فى الثالث من شهر غشت الجاري2013 حلّت الذكرى الرابعة عشرة لرحيل أحد الشّعراء الكبار المجدّدين عبد الوهّاب البياتي، الذي كان قد ولد فى بغداد 1926، وتوفّي فى دمشق 1999 عن سنّ تناهز الثالثة والسبعين من عمره، ودفن حسب وصيّته إلى جانب ضريح محيي الدين بن عربي المرسي الأندلسي بدمشق. وبهذه المناسبة أعود لقراءة إحدى قصائده الرّائعة ، وهي " النّور يأتي من غرناطة" التي نقلت إلى اللغة الإسبانية إبّان وجوده فى إسبانيا، حيث كانت تربطني به رحمه الله صداقة متينة، وذكريات رائعة خلال هذه الفترة من حياته، ضمّنتها فى مقالين حول عن معايشاتنا فى الديار الإسبانية تحت عنوان:" مع عبد الوهّاب البيّاتي فى مقهى ابن عمّار" أنظر كلاّ من جريدتي (" هسبريس" بتاريخ السبت 22 يونيو 2013 ) و ("القدس العربي" العدد7281 الثلاثاء13 نوفمبر 2012) . فأقول : الشّعر هوس إنسانيّ الحديث عن الشّعرهو الحديث عن الحياة، بكلّ ما فيها من معان وأسرار وغموض ومفارقات،الحديث عن الشّعر هو حديث عن الكون الهائل المحيّر،عن عذابات النفس المكلومة فى متاهات الدنيا ومرابض الكينونة..الحديث عن الشّعر هوس إنساني ، وشجون لا يماثله سوى شجون الشّاعر إزاء العالم وأهواله،والدنيا وأحداثها. الشّعر نقمة الوجود لأنه كاشفه،وهو قيد الحياة، وديمومة متجدّدة، وخلق دائم لها. الشّعر أكثر الفنون هموما،وأخطرها بحثا،وأعمقها قضيّة،وأبعدها مراما، وأعلاها قدسية..إنه قلب الدراما كما يسمّيه " ريتشاردز" وهو الرّوح الهائمة فى غياهب الكون واللاّمحدود. إذا كان " برغسون" ينعي على اللغة قصورها الشديد فى التبليغ والإبلاغ، فإنّ الشّعر قد فتح الباب على مصراعيه أمام المبدعين لتفادي هذا العجز وبلوغ أرقى ضروب العطاء بتفجير هذه اللغة وتطويعها ، وإعطائها نفسا إبداعيا جديدا ، لأنّ الشّعر هو اللغة فى أرقى مظاهرها ، والشعر الذي أعني هنا هو الشعر بكل ما ينطوي تحت هذه الكلمة من مدلول وحيرة وغموض. هو الشعر الذي يهزّنا عند سماعه ، ويسمو بنا عند قراءته، والذي لا يرقى إليه سوى القادر على إقتحام شعابه ،وعوالمه،هو الذي ينفذ إلى أعماقنا، ويلامس شغاف قلوبنا وقلوب المحرومين والمحظوظين منّا على حدّ سواء. والشّعر ليس قصّة تروى، ولا منطقا يدرّس ، ولا فلسفة تناقش،ولا قولا يجري على ألسنة قادة كبارالعقول ،وهو ليس علما محدّدا، ولا غاية فى ذاتها، إنه كلّ أولئك جميعا، وما وراءها وتحتها ، إنه علم ما وراء العلم ، وهو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض ، وقلق وإغتراب،الشعر تحدّ لهذا الكون ولما بعده ، وهو ليس أغنية تسري فى نغماتها آهات العشّاق، ولا أنشودة تفصح عن شكوى المتيّمين،الشّعر ضرب من مناوشة الوجود،وهذه أبرز خاصّياته وأخطرها. والقصيدة الجيّدة تجسيد أبدي للوجود، تتعدّد فيها الدّلالات، وتتشعّب الرموز وتختلط وتتداخل فى تناوش بديع ،هي التي تكاد لا تقول أيّ شئ ، وهي فى الوقت ذاته تقول كلّ شئ . والشعراء أناس سيزيفيّون دائمو الحيرة والقلق والعذاب والسؤال عن كنه الحياة وأسرارها وتناقضاتها وغموضها. والقصيدة باقية بقاء الدّهر لأنها أبدا حيّة وحبلى بمختلف العطاءات ، وهي ليست وقفا على حاضر أو ماض أو آت، بل إنّها تطوى المسافات السّرمدية طيّا ، لتضرب فى عمق حياتنا الأولى، وينابيعها البعيدة، لتعايش كلّ عصر وزمان .