حكم زين العابدين بن علي جمهورية تونس بالحديد والنار، ورفع شعار محاربة الإسلاميين وتجفيف منابع التدين مقابل التنمية، وذلك ليحظى برضا الغرب عموما وفرنسا على وجه الخصوص، وليته طبق طرفي المعادلة بتوازن، لكنه غلّب الطرف الأول وغالى فيه، حيث عمل جاهدا وبمساعدة كل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على تجفيف منابع التدين، فكان مرتادو المساجد تحت أعين الجواسيس، والويل والثبور لمن سولت له نفسه الإكثار من صلاة الصبح في المسجد، وكان سباقا إلى حظر الحجاب، وبه اقتدت فرنسا، ووضع نظامُه الاستبدادي في أجندته منع مجلة "الوعي الإسلامي" التي تصدرها وزارة الأوقاف بالكويت رغم العلاقات المتينة التي كانت تربط البلدين حينها ... نجح زين العابدين بن علي نجاحا باهرا في أجرأة وتنزيل الطرف الأول من المعادلة، لكنه فشل فشلا ذريعا في الطرف الثاني منها، حيث كان النظام التونسي يسوق نفسه كعراب للتنمية الاقتصادية والريادة السياحية في شمال إفريقيا، وهي التنمية التي ما لبثت أن انهارت على رأسه وتبين أنها تنمية الواجهة فقط، حيث فضح الإعلامُ الواقعَ من خلال أحياء البؤس والفقر في كثير من المدن وعلى رأسها مدينة سيدي بوزيد. أُعجب كثير من المغاربة بالنموذج التونسي، وحاولوا تنزيله – قبيل انهياره في موطنه - في التربة المغربية مع تبيئته طبعا، وفي هذا الإطار، خرج السيد فؤاد عالي الهمة من وزارة الداخلية باستقالة شهيرة (زين العابدين كان وزيرا للداخلية أيضا)، ومباشرة بعد حصده للمقاعد الثلاثة بالرحامنة، استضيف في برنامج على المقاس في القناة الثانية (تشبه إلى حد كبير القناة السابعة التونسية)، وصرح من خلاله بمجموعة من الآراء والأفكار، أهمها أنه جاء بمعادلة من طرفين اثنين : مواجهة مشروع الإسلاميين، ومواصلة عجلة التنمية والتركيز عليها، وقدم لذلك بعض النماذج الاستثمارية التي حظي بها المغرب كمشروع رونو نيسان في طنجة، وهي المعادلة ذاتها التي افتخر بها زين العابدين بن علي وحاول تسويقها إقليميا ودوليا. وما أن نزل السيد فؤاد بجراره في مدرج البرلمان حتى حصد البرلمانيين حصدا، وجمع فريقا برلمانيا ضخما، ليؤسس فيما بعد حزبا سياسيا في سابقة ديمقراطية فريدة، حيث يؤسَّس الفريق البرلماني قبل حزبه (ولادة الابن قبل الأم). ومن خلال قراءتنا للأحداث، يتبين لنا أن السيد فؤاد كان يرتب لعمليته هذه منذ أمد، حيث كان على يقين أن كثيرا من الأعيان والكائنات الانتخابية ستلتحق به منذ الوهلة الأولى، لكن مشكلته الأساس أنها لن تفيده شيئا في محاربته للإسلاميين، لذا لا بد من نخبة مثقفة صالحة لهذه المهمة، وبحكم خبرته الميدانية وحنكته ودهائه، فإن أفضل قطع غيار صالحة لجراره هم اليساريون، لذلك حاول أن يتواصل مع بعضهم لجس النبض أو لطرح الفكرة أو لإظهار محاسن العهد الجديد علّهم يخففون من حدة تصريحاتهم أو يقدمون خدمات للنظام، وفي هذا الإطار كان يجتمع مع السيدين إدريس بن زكري رحمه الله وصلاح الوديع باعتبارهما قياديين في منتدى الحقيقة والإنصاف، وما أن تواصلت معهما اللقاءات حتى نزلا من مركب المنتدى في مؤتمره العام، وركبا مركب هيأة الإنصاف والمصالحة، وبعد ذلك تدفقت المهمات والمسؤوليات على الرجلين، وشُرعت لهم أبواب وسائل الإعلام، ولحق بمركبهم يساريون آخرون، (للإنصاف، نتذكر لقاء الهمة الشهير مع السيد محمد الساسي رفقة السيد محمد حفيظ، وإن كنا لا نعرف كثيرا من تفاصيل ما دار في الجلسة المطولة، إلا أننا نسجل للأستاذين عدم التحاقهما بالجرار، وتلك منقبة لهما). بعد هبوب رياح الربيع، رفعت شعارات ارحل في وجه بن علي في تونس، ورفعت شعارات مماثلة في وجه الهمة في المغرب، مما اضطره إلى فرملة وتيرة عمله، وذلك باستقالة شخصه وعدم استقالة مشروعه، لذلك نجد يساريي الحزب يقومون بالمهمة أحسن قيام، خصوصا في هذه الأيام، حيث يحاولون تنزيل الواقع المصري بعد إخفاقهم في تنزيل الواقع التونسي. بعد فوز الإسلاميين في انتخابات مصر، عمد الليبراليون واليساريون بكل أنواعهم وألوانهم إلى تشويه صورة الإسلاميين وإشاعة ثقافة الكراهية ضدهم أو ما يمكن تسميته بالعنصرية السياسية في حقهم، وهو ما أسفر تجييشا غير مسبوق في الشارع واستقطابا غير مسبوق في المجتمع، وعملوا بتعاون مع الفلول على عزل الرئيس الشرعي المنتخب بانقلاب عسكري، ليتبعوا ذلك بفرح وحبور كبيرين وبشماتة واضحة ظاهرة في قداس مذبحة القيم والديمقراطية. لم يبق المشهد حبيس الحدود المصرية، بل تعداه إلى المغرب، حيث أصدر حزب الأصالة والمعاصرة بيانا يشيد فيه بدور الجيش الذي وإن كان عمله مخالفا للقانون فيما يبدو، لكنه "يكشف عن حقيقة أن أي نظام سياسي يظل في حاجة إلى صمام أمان لتحصين الخيارات الكبرى للشعب"، وهذه عبارة خطيرة جدا، تبين مدى قابلية البام إلى مخالفة القانون مادام أن تلك المخالفة قد تؤدي إلى تحصين الخيارات الكبرى، ومن البدهي أن صمام الأمان لكل مجتمع هو الدستور المتوافق عليه النابع من استفتاء حر ونزيه، إلا أن البام يعاكس المنطق ويعتبر تصرف الجيش وتعطيله للدستور هو صمام الأمان. ولم يتقاعس كثير من كوادر الحزب وأطره في الفرح بالانقلاب والتهليل له ومحاولة الشماتة بأصحاب الشرعية، بل عملوا على إسقاط ذلك بتعسف على خصومهم في حزب العدالة والتنمية المغربي دون مراعاة الفوارق بين البلدين، لذلك قال صلاح الوديع : "إن ما يصدق على مصر يصدق على غيره (كذا) من البلدان التي تعرف التجربة الإخوانية بلا استثناء". ولعل الأستاذ سامر أبو القاسم هو أوضح من يعمل بجد على مصرنة المشهد السياسي المغربي، حيث يتحدث كثيرا عن حزب العدالة والتنمية ببعض الألفاظ والعبارات التي تتكرر كاللازمة في مقالاته في إطار ما يسمى بالقصف اللغوي، حيث يخلص قراء مقالاته في النهاية إلى قناعات مفادها أن حزب العدالة والتنمية : (حزب منغلق ومتقوقع - يقصي ويهمش باقي الأحزاب الموجودة في المعارضة - يسعى إلى تأزيم العلاقات مع الجميع - يعتمد الأسلوب الهجومي على كل الأحزاب والفاعلين السياسيين ...)، ليبشر القراء بالإخفاق المبكر للبيجيدي في هذا التمرين الديمقراطي، ليعمد في النهاية إلى تبخيس عمل الحزب الذي يحاول التغلب على الصعوبات والإكراهات الاجتماعية والاقتصادية بالدعاء والتضرع إلى الله !! والمتأمل في هذه الأساليب والعبارات لا يكاد يميز بينها وبين القصف الإعلامي الذي تمارسه قنوات الفلول في مصر بزعامة لميس الحديدي وهالة سرحان وباسم يوسف وغيرهم، وهي عبارات يراعي فيها ذ. أبو القاسم الجانب النفسي عند المتلقي حيث يعمل من خلالها على شيطنة الحزب وإشاعة الكراهية ضده بهدف تهيئة المجتمع للانقلاب على صناديق الاقتراع أو التأويل غير الديمقراطي للدستور. بعد هذا، ما العمل ؟ لا يقف الأستاذ أبو القاسم عند هذا الحد، بل يضع نفسه موضع الناصح المشفق على العدالة والتنمية، فيبين لهم أن "ساعة انسحابهم بهدوء قد حلت"، مما يفهم منه أنه قد يحين وقت انسحابهم بغير هدوء، وهو ما عبر عنه في مقال آخر بقوله : "نحن مضطرون (كذا) للذهاب بعيدا بخصوص عدم إضفاء الشرعية على العمل الحكومي العاجز عن امتلاك تصور واضح لما يمكن القيام به"، فما معنى اضطراره للذهاب بعيدا في عدم إضفاء الشرعية على الحكومة ! ألا توحي هذه العبارة إلى رغبة البام في استنساخ التجربة المصرية حيث تم إنزال الفلول والبلطجية إلى الميدان لعدم إضفاء الشرعية على مرسي ؟ لكن الأستاذ سامر أعياه أمر العدالة والتنمية، حيث لم يفهم بنكيران "وإخوانه في الله" تلميحاته وإشاراته، لذلك اضطر إلى التصريح بدل التلميح، وإلى العبارة بدل الإشارة، فبيّن أن البيجيديين لم يفوا بعهودهم التي تعاقدوا بها مع المجتمع، لذلك "لا بد من اعتماد منهجية البحث عما إن كان هناك نص قرآني أو نص حديثي أو نص مأثور عن السلف الصالح، نص قطعي الثبوت والدلالة على الحكم في نازلة بنكيران و"إخوانه في الله" الذين عاهدوا الله والمؤمنين فأخلفوا ولم ينجزوا". من خلال هذه العبارات، يريد أن يوجه الكاتب إلى العدالة والتنمية الضربة القاضية، على اعتبار أنه حزب إسلامي لا يلتزم بأية منظومة قيمية وأبسطها الوفاء، لكنه وبدل أن يستدل على خصومه الإسلاميين بنص قرآني أو حديثي حول الوفاء، ذهب بعيدا للبحث عن نص خاص ببنكيران، وهذا يذكرني ببدوي سأل إمام القرية عن نازلة تخص بنته، وأثناء الإجابة استدل له بحديث نبوي، لكن البدوي لم يقتنع بجواب الإمام بدعوى أن الحديث لم يذكر بنته فاطمة، وهكذا شأن الأستاذ سامر الذي لم يجد نصا قطعي الثبوت والدلالة خاصا ببنكيران، والفرق بينه وبين البدوي أن الثاني تعامل مع فقيه القرية بعفوية وسذاجة، أما هو فلم يقل هذا الكلام إلا توطئة لما بعده، وهو قوله : "وفي حالة ما إذا تعذر العثور على نص قطعي الثبوت والدلالة الخاص بنازلة بنكيران و"إخوانه في الله"، لا بد من البحث بكل الطرق عن نازلة مشابهة أو متقاربة، علّها تسعفنا في إعمال قياس الفرع على الأصل، والله ولي التوفيق فيما سنخلص له من تشابه في العلة، الذي ولا شك يلزمنا بالمطابقة بين حكم الأصل والفرع". عدم وجود النص الخاص بنازلة بنكيران ألجأ ذ. سامر مباشرة إلى القياس، (لعله لا يقول بحجية الإجماع لذلك قفز عليه)، وذلك ليقيس الفرع (العدالة والتنمية وبنكيران) على الأصل (الإخوان المسلمون ومرسي) من أجل مطابقة نفس الحكم (عزل بنكيران وتدخل العسكر مع قوى التحكم). أإلى هذا الحد يذهب جموح البام ؟ ومن هو برادعي المغرب ؟ اللهم حفظك.