الصحافيون الشرفيون المتقاعدون يسلطون الضوء على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية    التضخم السنوي في المغرب يسجل 2.4% في 2024    ارتفاع أسعار الذهب لأعلى مستوى في 11 أسبوعا وسط ضعف الدولار    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    "أزياء عنصرية" تحرج شركة رحلات بحرية في أستراليا    الكاف يؤكد قدرة المغرب على تنظيم أفضل نسخة في تاريخ كأس أمم إفريقيا    إحباط محاولة تهريب تسعة أطنان و800 كلغ من مخدر الشيرا وتوقيف ستة مشتبه فيهم    مراكش: توقيف 6 سيدات وشخص لتورطهم في قضية تتعلق بالفساد وإعداد وكر لممارستة    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    وهبي: مشروع قانون المسطرة الجنائية ورش إصلاحي متكامل له طابع استعجالي    تصريحات تبون تؤكد عزلة الجزائر عن العالم    حماس تنعى منفذ عملية تل أبيب المغربي حامل البطاقة الخضراء الأمريكية وتدعو لتصعيد المقاومة    ترامب يصفع من جديد نظام الجزائر بتعيين سفير في الجزائر يدعم الموقف المغربي في نزاع الصحراء    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    تداولات الإفتتاح ببورصة الدار البيضاء    تنفيذا للتعليمات الملكية.. تعبئة شاملة لمواجهة موجة البرد في مناطق المملكة    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    وزارة التربية الوطنية تبدأ في تنفيذ صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور موظفيها    الدريوش تؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمضاربات في سعر السردين    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    فرنسا تسعى إلى توقيف بشار الأسد    بنما تشتكي ترامب إلى الأمم المتحدة    كيوسك الأربعاء | الحكومة تنهي جدل اختصاصات كتاب الدولة    خديجة الصديقي    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    الكشف عن النفوذ الجزائري داخل المسجد الكبير بباريس يثير الجدل في فرنسا    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمملكة المغربية    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    نقاش مفتوح مع الوزير مهدي بنسعيد في ضيافة مؤسسة الفقيه التطواني    الكنبوري يستعرض توازنات مدونة الأسرة بين الشريعة ومتطلبات العصر    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    أمريكي من أصل مغربي ينفذ هجوم طعن بإسرائيل وحماس تشيد بالعملية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكرى: ينابيع الشمس في السيرة الذاتية للشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي
نشر في بيان اليوم يوم 21 - 11 - 2011

مرت على رحيل الشاعر المعروف عبد الوهاب,البياتي (1999-1926) سنوات عديدة اتسمت بصمت غير معهود، (توفي في 3 غشت 1999 ودفن حسب وصيته إلى جانب ضريح محيي الدين بن عربي بدمشق) بعد أن كان شاغلا الناس بقصائده ومقابلاته، التي احتوت على آرائه المثيرة للجدل والنقاشات الثقافية، وللحوارات والخصومات التي عرفتها المشاهد الثقافية العربية في مختلف أقطار العالم العربي، وبعد أن وضع علامات تجديد في الشعرية العربية وكان من أبرز رعيلها الأول وحارس مسيرتها، عقب خساراتها لشعرائها من أبناء جيله الذين ودعوا الحياة قبله، كالسياب والحيدري وقباني. والبياتي كما كتب عنه الناقد الدكتور إحسان عباس لم يكن شاعرا يقف به الشعر عند نقطة معينة، ويتحجر عندها، بل كان دائما مبدعا خلاقا متطورا، وعندما يرصد المرء تطور البياتي لا يستطيع أن يضعه ضمن حافتي نهر لاتساعه وتنوعه، وهو يتجدد ويتطور مع كل ديوان شعري جديد يصدر له.