هي التي أحالت أساطير الأقدمين إلى علم المحدثين ، إنها تعبير أخناتوني عن توحيد الجزء فى الكلّ والعكس. إنها مخلوق يدبّ على قدمين، وليس للشاعر عليها هيمنة ولا سطوة، لأنها ليست ذاته ولا حياته ولا تجاربه، ولا معاناته، ولا أحاسيسه وحده، بل إنها ذوات وحيوات وتجارب ومعاناة وأحاسيس الوجود نفسه،وما الشّاعر سوى جزء حيّ نابض من هذا الوجود. والشاعر دائم المقاومة والتحدّي ، شديد المراس،لا يؤخذ جانبه بسهولة ويسر . قال " مالارميه" " إنّ أرقى أنواع الشّعر هو الذي لا يرقى إليه الفهم سوى بقدر باهظ من الذكاء والفطنة ، والصّبر والمكابدة . والقصيدة الجيّدة حوار مع الكون، ومناوشة دائمة له، وإستكناه لما وراءه ، وتلك عملية صعبة ومركّبة تنطوي على مجازفة خطيرة لأنها بداية أحتراق وكيّ. القصيدة البيّاتية فى وقت مّا من عصرنا كانت القصيدة الجيّدة " بيّاتية" بإمتياز ،إلى جانب صفوة من جهابذة الشعر العربيّ الحديث، لأنها كانت عنوان هذه المكابدة والمواجهة والإستعداد الدائم للخوض فى أصعب التجارب الإنسانية وأسماها، والبحث المستمرّ، والترحال الأبدي فى دروب الدنيا، وغياهب الزّمن ومجاهله. إنّ الألم هو المحور الذي يحوم حوله الشاعر ، لم يعد الشّعر إذن مجرّد وصف، أو إفتتان بجمال، وإنما أضحى هو البحث عن وطن ضائع، أو عن مدينة لم تولد بعد، والشّاعر الفنّان دائم البحث عن القيم الجديدة .إن هموم العصر تملأ رأسه، و تثقل كاهله لأنها هموم ليس لها نظير ولا قرار تبتدئ بالإنسان وتقف عنده ، والشّعر ليس قصرا على التذوّق الفنّي، والإحساس المرهف، والتسامر أو الإنطواء أو الانتماء، وإنّما هو مواجهة صريحة للواقع ونقد له، وعامل من عوامل التحدّي والإدانة. يقول البيّاتي فى مقدّمة أحد دواوينه:" هناك بعض القصائد حاولت أن اطرح فيها موقفا جديدا يختلف عن المواقف السائدة فى العالم، فالإنسان اليوم فى إمكانه الدفاع عن الحرية دون وصايا وتعاليم وكتب، فأحيانا هناك تناقض بين الواقع والكتب ،بعض أبطال قصائدي يرفضون الوصايا ويطالبون بحريّاتهم الشخصية، إنّه عصر نضال الإنسان خارج الأيديولوجيات التي تهرّأت وإستهلكت ". هذه هي فعلا أهمّ القضايا فى معظم قصائد البياتي التي تقطر دما ودمعا، وتتفجّرآهات، ويصدق هذا بالتالي على قصيدتنا " النور يأتي من غرناطة"( وهي من ديوان الشاعر"مملكة السنبلة") التي قال عنها إبن عبّاس الصولي قبل كتابتها بقرون (!) :" كلامها حسن المعنى، سهل اللفظ،، عذب المستمع ، صعب ممتنع، عزيز النظير ،قليل الشبيه، بعيد مع قربه، حزن مع سهولته، جلّ الناس يقولون هذا كلام أحسن من الشعر ". تزاحم الأضداد منذ قراءتنا الأولى لهذه القصيدة نجدها تفجّر فى ذواتنا لوعة غريبة من تزاحم الأضداد، وتداخل المعاني،وإننا عند قراءتنا لها الثانية نجد أنفسنا أمام عمل محيّر يثير فينا تساؤلات أبدية ، ومشاعر حادّة لا نجد لها تفسيرا ولا