« إنكار العلمانية جهل بالحضارة الحديثة، وإطلاق صفة الكفر عليها جهل بالعلمانية، والدعوة لدولة دينية جهل بحقوق الإنسان، والمناداة بالخلافة جهل بالتاريخ» فرج فودة « الذي يقرأ ويفهم، سيحاورني والذي يقرأ ولا يفهم، سيشتمني والذي لا يقرأ ولا يفهم، سينتصر علي » فرج فودة بنهاية هذا الشهر نكون على مشارف انقضاء ثلاثين عاما على اغتيال فرج فودة، الليبرالي العراف الذي تنبأ بحاضرنا. البقاء للأصلح لا للأقوى ذاك ما يقوله العلم؛ أما استعراض القوة: فن الإسلامويين، فليس سوى عنوان سذاجة وعدم التواضع في حضرة الطبيعة المحكومة بقانون التطور. لم يتردد هؤلاء في اغتيال فرج فودة الأعزل إلا من قلمه؛ مثلما لم تخف تياراتهم ابتهاجها بالحدث الذي اعتبروه علامة على تجذر طرحهم الرجعي؛ ولزم الجميع الصمت تجاه جريمة نكراء؛ بمن فيهم إخوان المغرب الموجودين اليوم في الحكومة وخارجها.. ولكن ما الذي استجد خلال هذه العقود الثلاث ؟ .. أفكار فرج فودة لا تزال ترفرف دون أن يحاصرها القبر؛ وأنصاره يتعاظمون، بل وصاروا أكثر جرأة منه في طرح أفكارهم على مختلف منصات التواصل الاجتماعي؛ والأهم؛ أن نبوءاته تتحقق واحدة تلو الأخرى وكأنها نهاية تاريخنا؛ فيما يتهاوى الطرح الإسلاموي وكأنه قصر من رمال. خطط الإخوان ومن والاهم للركوب على صهوة الربيع العربي؛ ثم بدوا فاقدين لمسوغات الصمود طويلا في حلبة روديو الزمن. (الروديو Rodéo رياضة شهيرة في أمريكا تتطلب من الراكب الصمود طويلا على صهوة جواد جامح) عند غزو عراق صدام للكويت الشقيق سنة 1991، صرح فرج فودة بشجاعة ناذرة ومعاكسة لتوجه العامة: بقاء صدام سوف يصبح مسألة وقت، وسقوطه سوف يصبح حتمية (شعبية)، ومقتله سوف يحدث على يد شعبه بعد وقت يقصر أو يطول.. وبهذا تنتهي القصة دون بطولات ولا عنتريات ثم أضاف قائلا: إيران ستحدث فتنة في العالم الإسلامي والعربي، وستستخدم ورقة الدين لمحاولة تصدير ثورتها وتوسيع امبراطوريتها، كما ستعتمد على الميليشيات الشبابية المسلحة، وستكون شرارة الفتنة بين المسلمين من خلال تقسيمهم لسنة وشيعة. وهذا ستتمخض عنه نتيجتان: إما انقسام العراق إلى عراق كردي سني في الشمال وعراق عربي سني في الوسط وعراق عربي شيعي في الجنوب.. وإما اتفاق على ديموقراطية واسعة تسمح بتمثيل الجميع وتسع لنظام حكم ذاتي حقيقي.. وجميع هذه الاحتمالات سوف تستغرق وقتا لن يقل عن عشرة أعوام، يغيب خلالها العراق دورا وتأثيرا على الساحة العربية والعالمية. فرج فودة الذي كان من أنصار السلام الأوائل في وقت كان يخون فيه كل من ينادي بالتطبيع، اعتقد واثقا بأن الصراع العربي الإسرائيلي في طريقه للتآكل، والسلام معناه وفق قوله: استعداد الدول العربية (المعنية) وإسرائيل للتعاون والتكامل والتبادل. الذي لا يفهم ذلك يغالط.. والذي لا يعلن ذلك يكذب.. والذي لا يتصور ذلك يخدع نفسه.. والذي لا يقبل ذلك عليه أن ينسحب من العملية كلها، ويتراجع قبل بدء الطريق.. وكل هذا سيتم فقط حينما سيتأكد العرب بأن عدوهم الأكبر هو الجماعات الإسلامية التي ستنحرف نحو العنف؛ حيث قال: في المستقبل سيدرك العرب أن الجماعات الإسلامية أكثر خطرا على شعوبهم من إسرائيل، وبكره هتقولو فرج فودة قال.. وبحسه الليبرالي رأى في شعار تطبيق الشريعة الذي نادت به هذه الجماعات سبيلا للفتن والحروب الأهلية، كما هو حال السودان الذي توقع له يوم إعلانه تطبيق الشريعة الإسلامية الانقسام؛ وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل. أدان فرج فودة بوضوح الانقلاب الإسلامي الذي أطاح بالحكم المدني المنتخب في السودان عام 1989 عكس الموقف الرسمي لمصر آنذاك، واعتقد جازما بأن ذلك سيكون مؤشرا على تحول هذا البلد حسب قوله: "إلى