المحزن أن موت شاعر ومثقف في عالمنا العربي لا تثير شجنا كبيرا في مساحات الثقافة والرأي العام ومؤسسات الثقافة الرسمية والشعبية وكأنها نهاية غير مثيرة وإشارة للنسيان والابتعاد عن الأضواء التي كانت موزعة عليه وحوله وعلى ما ينتجه ويؤديه من جليل الأعمال أو كثير الأفعال، ولذلك لا تشكل هذه النهاية المأساوية أكثر من قدر غاشم كتب على المبدع أن يختتم به ما كان شاغلا له أو به، حتى ولو كان الأمر غير مقصود في أحسن الأحوال. فلم تأخذ بذكراه المؤسسات الثقافية ولا زملاؤه أو مريدوه بشكل جدي وتتم مناسبات الإحياء له ولشعره الباقي بما يتناسب مع مكانته الشعرية أو موقعه في الساحة الثقافية وتاريخ النص الأدبي ودوره في تطوير الإبداع الأدبي والمشهد الثقافي. حصل مع معظم الشعراء الذين رحلوا عن عالمنا وتركوا كتبهم ودواوينهم وقصائدهم باقية ومؤشرة كعلامات لهم وللشعر وامتحان الذائقة والذاكرة الأدبية والشعرية والإنسانية، وإشارات دامغة لروح الإهمال والكسل والنسيان، في حسن الظن طبعا في هذه الحالة، وتصنيف الرفوف في المكتبات الشخصية والعامة دون فعل مؤثر، حيث انه غير مجد إيراد ذكر عابر بمقالة أو قراءة أو تنويه في صحف يومية سيارة، وكأنه رد واجب أو دين أو إملاء فراغ غير محسوب.
المهم والمقصود بمثل هذه الحالة هو التفكير الجدي بإبداعات الشاعر والأديب والمنتج الثقافي ودوره في الحركة الثقافية وما تركه من أثر ومكانة مهمة لأجيال تلحق بدربه، عبر وسائل وبرامج منتظمة ومسؤولة وقادرة على الإيفاء بحقه عليها، وحق الثقافة وروادها أن يحتلوا مكانتهم ومواضعهم الصحيحة في سجلات التاريخ، وصفحات المشهد الثقافي المتواصل. ومن ضمنها طبعا إعادة طبع إنتاجه الإبداعي، مع ضم وإضافة ما لم ينشر بحياته أو ما زال مخطوطا، حيث صار أثرا وعلامة لصاحبه ومبدعه، وللأجيال حق التمعن بما قدم لها وتمكن من التجديد والتواصل في إنتاجه وإبداعه، وتقديم الندوات والدراسات والاحتفاءات بذكراه وبأعماله ورسائله وأخباره ونشاطاته الثقافية والإنسانية العامة، كما هي ضرورة إطلاق اسمه على شوارع رئيسية في أكثر من مدينة وبلاد، وعلى مكتبات ومراكز ثقافية وقاعات شعر وأدب وثقافة، ونصب تماثيل له في ساحات عامة وتخصيص جائزة دورية باسمه، وغيرها مما يعيد للمبدع حقه على خلفه.
كانت أحاسيس الشاعر البياتي أو عقله الباطني يعلمه بدنو أجله ويحثه على إصدار ما يمكن نشره من قصائد شعرية جديدة ودراسات أدبية وسير إبداعية، كما شكل لجنة لجائزة شعرية باسمه للشعراء الشباب أصدرت عددا من المجموعات الشعرية. وقد صدرت مجموعة من كتب أواخر أيامه، من بينها: فتوحات البياتي المعروف بنور الشعر ومرآته، ودراسة شعرية للكاتب رافع يحيى عن الإشراقي والأرضي في قصيدة «صورة للسهروردي في شبابه للشاعر البياتي»، وكتاب المختارات من شعره للشاعر محمد مظلوم، وسيرته الشعرية التي عنونها بينابيع الشمس، وآخر مجموعة شعرية باسم نصوص شرقية، وكان عاكفا على كتابة نص شعري جديد بدأه قبيل رحيله الأخير. ولعل ما كتبه البياتي عن الشاعر صلاح عبد الصبور ينطبق عليه أيضا، أو لسان حاله، حيث رأى أن الشعر الحقيقي والنقد الحقيقي يبدآن بعد رحيل الشاعر: «إن صلاح لم يمت، بل رحل متخطيا الزمان والمكان لكي يولد في زمان ومكان آخرين.. فولادة الشاعر الحقيقي تبدأ بعد موته، لأن غبار المحبين والأعداء يتساقط ولا يبقى إلا الشاعر وحده في الحومة!، وبقاؤه في الحومة وحده، يعني ولادته من جديد، فالمحبون والأعداء قد يخلعون هالة، على هذا الشاعر أو ذاك في حياته، يصبح من الصعوبة اختراقها من خلال النقد».
حياة الشاعر عبد الوهاب البياتي وأشعاره وكتاباته حافلة بما هو أكثر من ديوان وكتاب ودراسة وبحث، إلا انه في سيرته الذاتية والشعرية اختصر للقارئ محطات مهمة من ثراء وغنى تنوع ما عاشه وشاهده في عصره، منذ ولادته الأولى في قرية منسية ونشأته في حي بغدادي عريق ودراسته وعشقه الفطري وتعارفه ومعرفته بالشعر والشعراء في بدايات انطلاق موهبته وإنتاجه الإبداعي، ومن ثم تنقله في شعاب المنافي والمدن والحب والعشق بين بساتين عائشة والنار والكلمات والموت في الحياة والذي يأتي ولا يأتي من ينابيع الشمس من ذهب الشعر ورماده. والبياتي في رحلته العامرة بالكثير ترك للقارئ ما توصل إليه الشاعر محمد مظلوم في مختاراته من شعر البياتي بقوله في تقديم المختارات: «إن تجربة البياتي يكمل لاحقها سابقها، ولكني توخيت من خلالها التأكيد على جانب «الغنى» والتنوع في هذه التجربة التي أسست بقوة لمشروع شعري متقدم، حاولت فيها أن اقرأ البياتي الكبير برؤيا خاصة، لحداثة شعرية امتدت شروطها الواضحة في المتن الشعري العربي».
أكد البياتي أن كتابته للمذكرات ككتابته للشعر، إذ كلما انتهى من كتابة قصيدة يشعر بأنه سحابة أمطرت كل ما عندها وظلت تنتظر موسما آخر لكي تستعيد عافيتها فتمطر من جديد. وقد كانت تجربته في العيش باسبانيا لعشر سنوات مرحلة ولادة جديدة، كما كان لانتحار الشاعر خليل حاوي وقعه في إعادة البياتي للشعر بعد انقطاع ومشاغل أبعدته عنه، ومن ثم عودته لوطنه ومرابع طفولته التي أعادته إلى نفسه وشعره وقراءته للآثار الباقية من الطفولة والمنافي والفراق والحنين، معيدا لما قاله الشاعر الكبير ناظم حكمت، شريكه في البلوى:
«هناك رجال يعرفون ألف نوع من
الأعشاب
وآخرون يعرفون أنواعا من
الأسماك
أما أنا فقد عرفت أسماء الفراق
هناك رجال يعرفون من الذاكرة
اسم كل نجمة
أما أنا فقد عرفت أسماء الحنين»
عرف البياتي أن «الذكريات المستقاة من المعاناة الذاتية والجماعية ومن التراث القومي والإنساني الذي يحيط بصاحبها، لا يتم اختيارها اعتباطا، بل إنها تتجمع كما تتجمع برادة الحديد في مواجهة المغناطيس، فالمغناطيس يلفظ كل العناصر الزائفة الأخرى التي ليس لها علاقة بمعدن الحديد. وهكذا الأمر في مقدرة الشاعر أو الكاتب على النفاذ إلى جوهر المادة التي يتعامل معها والتقاط ما هو صحيح وثمين فيها» (ص9).