تأويلا، لأنها مشاعر تسمو فوق كلّ تفسير أو تأويل. وإننا لدى غوصنا فيها للمرّة الثالثة قد لا نجد لنا مخرجا منها ولا مهربا لأنها تشدّنا إليها شدّا ، وتثير فينا من القضايا التي لا شكّ أننا فكّرنا فيها، وكوّنّا لأنفسنا رأيا بشأنها، إنها تقودنا إلى التفكير، وتبعثنا على التأمّل، وتحيي فينا الرّوح الراقدة الكامنة فى أعماقنا منذ الولادة الأولى..!. وتفجّر فينا مأساة ذلك الرجل الطفل ، إنها سفينة مثقلة بالرموز البعيدة الغور، المسرعة فى وجه الرياح،المحمّلة بالحقيقة، والجمال والإدانة والصمود فى تداخل غريب. فى هذه القصيدة يوقظ فينا الشّاعر إحساسا غريبا بالزّمن وفعله مع نوع من الحذر إزاء "الطفل المتكوّر فى قطرات المطر المتساقط فوق الصّحراء ، ولكن ليس أيّ صحراء، إنها الصّحراء العربية.. ! وما هذه الأفعال المتوالية القويّة الواردة فى القصيدة بصيغة التشديد سوى تأكيدعلى قيمة الحدث وجلاله، إنها تتوالى فى إسترسال، وإلحاح، ومعاودة. فإذا بالتكوّر، والولادة، والإلتواء ، والعودة، والخطف، والتخطّي والدوران والملاحقة والØ �نجراف والصيّاح والإندفاع والتوسّل والتوقف والبكاء والتعرّي والرحيل والوداع...إلخ. كلّ أولئك تأكيد على ما يعتمل فى نفس الشاعر إزاء الحدث، وهي بالتالي إفصاح عن معاناة حقيقية. إنّ أيّ تفسير لهذه القصيدة قد يفسدها، فالشّاعر يبحث عن بديل، إنه يدور حول الله وحيدا، وحول منازله فى الأرض، او عن حقيقة ضائعة، يلاحقه صوت كمان (أرقّ الآلات الموسيقية) يعزف عليه فى الليل آلاف العشّاق مثله المسكونين بنار الميلاد. ولكن على الرّغم من ذلك، فإنّ الموسيقى تجرفه فيصرخ وإذا بكاؤه بكاء إنساني ثمّ موسيقي أعمى (أيّ أعمى) إنه الأعمى الذي ينزف فوق الأوتار دما ، الباحث عن شئ ضاع، يدور وحيدا بصوته أو بصوت الشّاعر أو بصوت الآخرين، يصيح فتحمله الذروة نحو القرار نحو الهاوية..! فإذا به يبكي حاله ومآله، فهو المنتهى، وهو الرائي والمرائي فى آن واحد، ولكن فى سماء بلاد أخرى " فمن منّا يولد من جديد بعد أن أقفرت الدنيا وغاضت السماء.." ولكن سرعان ما تأتينا النجاة من النور الخالد المشعّ المنبعث من غرناطة الحمراء الباقية، وكذا من صوت غناءالإنسان الواحد والحبّ الموعود..! تحت شرفات غرناطة إن تداخل المعاني وتناوشها يضفيان على القصيدة عمقا دراميا مثيرا ، فمن هو العازف فى وحشة تحت الشّرفات الإسلامية فى غرناطة ..؟ الأعمى القديم.. أم الجديد ..؟ . ويفرض رمز المرأة فى هذه القصيدة نفسا قويا صاخبا كما هو الشأن فى قصائد الشاعر الأخرى ،والنهاية هي الخصوبة والبقاء ،هي الوطن، أو الأرض، هي الحلم ، هي الحياة،بأوسع معانيها وأنبلها، هي الأمل الناجي، وضوء الفجر الباسم،هي الحبّ ، وهي لغة يستولد منها وبها ولها ، هذه اللغة الكنه المتداخلة المتناوشة التي تغلف القصيدة وتجعل منها شكلا متماسكا قويّا، يحوي فكرا ثاقبا، وقيما جمالية رائعة. وما شأن هذا الطفل أو هذا الرجل الطفل" المترعرع فى القصيدة حتى يصبح حقيقة ماثلة أمام أعيننا، هذا الطفل المتكوّر اليتيم ، الرجل المسافر فالمترنّح تذروه السّحب البيضاء هباء، وما يبقى يهدمه أو يبنيه الشّعراء، ومن أين له بهاذين الضدّين البناء والهدم.. ؟! وتعود المرأة للظهور أكثر إلحاحا من ذي قبل ، إنها تبكي غربتها فى منفى لغة الرمز، ترى ماذا فعلت..؟إنها خانت، وسقط تاج الذهب المضفور على قدميها..! ويعود بالتالي بعودتها صوت الكمان رخيما حزينا رتيبا كئيبا كوقع الزمن، ليضيع فى عتمة الليل، ومتاهاات الصّخب، وزبد القرون. وليس الليل هنا المدّة المحدودة زمنيا فى عمر الساعات والمسافات ، بل إنه تعبيرعن وجود قائم، وكيان جديد يعزفه مآت العشّاق ، ولكن الشاعر لا يرتاح له لأنه يولد فيه، ولديه معنى التدمير ويلجئه إلى جدار الصيّاح الأبدي ، وهو عنده وتر مرتجف مقطوع يجرفه، فإذا به يزداد صيّاحا وهذه المرّة من أعلى الذروة ، من منّا خان و باع المرأة..!؟ إنّ فداحة الموقف لدى الشاعر لا بعد له سوى إيقاع مصحوب ببكاء إنساني حزين ، وموسيقى الأعمى النازفة فوق الأوتار دما التي لا تفتأ أن تعود فى كلّ مرّة كلاهما يرفع يديه فى صمت فراغ الأشياء ، وكلاهما يبحث عن شئ ضاع، ويزداد الصّوت إلحاحا وعمقا فى هذه المرّة حتى يتّخذ شكل صيّاح حادّ :" من، من، غرناطة خان، وباعَ عذابَ الشعراءْ.. وسنابل قمح الفقراء ..من منّا مات على الأسوار"..!؟ يا نائح الطّلح.. ويلاحظ أنّ الشاعر واقع تحت تأثير الشكوى الأبدية التي طالما فجّرهاالشّعراء المسلمون وغير المسلمين بالنسبة لهذا الموضوع غير أنّ شاعرنا يتخذ لنفسه موقفا مغايرا، فهو منذ البداية يسخر منهم ويعاتبهم..! خصوصا بعد أن أضحى التنائي بديلا عن تدانيهم ، وناب عن طيب لقياهم تجافيهم..، بعد أن ناحوا الطلح والعوادي..وتأسّوا على النافورة والوادي..! وبالتالي لابدّ للمرأة أن تبكي فى منفاها الأبدي، وتبكي لبكائها النافورةُ في قصر الحمراء. إنّ البياتي الذي يوضع بلا منازع فى مصافّ كبار الشّعراء (العرب) المحدثين فى هذه الرقعة الجغرافية المترامية الأطراف إنطلاقا من السيّاب، ونازك،وعبد الصّبور، وحجازي، وأدونيس، ودرويش، وصلاح إبراهيم وسواهم وهم كثر، يتفرّد بخاصية غريبة بينهم ، فهو حتى وإن تعدّدت مواضيع شعره، وتنوّعت إهتمامات قصائده، وإختلفت عناوين دواوينه، فإنه أبدا كان مخلصا لقضاياه الأولى التي كانت تفرض عليه فرضا، تفرضها ظروفه، ومعايشاته، وأقداره، مأساته، ومعاناته، فى مختلف إبداعاته والتي كانت تركّز فى الأساس على الحنين القاتل، والحزن العميق الموغل فى القلوب ، على هذه الحمّى الآكلة، وعلى هذا الإنسان المحترق، وأخيرا على هذا الشاعر المعنّى وحيدا ( وما قوله كذا ومعه الصّبر..!) ،المتشبّث أبدا ( بالقرطاس والقلم..!) أو بالحبر والورق، فى هذا المنفى الإنساني السحيق مع عذابه، ومكابدته ،وتأوّهاته، وجنونه، وصراخه، وصيّاحه، وصخبه ،ودأبه، وتيهه بين صروف الدهر، وسديم العدم . وبالجملة فإنّ شعر البياتي رحمه الله كان قلبه، ومضمونه،وعبقريته، وإختياراته، وشجاعته.هذا الشاعرالصّديق المسافر أبدا بين ليالي القطبين الحالك والأبيض ، والمتنقّل بين ربوع الفجر الدامي، القاني المخمور بجحيم معاناته الإنسانية ،ما بين عذاب شعره والموت.