مدينة الصويرة عالَمان. خلف فخامة فنادق الخمسة نجوم، والمطاعم الفخمة ومراكز "اللوكس" للماساج والبشاشة التي تنضحُ بها وجوه السياح الأجانب عندما يحطّون الرحال بمدينة "موكادور"، يختفي واقع آخر، سِمته البؤس والشقاء. وفي مقابل وجوه السياح الباسمة ثمّة وجوه أخرى في المدينة يسكن أخاديدها العميقة التي حفرها الزمن القاسي العبوس، وينبعث الحُزن من نظراتها الغائرة. أكثر الأماكن المعبّرة عن هذا الواقع البئيس هو مَرسى المدينة. في المدخل باعة يعرضون أنواعا مختلفة من الأسماك على الرصيف، وعلى قارعة الطريق. أقلّ ما يمكن أن يُقال عن الظروف التي تُعرض فيها الأسماك في هذا المكان أنّها غير صحيّة. في زقاق متفرّع عن الطريق المؤدّية إلى الميناء ثمّة عربات يعرض عليها الباعة الأسماك، وتتدفّق منها مياه نتنة مصحوبة بروائح كريهة. في الجهة المقابلة، وعلى طول سور قديم، أسراب من طائر النورس، تفترس الأسماك وأحشاءها التي يرمي بها بائعو السمك على السور؛ إلى جانب أسراب طائر النورس ثلاثة شبّان يقومون بتنظيف الأسماك التي يقتنيها الزبناء مقابل دراهم معدودات. هنا تختلط الروائح الكريهة بأحشاء الأسماء التي تُرمى كيفما اتفق والمياه الآسنة. إنه الوجه الآخر لمدينة "موكادور". على يمين الباب الرئيسي للميناء حوْض ترسو به أفلاك للصيّد؛ جنبات الحوض تبدو متّسخة، وتظهر من تحت المياه أكياس بلاستيكية ومتلاشيات، في الحوض نفسه يسبح طفلان، رغم برودة الجوّ وبرودة المياه، غير آبهيْن للمياه غير النظيفة، الممزوجة بعوادم أفلاك الصيد؛ أحدهما كان يسبح بقميصه الرياضي، ربما خوفا من أن تمتدّ إليه يد سارق إذا تركه على رصيف الحوض. عندما تعبا من الغطس والسباحة، نزع صاحب القميص قميصه وساعده الآخر على عصْره، ثم ارتداه وتبخّرا وسط باعة الأسماك وزوار المرسى، دون أن يغيّر السراويل القصيرة التي سبَحا بها. كلّما تقدّم الزائر نحو عُمق المرسى يكتشف مزيدا من مظاهر البؤس الاجتماعي. الوجوه تنضح بالبؤس والفقر، والملابس التي تشبه أسمالا ومعها المنظر العامّ للمرسى يؤشر بوضوح على الهشاشة الاجتماعية للعاملين بالمرسى، ولبائعي السمك. آخر شيء يمكن أنْ يفكّر فيه الراغب في اقتناء السمك من هذا المكان هو الشروط الصحّية. الروائح الكريهة تنبعث من كلّ مكان، وأكوام أحشاء الأسماك ورؤوسها مرمية في كل مكان؛ أما قارعة الطريق التي تُعرض الأسماك على جنباتها فقد استحالت بِركا مائية آسنة يلزمك أن تنتبه جيّدا إلى أين تضع أقدامك إذا أردت الحفاظ على حذائك من البلل، أو أن تسير على أطراف أصابع رجليْك. وسط جماعة من الرجال توجد ثلاث نسوة ملثمات، يعرضن بدورهنّ الحوت. كلما تقدّم المساء ترتفع وتيرة انهيار الأسعار. هم لا يبيعون كل ما يعرضون من أسماك، ولا أحد يعرف الظروف التي يخزنون ما تبقّى منها لبيْعها في اليوم الموالي. وسط الباعة رجل في منتصف