في كتابه ينابيع الشمس، حدد الشاعر عبد الوهاب البياتي البواعث التي ساقته لإعادة كتابتها. وتجربة البياتي وبقامته الشعرية والإنسانية لا تحتاج إلى مسوغات عملية لتلخيص المعاناة التي عاشها حياتيا وشعريا، أو توصيف ما شاهده وما واجهه في رحلة عمره، أو ما كابده عبر سنوات حمله جمرات الإبداع والدفاع عن الإنسان العربي. ولكن الكتابة للسيرة الذاتية ليست لنفسه طبعا وإنما للأجيال التي تواكبه وتلاحقه وتخلفه، ولهذا جمع ما يستطيع المغناطيس القلمي منها، فأفرد لها في الفصل الأول، أو الصفحات الأولى تنظيراته، أو أسبابه، التي دفعته إلى الكتابة، مختبرا مشواره في خوض غمار التجربة الثقافية والروحية التي أدت به إلى الرحيل إلى أبطال الأساطير والتاريخ، الأحياء منهم والأموات، وفي مفترق طرقات العالم المختلفة، الصوفي والعاشق والمحارب والثائر والمفكر، وهو واع لمسيرته في حركة الإبداع التاريخي والفني وشروطها الإنسانية، مفسرا في أحايين كثيرة محطات حياته الشعرية، وتنقلاته بين المدارس والمذاهب الشعرية والأدبية، حيث الفاها ثراء لسفره بين الكلمات والإبداع والتأمل والتفكير الحر، وتوسعا لقاموسه الشعري الذي صنع له سلاحه إزاء معوقات مسيرته الشخصية أو طموح الإنسان التواق لآفاق أرحب من محيطه المحدود والمقموع.
بدأ بسرد أيامه الأولى التي واجه الحياة والشعر فيها من الحلقة الثانية، متطرقا إلى المؤثرات والحاجات التي تراكمت ودخلت عالم الإبداع الشعري، الطبيعة والمجتمع، العادات والتراث، الأصول والفصول، البدايات والقصيدة الأولى، ومن ثم المجموعة الشعرية الأولى، وردود الأفعال والمواجهات الحادة في عالم الأدب والشعر والعلاقات الثقافية والاجتماعية، زمانيا ومكانيا.
عاش البياتي أيام طفولة مشحونة بصور البؤس والمعاناة والموت، اثر فيها فترة من الزمن جده لأبيه الذي عمّر أكثر من مائة عام، وكان رجل دين وإماما واعظا، يتردد الشعر بين أحاديثه ومواعظه، كما أثرت جدته لأمه فيها أيضا، وكانت عمياء لكنها ذكية جدا تحفظ مئات القصص والحكايات الشفهية، إضافة إلى والده القلق، المغامر، والمضحي في سبيل الآخرين. رغم ذلك اعتبرها المؤثرات الأولى التي وجدت صداها في قصائده التي ضمتها مجموعته الشعرية الأولى: ملائكة وشياطين.
أضافت أغاني الفلاحين والحكايات الشعبية المنتشرة في الريف، معينا لزاده الشعري الأول، الذي تكون من تأثره بقراءة أشعار وحيوات الشعراء العرب من أمثال: طرفة بن العبد وأبي نواس والمعري والمتنبي والشريف الرضي، وكذلك قراءاته في منابع التراث العربي والإنساني والشعر المعاصر له الذي دفعه إلى المقارنة والكشف عن ثنائية كامنة في القصيدة الكلاسيكية الحديثة والبحث عن الالتزام والتأكيد على أهمية فنية التجربة وجمالياتها. أضافت له قراءاته الموسوعية لكل ما وقع بين يديه من كتب الأولين والمعاصرين، في مختلف الحقول الأدبية وألوان المعرفة الأخرى إمكانات أوسع في المقارنة والاجتهاد والإبداع والاستقلالية في البحث عن نقاط ضوء متناثرة في الغذاء الروحي، سواء في الكتب، لأنها خلاصة التجربة الإنسانية، أو في الحياة نفسها بما تدخره من تجارب عميقة، أو في الرؤية الشعرية، خاصة الصوفية التي انغمر الشاعر فيها، بمعناها الكوني الإنساني، لا بمعناها الديني، كما هو معروف من أشعاره.
