في مساحات إنسانية رحبة وبقلوب باذخة في عطائها وأريحيتها الشامخة، تتبدى أفئدة الصغار ملأى بالحبور والنشوة في فضاءات مدرسية حيث تحتبل بالفني الجمالي والمعرفي النمائي والرياضي الحركي والمسرحي الإبداعي ضمن رؤية استشرافية لطفل الغد بأبعاد إنسانية تواقة إلى النشء الجديد، تحيطها أركان تربوية وطفولية سامقة المعنى في عالم الطفل الذي يكبرنا بأميال وأميال من الخطوات البريئة نحو إنسانيته العفوية.. يعيش عالمه دون صخب ودون افتعال بل هو الألق السرمدي الذي يدوم في حياة الإنسانية رغم النسيان ورغم فقاعات اللامعنى في عالمنا.. تلك هي المدرسة. فضاء التربية – المدرسة من فضاءات المعنى الممتلئ زخما في برج طفولي يتغنى بالمعنى الثابت والحقيقي للإنسان. فسؤال تربية اليوم وطفل المستقبل، استشرافا لنموذج المعنى الإنساني اللامادي الذي يرسخ وجوده مهما طرأ من تغير في مناخات الصراع والانتقائية والفردانية في هذا العالم، هو الأمل الوحيد لوجود طفل يجسد معنى الصراخ الأولي لوجود جديد وضمن واقع تربوي يُجسد قيم الخير والنماء والاستمرارية.. بل هو وجود يُعوَل عليه، المنشأ الأول لأي مجتمع إنساني يبتغي الرقي والحضارة واحترام حق الطفل في تمدرسِ ملائم وهادف. من هنا المبدأ والمنتهى: أي تربية مستقبلية لأي جيل نريد؟ فالتربية قيمٌ وفنٌ وممارسةٌ وغاياتٍ تتجه نحو التنشئة الاجتماعية في كل جوانبها، وتحيط بالفرد إحاطة شاملة في واقعه الحالي ومستقبله الآتي، تؤسس له سُبل الحياة وفق منظور إنساني متكيف مع محيطه المحلي والكوني باحترام تام لمقتضيات الشخصية الإنسانية السليمة في معانيها الكبرى وفي مبناها الراسخ لتوالي الأجيال رقيا وتسامحا وحضارةً. تلكم هي تربية اليوم ضمن نسيج كوني جد متشعب ومتراكب المعنى والاحتمالات لمآل إنسان الغد.. نجدها في نماذج تربوية عالمية عديدة بكل بساطة وصدق في الفعل والعمل. المدرسة، ذلكم الرحاب الذي تبنى فيه العلاقات وتلتئم القلوب وتشرئب أعناق الصغار لرؤية عالم اليوم في حلته الطبيعية لغةً وتعلما ومرحا واستئناسا بعالم المعرفة الطفولي الذي لا يتجاوزهم إلى الكبار، بل هو فهم حقيقي للطفولة دون تعصب أو وصاية بائدة، ففهم الطفل في عالمه الخاص وفي مرحلته النمائية الطبيعية -بتعبير علم نفس الطفل- مرحلته الأولى الطبيعية، حيث يقترن النمو مع التعلم في توازنِ متناغم، فالطفولة أس محطات هذا الكائن التي تُبنى عليها جميع مراحل حياته إن إيجابا أو سلبا -إن تسامحاً واختلافاً أو تعصبا وفردانيةً-، ولا سبيل إلى خلق مسافة بينهما، وتليها الأجيال متعاقبة كما تم تأسيسها الأولي منذ جيناتها الطفولية الأولى. فلا يحق إلا الحق.. طبعا في فكر عقلاني متنور وفي عالمٍ متسامحٍ.. فالطفل هنا هو المبدأ لتشكيل جينات المجتمع، وهو الأساس الذي يلتئم بالأرض في تناغم تام بين الإنسان والطبيعة، وما الخلق الأول إلا تأسيسٌ لهذا المنهج الوجودي الأول. فالأمل الذي نستلهمه ونرسخه واقعا حقيقيا على الأرض بسواعد نقية ومخلصة همها الأساسُ قوة الفعل على أرض الواقع هو شأن كل المتدخلين في عالم التربية المدرسية، مستلهمين تجارب تربوية رائدة في عالم الطفل وفضاءات التنشئة والتكوين دون تمييز أو تنافر بين جميع روادها، ذلك هو المستقبل الذي نأمله. فكيف السبيل إلى الانتقال من الاعتراف بالعمل المدرسي ضمن مجتمع منفتح إلى قوة الفعل والاقتراح وتطوير النموذج؟ وفق نماذج دول رائدة في مجال التربية والتعليم والتكوين كاليابان مثلا، فكرا وسلوكً ومسلكا وانفتاحا وتكوينا، كيف؟ فالإطعام المدرسي وتهيئة الفضاءات واحترام أوقات التمدرس ومُرونتها وتعدد طرائق العمل ووسائل العملية التعليمية وانفتاح الأركان لمُرتاديها، ومستوى هندسة المدارس والنقل المدرسي والتعاون الاجتماعي في كل مناحي حياة الطفل مأكلا ملبسا ومسلكاً وحياةً مدرسيةً متكاملة، كلها أسسٌ وثوابت لنظم التربية الحديثة بغض النظر عن المجالية وجغرافيتها، بين الحضري والقروي، أو بين الشمال والجنوب، فالإنسان أُقْدر على العمل وفق نظم الطبيعة المختلفة. فالحياة المدرسية -بتعبير اليوم والهُنا والآن- هي جنة الطفل كيفما كان سنه أو جنسه أو مذهبه، وبغض النظر عن الطروحات السياسية وسجالاتها التي تربك كل العمل وتبقي رؤيتها لصيقة جدلية السلطة والمعرفة. لكن هل خلقت الوزارات الوصية مشاتل حقيقية للأطفال ضمن أوقات تمدرسهم؟ سؤال يحيلن على كيفية تدبير الهندسة التربوية بكل أبعادها بالعالم العربي عامة، وقد تندرج ضمن رؤية اختزالية وضيقة لمستوى المعارف والعلوم والمهارات التي سيكتسبها الطفل، طوال مساره الدراسي متناسين بذلك جوهر مرحلة الطفولة التي تُعاش كما هي، لا كما نُخطط لها عن بُعد أو عن افتعال في عالمنا نحن الكبار، فالرجوع إلى خصوصيات مرحلة الطفولة، والتي نادى بها المفكرون من قبلُ، هو أساس المشكلات التربوية الحالية. فعنفوان العمل المدرسي بكل مكوناته تظهرُ نتائجه إنْ عاجلا أو آجلا إذا استحضرنا البعد الإنساني وقوة الفعل -من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل- وخاطرنا من أجل رُقي الإنسان لأنه الثابت الوحيد في عالمنا دون لفٍ أو دورانٍ، فالتربية أُمُ الإشكاليات في العالم المعاصر.. فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائمُ..