بعد أن نفرغ الوُسع في صب جام غضبنا على المدعو دنييل غالفان فيينا الإسباني جنسيةً، العراقي أصلاً، الجاسوس/المُخبر نشاطا لأنه استباح براءة أطفالنا، وجب أن نشكره لأنه كشف عورات وأدواء مشهدنا السياسي من جهة وردّ الاعتبار للفعل الاحتجاجي الشعبي. وحيث إن القضية/الفضيحة أسالت مدادا كثيرا، مثلما أراقت دماء غزيرة، سأكتفي من جهتي بكلمات موجزة: 1. العفو اختصاص حصري للملك بمقتضى الدستور، كما هو شأن سائر حكام ورؤساء البلدان. والعفو عموما، آلية لتدارك هفوات في الأحكام أو استدراك بعد ظهور حقائق جديدة في ملف معين، أو مراعاة حالات انسانية، بناءً على مساطر واضحة وموضوعية دقيقة. 2. ليس عيبا أن يسعى ملك إسبانيا للإفراج على مواطنين إسبان، بل هذا من واجبه. لذلك، صرح المغتصب الإسباني بُعيد خروجه من السجن قائلا: "لا يعقل أن يزور خوان كارلوس المغرب مرتين ويظل دانيال في السجن". والسؤال: لماذا لا يسعى حكامنا العرب عموما للإفراج عن مواطنيهم، بل لضمان محاكمة عادلة: المتهمون في قضايا الإرهاب لدى الولاياتالمتحدة مثلا؟ والأدهى من ذلك، أنه، وفي حالة تبرئتهم أو إتمام محكوميتهم تتهددهم متابعات قضائية في أوطانهم. 3. من جهته، سارع القصر الإسباني لتنبيه المغرب إلى تفادي إقحام الملك خوان كارلوس في النازلة حفاظا على رمزيته وشعبيته التي اهتزت بسبب سفره خارج إسبانيا في رحلة صيد الفيلة، فقامت عليه قيامة جمعيات الرفق بالحيوان، وقيامة جمعيات الدفاع عن المال العام واتهامه بالتبذير في وقت اتخذت فيه إجراءات تقشفية بسبب الأزمة الاقتصادية. 4. فضيحة دنييل أحرجت المجتمع السياسي الإسباني، وشكلت قضية سياسية ساخنة في البرلمان الإسباني الذي توصلت كتابته بسؤال شفوي آني يستفسر عن الجهة الحكومية الإسبانية التي تورطت في طلب الإفراج على مُدان في قضية اغتصاب أطفال، وهو ما يجلب العار للمجتمع الإسباني ويمرغ سمعته في التراب ويتهمه عالميا باغتصاب الأطفال. 5. مقابل ذلك الحراك، البرلمان المغربي بغرفتيه أوصد أبوابه ورفع شعار: "العطلة للجميع، ولا داعي للسرعة، فالتأخر في الوصول خير من عدم الوصول". أما الأحزاب السياسية فجاءتها التعليمات العليا أن تبلع ألسنتها، ومن لم يقو على ابتلاع لسانه، فليطالب بفتح تحقيق لتحديد المسؤولية، وهو ما سارع له حزب الجرار قبل أن يلحق به حزب الكتاب. 6. قضية الإسباني دنييل مغتصب الأطفال فضيحة بكل المقاييس، فمن حيث طبيعة الجُرم اغتصاب الأطفال خدش في كبرياء المجتمع وهتك لعرضه؛ ومن حيث طريقة تصريفه توظيف العِرض وشرف الشعب مختزلا في ذوي الضحايا لاستجداء موقف في قضية وطنية مهما كانت استفزاز لمشاعر شعب ضحى ويضحي بالنفس والنفيس دفاعا على قضاياه المشروعة. 7. العفو على الإسباني الجنسية فضيحة كشفت عورات وثيقة دستورية لم تدقق الصلاحيات ولم تحدد المسؤوليات. لذلك، ومع انتفاضة الشارع، ارتبكت الجهات التي يفترض أنها معنية بالنازلة، ثم جاءت التصريحات والتبريرات متناقضة. وزارة العدل والحريات تبرأت، والمؤسسة الملكية المعنية المباشرة بالعفو تملصت من المسؤولية، أما جمعيات "ما تقيش ..."