في الصورة سيارة اليعقوبي محاطة برجال الأمن والمواطنين الذين هرعوا لمكان الحادث بعد سماعهم لاطلاق النار بإحدى أيام العشر الأوائل من شهر رمضان الحالي، رمضان العام 1429للهجرة، استوقف شرطي مرور بإحدى أحياء الدارالبيضاء الراقية، استوقف سيارة رباعية الدفع، لم يحترم صاحبها إشارة المرور، فطلب منه الشرطي تسليمه أوراق السيارة، فتمنع الرجل، ثم أرغد وأزبد، ثم ترجل من على "مركبته"، وأطلق الرصاص من مسدسه الخاص، ليصيب الشرطي إياه على مستوى فخذه الأيمن، وينهال عليه وهو مدرج بالدماء على الأرض، بالركل والرفس، المصحوبين بالشتم والقذف، على مرأى ومسمع من المارة المتجمهرين، المحملقين بمكان الحادث، والحائلين دون ذهاب السيارة بغفلة من حضور الشرطة. "" لم يكن الشخص، مرتكب "المخالفة"، من عامة الناس، حتى يتم اقتياده للمخفر مباشرة، ومساءلته عما قدمت يداه. ولم يكن من الأشخاص العاديين، حتى يتم استصدار أوراق هويته ومصادرة سيارته، وتسجيل محضر الواقعة بأفق ترجمة الرجل أمام المحكمة. لم يكن كذلك بالمرة، إذ حسن اليعقوبي هو زوج عمة الملك، ومن هنا، فهو أحد أعضاء الأسرة الحاكمة هنا بالمغرب. بالتالي فمن غير الوارد سلك المسطرة العادية بخصوصه، أو اعتقاله من باب الاحتياط وعلى ذمة التحقيق، أو تسجيل محضر معاينة، يسجل أسباب وحيثيات وخلفيات وأطوار الحادثة. ولما كان الرجل من الطاعنين في السن، ومصابا بأحد الأمراض العصبية المزمنة، قيل إنها تتأتى حصرا من الإدمان على الخمر القوي ومن المخدرات، فقد تضاربت الروايات، بين فرضية إدخاله إحدى مصحات الأمراض النفسية، وفرضية ترحيله لإيطاليا بغرض استكمال الاستشفاء، فيما ذهبت روايات أخرى إلى أن الرجل عاد للتو إلى منزله، كما لو أنه عاد من رحلة صيد عادية، يمارس طقوسه الاعتيادية كما تعن له، وبكل حرية و"نشاط" فوق كل هذا وذاك. ليس ثمة معلومات تؤكد مكان تواجد الرجل، تماما كما لا نتوفر على معطيات محددة، قد تمكن من استجلاء مآل القضية وآفاق تطورها. لكن المؤكد حقا إنما أن الشرطي الضحية لا يزال راقدا بإحدى المصحات الخاصة بمدينة الدارالبيضاء، معلقا بين الأمل والرجاء في إمكانية استئصال الجزيئات العشر، التي انشطرت من الرصاصة الأم، ولا تزال قابعة ومستقرة بفخذه الأيمن. إن الذي أقدم عليه حسن اليعقوبي، بسبب من الغضب الشديد المتأتي من حدة الإدمان، أو جراء أعراض اللاتوازن التي تصيب المتقدمين في السن، إن الذي أقدم عليه قصدا وبوضح النهار، لا يثير الاشمئزاز والتقزز فحسب، بل يستوجب الإدانة الصارخة والتنديد بالصوت العالي، على سلوك تجاوز الاحتقار الضمني والجلي، ليحيل على استباحة أرواح المواطنين "العاديين"، فما بالك لو كان أحد هؤلاء العاديين بلباس العمل الرسمي، مؤتمن على أمن وسلامة الناس في حلهم وتنقلهم وترحالهم. ليست حادثة إطلاق الرصاص على طارق محب الحادثة الأولى من نوعها، ولن تكون فيما يبدو لنا الأخيرة في بشاعتها، إذ سبق لابنة مستشار للملك سابق أن دهست بسيارتها شرطية استوقفتها، وسبق لأبناء وزراء ونواب وأعيان، مخمورين أو متجاوزين على قوانين السير، أن أردوا مواطنين قتلى، أو تركوا بأجسادهم ونفسياتهم عاهات مستدامة، فتم الاكتفاء في حالتهم بصياغة محاضر على المقاس، أو صدرت بحقهم أحكام مخففة (لامتصاص الغضب) لا يقضونها بالغالب الأعم، أو تم إعمال مسطرة التراضي قسرا وبالابتزاز، لتحفظ القضايا دونما الاحتكام إلى مقياس العقاب والزجر الناظم لفلسفة القانون. إن الذي تشي به حادثة الدارالبيضاء، كما ما سواها من حوادث شبيهة سابقة، إنما ثلاثة أمور كبرى من المكابرة الصرفة حقا، بل ومن النفاق التجاوز عليها، أو الادعاء بعكسها، أو التنطع بنقيضها، على خلفية من هذا الشعار والادعاء أو ذاك: + الأول، أننا لسنا بالقطع سواسية أمام العدالة وبأعين القضاء، فما يسري علينا من مساطر وإجراءات وما يفعل ضدنا من نصوص وقوانين، لا يسري بالمرة على غيرنا من أبناء طينتنا. فبإزائنا تنتصب قامة النيابة العامة، فستستخرج من نصوص القانون ما يديننا وإن بالتأويل، وتزج بنا بغياهب السجون، في حين لا تحرك ساكنا (وهل حركته بحالة اليعقوبي وغيره؟) عندما ترى أن المسألة تتجاوزها، أو هي بحاجة بشأنها لقرار، أو لإشارة من بعيد ومن أعلى. وبإزائنا يستنفر القضاة، فيقضون دونما ظروف تخفيف، أو استقراء دقيق ومتأني للخلفيات والظروف، ولا يطلبون لمؤازرتنا تقارير طبية، إن كان ضمننا مختل أو معتوه أو فاقد للتوازن النفسي والذهني. إن القضاء هنا لا يبدو انتقائيا، فاقدا للمصداقية والاستقلالية حينما يعمل المسطرة ضدنا، ولا يعملها ضد غيرنا، أقول لا يبدو انتقائيا فحسب، بل يتصرف كشاهد زور، يتحايل على الحقيقة، يلوي عنقها ليا، يعمد لإخضاعها للتأويل السلبي الممطط، ثم يرمي بها بأدراج الأرشيف، لتقبر ضمن السابق، بانتظار إقبار ما قد يلحق. + أما الأمر الثاني، فيحيل على مقولة دولة الحق والقانون، التي غالبا ما يتشدق بها البعض، بالتزامن ومقولتي "العهد الجديد" و "المشروع المجتمعي الحداثي الديموقراطي"، للخلوص إلى أن الحال قد تبدل، وزمن اللاعقاب قد ولى، وأن لا صوت يعلو فوق صوت القانون، أيا تكن الصفة أو المنصب أو المركز أو الحصانة حتى. كان بود المرء أن يصدق كلاما من هذا القبيل، فنحن كما غيرنا دعاة حق وقانون، لكن الأمر يبدو غير ذلك بالمرة، إذ محك الواقع ينبئ بالعكس تماما. فكل من لديه سلطة أو جاه أو مال، لا يقيم اعتبارا يذكر للمؤسسات، فما بالك للأفراد. وكل من لديه نفوذ أو واسطة أو مسلك قرب، لا معرفة له تذكر بما هو النائب العام، أو القاضي، أو المخفر، أو التحقيق، فما بالك بالسجن كمحطة عقاب. إنه يتصرف، كما بحالة اليعقوبي وحال المئات من أشباهه، كما لو أن الدولة "خلقت" لتخدمه وتحمي تجاوزاته، والمؤسسات أنشئت لرعايته والتغطية على شذوذه، والتشريعات سنت لتطبق على من أسماهم اليعقوبي إياه "بعوضا وحشرات"، حتى إذا ما تجرأ أحد وذكره بواجباته، جوبه بعبارات القذف والإهانة النابيين، ثم بإطلاق الرصاص الحي على جسده. + أما الأمر الثالث، فيرتبط بمسألة حصانة أعضاء الأسرة المالكة، وإعطاءهم ميزة خاصة، تعفيهم من المتابعة، أو تسقط عنهم العقاب في حال اختراقهم أو تجاوزهم على القوانين والتشريعات. بهذه النقطة أقول بالواضح الجلي، ودونما تملق أو نفاق: إن الملك الذي يحترم بسيارته الخاصة إشارات المرور، ويقف عندها تقديرا منه للقانون، ويحترم السرعة والأولوية بالمدار الحضري وبغيره، لا أخاله يتمنع في تسليم أوراق سيارته أو هويته إن أوقفه شرطي مرور، فما بالك أن يشتمه أو يهينه أو يطلق عليه الرصاص. ثم إن الملك، عندما يعمد، وهو أعلى هرم السلطة بالبلاد، إلى احترام قانون السير، فلأنه يتعامل بالشارع كمواطن عادي، له وعليه ما للمواطن العادي وعليه، على الرغم من سمو مقامه، وعلو مركزه، ورمزية صورته لدى الفرد والجماعة. ماذا عسى حسن اليعقوبي يقول، عندما يستحضر سلوك رئيس الدولة بالشارع العام، وماذا عساه يقول لضميره وبينه وبين نفسه الأمارة بالسوء، عندما يدرك أنه أطلق النار على شرطي مرور دقائق فقط على آذان الإفطار، بما معناه أن الشرطي بحصة مداومة، فيما الناس، كل الناس، مع أبنائهم فرحين آمنين حول مائدة الإفطار؟ ما الذي كان سيترتب على تسليم اليعقوبي لأوراق سيارته وهويته لشرطي عادي، وهو يعلم أنه حتى في حالة تجرؤ الشرطي إياه على سحبها منه، لن يعدم بالمرة سبيلا لاسترجاعها من لدن أعلى مسؤول أمني بالدارالبيضاء، إذا لم يكن من لدن المدير العام للأمن، أو من يدي وزير الداخلية شخصيا؟ إن حسن اليعقوبي ليس مصابا بمرض كورساكوف، إنه، كما العديد مثله، مصاب بمرض الاحتقار، المفضي للاستهانة، ثم للاستباحة بالكلام النابي في حقنا، ثم بالسلاح الحي في صدورنا. هو بحاجة لعلاج المرض الثاني، قبل مباشرة الاستشفاء من الأول. يحيى اليحياوي-باحث وأكاديمي من المغرب أنقر هنا لزيارة موقع الدكتور يحيى اليحياوي البريد الإلكتروني :[email protected]