عندما تظهر الوسائط بفضل تطور الثورة التقنية التي تُعبر بدورها عن تطور العقل البشري في ابتكار ما يسمح للإنسان باستثمار نشاط عقله، فإن تلك الوسائط قد تحمل الخير كما الشر حسب طريقة استخدامها. لا يتعلق الأمر باستخدام الأفراد فقط، إنما بالاستخدام الاستراتيجي السياسي للأحزاب والدول. وتاريخ الابتكار الإنساني يضعنا باستمرار أمام الصراع بين الخير والشر، السلم والحرب، المحبة والكراهية، وكأن الإنسان يُحارب عقله باستغلال ابتكار عقله. عندما ابتكر الإنسان الصناعة مع عصر النهضة، وتحرر العقل من وصايا القرون الوسطى بأوروبا، وانفتح العقل على العلم والمعرفة والعمل والحقوق والحرية، واتسعت مساحات تحرك الفرد، بدءا من انتشار التعليم إلى العمل والمصنع، فقد حضرت الآلة وسيطا مُدهشا، ناب عن جسد الإنسان، وساعده في ما ثقُل عليه، وربما شعر الإنسان/الفرد أنه تغلب على وسيط الوصايا، وتحرر من قيدها، وربما لهذا السبب كانت الآلة مُدهشة، غيرت حياة الإنسان ونظرته لذاته وللعالم من حوله، وأرجعت إليه الثقة في عقله وفكره. غير أن الأمر لم يدم طويلا، فقد تطلب أمر المصنع نقل الوسيط الصناعي من الدهشة إلى اللعنة، بظهور الاستعمار واستعباد الدول ذات الثروات التي شكلت مواد خام المصنع، وسوق الاستهلاك ثم بعد ذلك مصنعا لتفريخ اليد العاملة التي ستبني بلاد عصر الأنوار والنهضة. ولعل شارلي شابلن سيظل أهم مبدع عالج في "الأزمنة الحديثة" المفارقة التي تخلقها الآلة بين خدمتها للإنسان وتدميرها له في الوقت نفسه. تُرافق كل ثورة ابتكار صناعي/تقني مستفيدين أصحاب مصالح اقتصادية وسياسية، والذين يُحصنون مواقعهم بنظريات وفلسفات تُعمق حدة التناقض في الابتكار الإنساني. نتذكر الجملة الشهيرة التي رافقت عصر الأنوار والنهضة وظهور المصنع وأرباب العمل والسوق والإنتاج والاستهلاك: "دعه يعمل، دعه يمر" التي شكلت فلسفة عدم التدخل الحكومي في الاقتصاد، وترك رجال الأعمال والمصانع والتجار يتحكمون في الإنتاج والعرض والطلب بدون مراقبة الحكومة، وهي فلسفة شرحها الاقتصادي الإسكتلندي "آدام سميت" في كتابه الشهير "ثروة الأمم"، الذي تم نشره في بداية الثورة الصناعية، وهي فلسفة تحمي مصالح صناع الاقتصاد، وتعمل على ارتفاع إنتاجهم بفضل الثورة الصناعية وتحكمهم في السوق، وتُخل بالمبدأ الحقوقي للعمال الذين تحولوا إلى عبيد في منطق المصنع وأربابه، مما أدى إلى التفاوت الاجتماعي، وارتفاع الفقر. ولعل من بين أكبر الأسباب التي أدت إلى انتشار هذه الفلسفة، هو امتلاك أرباب المعامل لأدوات الإنتاج، مما يُساعدهم على السيطرة على اليد العاملة والسوق والمستهلك، ثم فتح باب الاستعمار بحثا عن مواد خام وأسواق تستجيب للعرض. إن التذكير بمسار الثورة الصناعية وانتقال الابتكار من الدهشة إلى اللعنة، واحتكار المنتوج/المحتوى واختراق حقوق الإنسان والشعوب، هو بمثابة خلفية للتفكير في العلاقة بين الثورة التكنولوجية ووسائطها من مواقع اجتماعية وتطبيقات ومستخدميها. تعتبر الثورة التكنولوجية ابتكارا بشريا، يتجاوز به العقل الإنساني الثورات السابقة، ويدخل في تحد مع قدراته في إنتاج تقنيات تتجاوزه -في غالب الأحيان- في الجودة وسرعة التدبير. وهو مكتسب للبشرية التي تشهد أعلى درجات استعمال العقل في الابتكار. من شأن هذا الأمر أن يُسهم في إيجاد حلول لقضايا شائكة مثل التنمية، كما أنه يمنح للإنسان خدمات بأقل تكلفة، وبتدبير جيد وسريع. غير أن هذا الوجه المُشرِق للتكنولوجيا