مستقر للأصوليين والإرهابيين، تحت شعارات الثورة الإسلامية." أما بخصوص تونس، فقد اعتبر ودون مواربة بأن حركة النهضة التي تبدو ظاهريا إصلاحية تخاطب العصر، هي في العمق لا تختلف في شيء عن مواقف الجهاديين. راشد الغنوشي في نظر فرج فودة خميني جديد لا حلم له سوى الجهاد في سبيل دولة الخلافة، وكل كتاباته تكشف عن كفره بالأوطان في مقابل إيمانه بعالمية الدعوة. لهذا تنبأ له بالفشل في حالة ما لو عاد ليلعب دورا سياسيا في بلده؛ بسبب تناقض مواقفه المناقضة لتطلعات التونسيين والتي لا علاقة لها بأحلام النهضة.. وبالنسبة لمصر، فتوقع دعم الولاياتالمتحدة للإخوان في حال وصولهم للسلطة وغض الطرف عن تجاوزهم للديموقراطية، وهو ما وقع بالفعل إثر إعلانهم الدستوري المثير للجدل؛ والعجيب أنه أكد بأن وصول الإخوان للسلطة لو حدث فلن يستمر طويلا، لأن طبيعة الشعب المصري لا تقبل بالحكم الديني.. وفي جميع الحالات سيفسح صعودهم ومحاولتهم السيطرة على حكم مصر المجال واسعا لعودة الجيش للسلطة؛ حيث سيعيشون مطاردين بعد فقدانهم للسلطة. سيحدث هذا في مصر وقد حدث فعلا؛ وسيحدث أيضا في إيران طال الزمن أو قصر وقف توقعات فرج فودة دائما، والمستقل هو الفاصل. ولم يستثن الرجل نفسه؛ إذ صرح أكثر من مرة بأن نهايته ستكون علي يد جماعات الاسلام السياسي، وأنه لا يخشي الاغتيال لأنه سوف يكون شهادة ناصعة البياض على صحة آرائه في تلك الجماعات التي تواجه الفكر بالرصاص.. فرج فودة فهم العصر لأنه كان ليبراليا.. لم يرفض الدين ولكنه رفض الحكم باسم الدين. نقد الدولة الدينية في رأيه لا يعني نقدا للدين الذي هو جزء من هويتنا، والفصل بين الدين والدولة هو أرحم بالإسلام والمسلمين، ولو تم العمل بدعوته لكنا تفادينا موجات الإسلاموفوبيا التي تجتاح أوروبا الآن. عبر الالتقاء بكتابات فرج فودة أشياء كثيرة تغيرت فينا؛ فالرجل المختص في الهندسة الزراعية له بفضل نزعته الليبرالية صيرورات أخرى جعلته المفكر الأكثر تأثيرا في الرأي حتى قبل ميلاد وسائل التواصل الاجتماعي. ولأن الحقيقة واحدة، فالرجل كان هو نفسه في كتاباته كما في حياته؛ ما جعله متفوقا على الجهابذة من أصحاب الصحائف ولغة الفكر العالمة، الذين بمجرد خروجهم من بذلة الكاتب والمفكر حتى يعودوا إلى طبيعتهم كأيها الناس.. يمارسون الحياة بنفس طقوسها المبتذلة ويكرسون نفس تقاليدها البائدة التي يدعون إلى تحطيمها في خطابهم العالم الذي لا تفهمه العامة.. فرج فودة على عكسهم جميعا كان عميقا وبسيطا، مفهوما للجميع؛ ولذلك وصل إلى وجدان الناس بسرعة؛ ما عجل بالحكم عليه بالردة ثلاث مرات؛ وكان ذلك بمثابة دعوة مفتوحة لتنفيذ حكم الإعدام في حقه.. الذين قتلوا فرج فودة ليسوا فقط من أطلق النار عليه، ولكنهم أيضا أولائك الذين أفتوا زورا بخروجه عن الملة، فأهدروا بفتواهم هاته دمه.. عودوا إلى شهادة شيخ الأزهر آنذاك وأيضا شهادة محمود مزروع عميد كلية أصول الدين الذي أعلن أمام المحكمة بأن فرج فودة مرتد، يجوز لأي فرد في الأمة تنفيذ الإعدام في حقه، إذا تقاعس ولي الأمر عن ذلك.. وقد اعترف أحد قتلته لقناة الجزيرة قائلا: قتلت فرج فودة لأن العلماء أفتوا بخروجه عن ملة الإسلام، فعلت ذلك لأنه عمل أتقرب به من الله، ولست نادما على أي شيء.. والحديث لا ينتهي هنا، فهذا المدعو أبو العلا عبد ربه الذي كان بائع سمك عندما مشاركته في الجريمة، سيخرج من السجن المؤبد بعفو من الرئيس المخلوع محمد مرسي، ليعود إلى عادته القديمة في حمل السلاح في مصر أولا، قبل أن يلتحق بتنظيم داعش في سوريا، وهناك سيلقى مصرعه في غارة جوية ضاعت فيها تفاصيل جثته وطواه النسيان، فيما انحفر اسم فرج فودة للأبد في ذاكرة أمة تواقة للنهوض والنسيان..