وبعد تحديد مصادره الشعرية في كتابة نصه وضح إشكالية اختيار الشكل في حديث له مع ناقد أدبي. رد على أسئلته بموقفه من التقنية التي خرجت نصوصه بها أو موقفه من الكتب التي لم تكن معبرة وواضحة في موقفها ونفعها لقارئها في الحد الأدنى من نشرها، وذكر بعض الكتب التي يعود إلى قراءتها مرات من بينها: ديوان المتنبي، ديوان ابي نؤاس، سقط الزند لابي العلاء المعري، كتاب الأغاني، قصص تشيخوف، أشعار ومسرحيات لوركا، أشعار بابلو نيرودا، وجلال الدين الرومي، الفتوحات المكية لابن عربي. وعبر هذا التراكم الكمي والنوعي غمر ريشته بدم القلب وكتب نصه الشعري وأصدر مجموعته الشعرية الأولى وهو ابن أربعة وعشرين عاما ودخل باب القلق والفجيعة من أبواب الإبداع الشعري وسحر الحرف ودلالته الشعرية، كما سجل في هذه الحلقة من سيرته.
أما الحلقات الأخرى، من الرابعة إلى السادسة، فقد جمع بين أيام دراسته بدار المعلمين العالية ببغداد الخمسينات، وبين ما حصل له مع أساتذته وزملائه، ومنهم الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، وقصة تعارفهما بعد نشره قصيدة في مجلة «الرسالة» القاهرية المعروفة في حينها، وذكرياته عن أول دخوله إلى المدينة واسترجاعات طفولته، تلك الصور التي وجدها وكأنها لا تريد أن تبرح مخيلته الشعرية فتعود إليه في قصائد عديدة تلت فترتها الزمنية بعقود طويلة. ثم عاد منتقلا إلى المنافي والهجرة وتعرفه على أدباء عرب اضطرتهم ظروفهم إلى ترك أوطانهم والرحيل عن مرابعهم، أو كانوا في زيارات للمدن التي أمها مع شعراء أوروبيين وآسيويين آخرين. ومع ذلك لم تأخذ الغربة والنفي منه كثيرا، بل كتب إنهما منحاه الحصانة ضد التفاهة والعدمية والمجانية، ومنحاه القوة في مواجهة الشر والذل الكوني، كما جعلتا من قصائده شعلا زرقاء وورودا حمراء قدمها إلى القراء كلما حان موسم الأزهار والقطاف.
تنقّل البياتي بعدد من المدن العربية: بيروت، دمشق، القاهرة، ولقي حفاوات استقبال، منحته القاهرة منها حياة جديدة، كما عبّر، وولّدت من رماده شاعرا جديدا، واثقا من خطاه، فرحا بما لاقاه من تفهم وتقبل بين أوساط المثقفين والشباب منهم خاصة. ثم انتقل منها إلى موسكو التي أحبها وقدمت له معينا من الشعر وترجمات أشعاره، وما بقي منها في نفسه من ذهب الشعر والرماد وصداقات الشعراء والكتاب والدارسين لشعره. كما تذكر اسبانيا ومدريد في الحلقة العاشرة وارتباطها بوجدانه، وتعامله مع غرناطة في جدلية الموت والحياة، ورؤيته الجديدة التي تغيرت في ديوانه: «بستان عائشة» وطرحه لمفاهيم جديدة في النضال الإنساني أيضا.
لم يستمر البياتي في سيرته في تسلسل تاريخي، إذ أنه زاوج بين استرجاعات ولقطات موزعة من فترات أسبق مع فترات لاحقة، جامعا في حلقاتها كنزه، منتقلا بين إضاءة خلفية لحلقة في فترة ومحاولا الكشف عن الصورة التي لم يعطها حقها أو لم يفسر موقفه منها وتطوراته حولها، فعاد إلى قصة تعارفه مع السياب وما جرى بعدها من ظروف واجهها وحمته منها ما اكتشفه وقربه من ينابيع شمس العراق وعظمة شعبه الكامنة في المراثي وبكائيات سومر وبابل ومكتبة آشور بانيبال، وفي هجائيات المتنبي ورومياته وغزليات الشريف الرضي وفي موت بشار بن برد الفاجع... وغيرها مما ساعده على كشف العلاقة الجدلية بين الموت والحياة، أو صورة الحياة بعد الموت، حاملا حزنه وباثا إياه في قصائده المرثية لأعز أصدقائه: السياب، عبد الصبور، ناظم حكمت، حاوي، فرمان، لويس عوض وناجي العلي، وابنته، وفيها عبر عن معاناته ونضاله من اجل حياة أفضل تحترم فيها كرامة الإنسان والشاعر، كما سجل قصائد كثيرة له أيضا بعد وفاة ابنته في «كتاب المراثي»، الذي أعده مرثاة العصر، وفي كتابته على قبر السياب نموذجا:
اصعد أسوارك، بغداد، واهوي ميتا في الليل
أمد للبيوت عيني، واشم زهرة ألما بين
ابكي على «الحسين»
وسوف ابكيه إلى أن يجمع الله الشتيتين
وان يسقط سور البين
ونلتقي طفلين
نبدأ حيث تبدأ الأشياء
(من ديوانه: الكتابة على الطين)
كما استرد الشاعر البياتي خواطره عن رحيل شاعر منتحر احتجاجا على استباحة الأعداء لوطنه، ولم يجد بدا من روحه شارة لصرخة مدوية أمام الجرح العربي النازف:
حين انتحر الشاعر
بدأت رحلته الكبرى واشتعلت في البحر رؤاه
وحين اخترقت صيحته ملكوت المنفى
طفق الشعب القادم من صحراء الحب
يحطم آلهة الطين
ويبني مملكة الله
(نص من ديوانه: بستان عائشة)
ومعلوم أن حياة البياتي حافلة باللقاءات والزيارات والنشاطات الثقافية والأدبية والشعرية والاجتماعية أيضا، ولابد له وهو في صدد السيرة الذاتية أن يوثق بعضها أو الأهم فيها أو مما بقي بذاكرته منها، أو ما كتب عنها ودرس ونشر في الصحف والمجلات والدراسات، مثل علاقته بالشعراء السياب وناظم حكمت وروفائيل البرتي. أو زيارته إلى المكسيك ولقاءاته بالكتاب والشعراء هناك، من بينهم الشاعر ارنستو كاردينال، والروائي غابرييل غارسيا ماركيز وزوجة الرسام العالمي سايكروس والشاعر الكوبي فياض خميس. أو افتتاح المركز الثقافي باسمه باسبانيا بحضور الشاعر البرتي وجولاته في خرائط الشعر والحياة الأخرى. ويعود الشاعر دائما من تجواله إلى نهر دجلة ومرابع الصبا، ولكنه لم يجد بدا إلا من العبور إلى حرائق الشعر وكشف نفس الإنسان الشاعر في عصور الحضارة العربية الإسلامية العظيمة لإكمال الصورة عن السيرة الذاتية لشاعر كبير، رأى «هذا الانصهار والاحتراق والقلق الذي يفترسني ليل نهار، كما افترس من قبلي شعراء سومر وبابل وآشور وطيبة وبغداد ودمشق في عصور القتل والإرهاب والسحر الأسود وفي أزمنة النشوة والكشف والفتح والتجلي والبراءة والثورة أمام أضواء التاريخ، هو الذي ألقى بي في غياهب الجب هذا، ودفعني إلى إحراق كل الجسور التي تربطني بأعياد الأرض والى مواجهة جدار الإعدام» (ص149).
اختتم البياتي سيرته الذاتية بعرض آرائه الشعرية والثقافية بالأدب العربي وعلاقته بالآداب الأخرى، وموقفه من استخدام الموروثات الأسطورية والرموز التراثية، مؤكدا أن الثقافة الحية الحقيقية باعتبارها عملا إبداعيا هي ثقافة إنسانية تسعى إلى هذا المسعى، كما يسعى الشاعر إلى الاتحاد مع ذاته والآخرين من خلال عملية الإبداع.
والبياتي معروف في حدية آرائه وجرأته في إطلاقها من منطلقات شخصية أحيانا وإنسانية ريادية عموما، فلم يستغرب كما كتب في الحلقة الثامنة عشرة من «السقوط في الشعر العربي خلال السبعينات والثمانينات، وحتى التسعينات في نصفها الأول، مفسرا ذلك من خلال ما تتعرض له القضية الفلسطينية من قسوة وتآمر معتبرا إياها رمزا للذل الكوني الاجتماعي السياسي العسكري، ومعلقا على عدم تطور العقل العربي، مندهشا للغفلة السائدة والمدمرة للثقافة العربية وما بقي في العالم العربي. واستخلص أن «الشاعر الحق الذي لا ينشد الشعر وحسب، بل يبحث أيضا عن وسائل خلاص للإنسان العربي المستلب المحاصر الذي يقف على ارض محروقة» (ص160).
