة عند أول منعرج خلافي بينه وبين الرئاسة، أو في حالة حزب التجمع الوطني للأحرار الذي جاء بديلا للاستقلال لكنه استمر في لعب دور المشاكس الذي يهدد بين الفينة والأخرى بالانسحاب أو تعطيل عمل الحكومة. هذا التعثر الذي ظهر في تنسيق مواقف أحزاب التحالف هو ذاته الذي يعيشه المشهد الحزبي الواسع الذي لا يزال ينتظر التأهيل نحو قطبية حزبية وازنة وفعالة مما يؤكد أن قدر البلقنة لا يزال عاملا ضاغطا على العمل السياسي وعلى مستقبل التحول الديمقراطي.