، فتوارت عن الأنظار، ولما اضطُرت مسؤولة للتوضيح طالبت بغلق الحدود المغربية أمام المغتصب: ما أقساها من عقوبة! حتى إذا تم التدارك من خلال إلغاء قرار العفو، عادت الكائنات الجمعوية ودون استحياء للركوب على القرار الجديد، بعد أن جف حلق ممثلة هذه الجمعيات "الكوكوتية" وهي تتهرب من الأجوبة على إحدى الفضائيات. صحيح: إذا لم تستحي فقُل ما شئت. تصوروا، مجرد تصور، لو أن النازلة اقترفتها الحكومة وظهرت مسؤوليتها المباشرة في هذه القضية، ماذا كان سيقع؟ أعتقد أن سقف المطالب "الشعبية" إن تواضع، سيطالب بإسقاط الحكومة. لذلك، وجب "شكر" الإسباني المغتصب لبراءة طفولتنا، لأنه فضح منظومة جمعوية أشبه بالنباتات الطفيلية تسارع للانتشار وتقدم لها كل التسهيلات، إلى درجة أنها تباشر "أنشطتها" قبل انعقاد جموعها التأسيسية لتملأ الفضاء وتوهِم المتتبع أن في المجتمع حيوية وقوة مدنية تتحرك وأن هامش مجرد استعمال كلمة هامش توحي بالتضييق على حرية التعبير والرأي الحريات توسّع، وهدف أهم وأكبر: قطع الطريق على القوى الفاعلة والحية أو التشويش عليها. 8. فضيحة دنييل الإسباني شكلت فرصة انتصرت من خلالها نُخبا مجتمعية مختلفة إعلامية وفنية وحقوقية للشرف والكبرياء المجتمعيين، وتشرفت بنيل حظها من الإهانة والضرب والسحل من طرف أجهزة يبدو أنها بُرمجت على القمع فقط. فتحية إكبار وتقدير لهذه الصفوة من الشعب، وتحية إكبار وتقدير لمن لم تُثْنهم العصي الكهربائية على مواصلة الاحتجاج والتنديد بقرار لم يراع للشعب حرمة ولشرفه قدرا. 9. أكدت النازلة الدنييلية ارتهان السلطة للمقاربة القمعية، فمهما اختلفت أسباب الفعل الاحتجاجي فأسلوب الدولة واحد أوحد: القمع والإمعان في إهانة الكرامة الانسانية للمواطن المغربي مُعطلين كانوا تنكرت الدولة لالتزاماتها بتشغيلهم، أو محتجين على تدني أو غياب الخدمات الاجتماعية وإخلاف المواعيد التنموية، أو أئمة مساجد حملة كتاب الله يشكون "حكرة" حماة قلعة "إمارة المؤمنين"، أو أساتذة ودكاترة مستأمنين على تربية الأجيال، أو أطباء أو متصرفين أو عاشقي كرة القدم حتى ومحبي الفريق الوطني المطالبين بتنحية إطار تقني يستقوي على الشعب بدعم جهات عليا له، أو ... الكل يُقمع ويُسحل ويسب على مرأى ومسمع من ممثلي وسائل الإعلام الدولية والمحلية، ثم يطلع وزير أو الناطق الرسمي باسم الحكومة وأحيانا رئيسها يصرح/ يشجب أنه لا يدري الجهة التي أصدرت أوامر قمع المحتجين المسالمين. 10. تدبير النازلة الدنييلية نحا في البداية أسلوب "الشخصنة"، وكما جرت العادة، وفي كل نازلة يقدم كبش الفداء قربانا لتدبير واختيار يسوق قمة الرشد والإلهام والتوفيق والسداد، حتى إذا تعثر، بُحث عن ضحية، وسُورع لإعفاء أو عزل بطعم الترقية؛ أما المحاسبة والمساءلة فلا توجد في منظومتنا التدبيرية. غير أن تفاعل الشارع وحجم الغضب والاستياء الذي خلفه التعامل القمعي للأجهزة الأمنية، وحيث إن النازلة شكلت أول احتجاج على قرار محسوب على الملك الذي يحرص النظام أن يظل فوق التجاذبات السياسية، فقد تطلب الأمر اتخاذ قرار شجاع وغير مسبوق في العرف المخزني حفاظا على مكانة الملك ومحوريته في الحياة السياسي؛ في ذات الحين يؤكد قيمة ونجاعة الحراك الشعبي في المعادلة السياسية. هي إذن سابقة في تاريخ المغرب السياسي أن يتجاوب النظام دون التفاف أو مراوغة مع مطالب الشعب الذي انتفض في شخص فئاته الفاعلة يحتج على قرار مُوقع من طرف أعلى سلطة سياسية. ترى هل هو استثناء أملته طبيعة النازلة أم أنه مؤشر على عدم تكلس العقلية المخزنية، وبالتالي قابليتها للتجاوب مع مطالب الشارع متى نضج الفعل الاحتجاجي؟