أعلن الشاعر في النهاية من ينابيع الشمس بحثا عن الحب والشعر وامتزاج حبه للمرأة بحبه للإنسانية والوطن والثورة حتى أصبح من المتعذر الفصل بينها وهو يطوف بوابات العالم وراء الحب الأعظم الذي كلفه حياته. فمجنون عائشة الأسطورية والتاريخية الذي ظل مسافرا وظلت عائشة تنتظره في كل زمان ومكان كان قد مات وعاد إلى الظهور ثانية، (لان السفر موت وولادة)... واستمر في حب عائشة التي ولدت في «ملائكة وشياطين» وواصلت الحياة في مجموعاته الشعرية وذاكرته حتى أيامه الأخيرة، مسترجعا فيها حالة صوفية جسدا وهياما إنسانيا مستعذبا. ركز البياتي موقفه بكلماته: «وظل فهمي للحب قائما على استيعاب ارضي وصوفي وأسطوري في آن واحد، ولهذا فان حبي لن يموت، والمرأة التي أحبها لن تغيب أو تموت أبدا، ذلك الحب الذي هو جوهر الوجود الفاعل، يبقى هو هو، أما الصور فتتغير»(163).
في ملاحظته الأولى على سيرته سبق البياتي اعترافه بان مناطق ومساحات ممنوع الاقتراب منها، ولهذا خلت هذه الصفحات من ينابيعه منها، وظلت حلقاتها مرآة لما أراد أن يقوله أو يعلنه للقراءة من بعده. وقد باح ببعض الأسرار للخلص من أصدقائه في أيام النزع ومعرفة سويعات الفراق الأبدي الذي لا قدرة عليه. ورغم ذلك فان الينابيع جزء من إبداعاته وصورة من حياته وضوء لمراحل مختلفة من سعيه في مملكة الله والإنسان في هذه الدنيا التي عاشها وشهد لها، مؤكدا على أن بستان عائشة هو جمهورية الشعر بالنسبة له، كما كانت لأفلاطون جمهوريته، حدوده بين هذه الأرض التي انبعثت كل الأديان السماوية فيها من مدائن صالح وأعالي الفرات وحتى الخابور، موطن العرب الأول، معتبرا ديوانه رؤية جديدة وعودة إلى ينابيع الطفولة وما تبقى في الذاكرة الإنسانية من الجغرافية الروحية للفقراء ومن الطواف حول قبور الأولياء والذبائح والنذور، رغم انه كتبه في الجانب الغربي من المتوسط.
ينابيع الشمس، السيرة الشعرية للشاعر العربي الكبير عبد الوهاب البياتي، رغم حجمها الصغير وحلقاتها المحدودة، تبقى غنية بصفحات ومحطات مهمة في تجربته ومواقفه من الإبداع والحياة والإنسان والثورة، كما أراد أن يعبر عنها ويدونها ويترك للقراء من الخلف والأحفاد من رمادها وذهبها، سلطت أضواء على غنى وتنوع مراحل شاعر كبير في عصر مملوء بالمرائي والأحزان والنكبات والجراح المثخنة، وأثارت من جهة أخرى الحاجات التي تبقى على النقاد والدارسين للشعر العربي التنكب للقيام بها، حيث في إشاراتها الرئيسية لتجربة شعرية رافدة ورائدة شكلت نقلة في الشعرية العربية والثقافة والإبداع العربي وأعطت للثقافة العربية والإنسانية نبضا جديدا وصيرورة إبداعية متواصلة ومتجددة مع التراث والحداثة الشعرية.
يظل الشاعر البياتي، أبو علي، بعد رحيله الأخير، وفي ذكراه، شاغلا موقعه في الشعر والحياة الثقافية العربية لأمد يتوازى مع دوره في الريادة والالتزام بالإنسان وقضاياه المصيرية، وتتجدد قصائده على ألسنة محبيه ومغنيها رغم حرائق الشعر والشعراء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.