الأربعينيات حسب ما يبدو من هيأته، الرجل يرتدي أسمالا، ويظهر أنه "متشرّد". ظلّ واقفا خلف كومة من السردين إلى أن بدأ المساء يرخي ستائره على المرسى ولم يبع شيئا، وعندما قنَط انحنى على كومة الأسماك وشرع في جمعها داخل سطل للصباغة. السياح الأجانب يأتون إلى المرسى، ولا يقتنون شيئا، يكتفون فقط بتأمّل هذا "الاستثناء المغربي". في مكان آخر، وغير بعيد عن المرسى، مجوعة من الكهول يلعبون الورق و"الضاما" في إحدى الحدائق؛ منهم من ترك مشاغل الحياة ومتاعبها ووضع عربته اليدوية التي يكسب بها قوتَ يومه جانبا، وانضمّ إلى زملائه في اللعب. بالقرب من المجموعة متشرّد أخذ قطعة خبز من كيس بلاستيكي به أغراض، وشرع في إطعام ثلاث قطط يبدو من خلال تعامله معها أنّ بينه وبينها علاقة قديمة. نعود إلى المرسى وقد بدأ الليل يرخي ستاره؛ ترسل مصابيح النور أضواءها في تثاقل فتترنّح على المياه، بينما يرتفع أذان المغرب من مآذن المدينة العتيقة. تظهر عجوز أجنبية متدثّرة برداء أسود وترتدي تنّورة بيضاء في حدود الركبتين وعلى ظهرها الذي شرع في الانحناء حقيبة صغيرة. تسير الهُوينا وتتأمل المشهد الذي يبدو من خلال مشيتها أنها ألفتْه؛ تتوقف عند أحد الباعة وتسأله عن ثمن نوع من السمك، يردّ البائع بفرنسية متعثرة، ثم تنصرف العجوز، وتكرر الأمر مع سيدة، الأخيرة لم تفهم شيئا، فتطوّعت امرأة تقف بالقرب منها وأجابت نيابة عنها. يمرّ شاب يبيع السجائر بالتقسيط ويبتسم للعجوز دون أن تكترث له، غير بعيد مرّت سيدة رفقة طفلة مراهقة بالقرب من بائع سمك شابّ، "ها هو جا ها هو جاء، خودي ليك شي عشيوة"، يقول الشاب مغازلا المراهقة، ثم يضحك. رغم البؤس ورغم كل شيء ما زال الناس هنا يضحكون. سارت العجوز إلى غاية نهاية رصيف المرسى، حيث يقف شرطيان بلباس رسميّ، وبين فينة وأخرى تستوقف أحد العاملين بالمرسى وتتجاذب معه أطراف الحديث، عند طرف الرصيف يوجد مرحاض عمومي، أو "مرافق صحيّة"، مثلما تشير إلى ذلك لوحة على باب المرسى؛ "المرافق الصحية" التي تشير إليها اللوحة عبارة عن مراحيض متعفّنة مُؤدّى عنها، تكسو الأوساخ حيطانها، ويسكن الذباب زواياها. لمّا تعبت العجوز صعدت أدراجا وتوقفت للحظات تتأمل الميناء من الأعلى، قبل أن تنزل الأدراج وتواصل السير، ثم توقّفت إلى جانب بائع سمك، يبدو أنها تعرفه. بعد تبادل التحيّة، قال لها الشاب ممازحا بكلمات فرنسية مبعثرة، وهو يشير إلى صديقه، "il cherche une femme etrangère pour…"، قبل أن تخونه فرنسيته ثم استعان بيده ليشرح ما يريد قوله، ورفعها في الهواء هيأة طائرة، إشارة إلى الهجرة نحو الخارج. وفيما كان المرسى يلفظ آخر زواره ابتسمت العجوز الأجنبية للشاب، فيما كان صديقه يضحك بخجل، ودخلت معهما في دردشة تحت أضواء الميناء الخافتة. يبدو أنها مُعجبة بهذه "العوالم العجيبة" التي لن تجد لها مثيلا في بلدها.