يتحول إلى نقمة بالاستخدام المُنحرف عن أهميته في خدمة الإنسان، والاقتراب أكثر من إنسانيته، والسماح له بحياة أكثر جودة، لكون التكنولوجيا تتميز بسخاء في إمكانياتها. ولعل من بين الأسباب في استغلال هذه الوسائط وتحميلها محتويات تُدنس إنسانية الإنسان، واستخدامها سياسيا لزرع الفتنة وبث مشاعر العداء والكراهية عِوض المحبة والسلام، على أنها أدوات إنتاج في يد كل مُستخدم، عكس الوسائط الصناعية التي كانت مُحتكرة من طرف رجال الأعمال والمصانع. هنا الفرق بين الأدوات الصناعية والأدوات التكنولوجية، لم تكن الأولى في متناول الكل، كانت حكرا على فئة معينة، تمتلك رأسمال والمصنع والشركة والسوق وتتحكم في الإنتاج والاستهلاك، مما جعل الأفراد من عمال وموظفين خاضعين لرب العمل ومدير الشركة. أما مع الوسائط التكنولوجية، فإن الأمر مختلف، باعتبار الوسائط أدوات إنتاج في يد كل مستخدمٍ، ويزداد الاستخدام وامتلاك هذه الأدوات مع سرعة الابتكار التكنولوجي، والظهور السريع للتطبيقات والوسائط وبجودة عالية، تُقدم كل الإمكانيات لجعل المُستخدم ينفتح أكثر على كل الاحتمالات الممكنة في تعبيره وفعله وسلوكه وقراره عبر الأدوات التكنولوجية. قد يبدو الأمر مهما بالنسبة لمفهوم دمقرطة أدوات الإنتاج، والتساوي في امتلاكها عبر الثورة التكنولوجية، بعدما دافعت الفلسفات عن الإنسان وهو يُواجه تحديات الآلة مع الثورة الصناعية، ويتحول إلى مجرد شيء في منطقها، وبعدما ظلت المؤسسات والمنظمات الحقوقية تُطالب بأحقية حماية الأفراد من بطش المتحكمين في الإنتاج وأدواته، ومنح الأفراد حقهم في التعبير، غير أن طريقة استخدام أدوات الإنتاج التكنولوجية، وتوريطها في استعمالات تُحول الإنسان إلى تجارة وشيء، وتحويل الافتراضي إلى أرض خلاء يتم فيه اختراق كل القيم الإنسانية، وتتغير فيه دلالات المفاهيم، ويتحول المستخدمون "المؤثرون" إلى وسطاء لحرق كل المكتسبات في حماية إنسانية الإنسان، وفرض العري على اللغة والقيم والتعاقدات الاجتماعية والثقافية والإنسانية باسم الحق في التصرف بدون ضوابط، ما دامت التكنولوجيا مانحة أدوات الإنتاج لا تُحاسب ولا تمنع، بل كلما كان الاستخدام اختراقا لإنسانية الإنسان، وعُريا للغة والكرامة كان المردود المادي أكبر وأكثر، تجعل هذا النوع من الاستخدام انحرافا خطيرا، لكونه يُوجه الذهنية الجماعية نحو تعاقدات ثقافية لا تُؤثر فقط على الحاضر، وإنما تُورط المستقبل في قضايا معقدة. كلما هيمن هذا النوع من المستخدمين "المؤثرين" هيمنت سلطة جديدة تبدو خطيرة جدا، قد تثير الآن الاستغراب أو حتى السخرية وضياع الوقت بالتسلي بها، لكنها تتوالد وتتناسل، وتجد دعما قويا من بعض وسائل الإعلام الإلكتروني الذي يتحول هو نفسه إلى سلطة ماكرة تلعب بالتعاقد الاجتماعي، وتأخذه إلى اتجاهات تحتاج المواجهة بتحليل الظاهرة، والتربية على ثقافة التكنولوجية استخداما وتفعيلا وتقاسما. عندما تتلاشى الضوابط، وينهار التعاقد، وتُغادر المفاهيم دلالاتها الإنسانية، وتتحول اللغة إلى حمالة للمكر والخديعة والزيف والعُهر والكذب والنصب، فإن الإنسان يتحول إلى مجرد شيء سواء باستخدامه أو استقباله لهذه الظاهرة. فكيف يمكن التفكير في تعاقد اجتماعي جديد مع هيمنة سلطة المستخدمين المسيئين للتكنولوجيا، الذين ينتشرون مثل وباء كورونا، يستفزون النظرة، ويدنسون اللغة، ويقتلون الحلم ويُعيدون الجملة الشهيرة" دعه يعمل، دعه يمر "بصيغة جديدة" دعه يستخدم، دعه يُدمر"؟