أُنشِئت المناظرات الفكرية لتبادل الأفكار، وللتحاور بالحجج والأدلة، وللنقاش الصحي المثمر، حيث ترمي إلى إفادة الجمهور ومساعدته على فهم وإدراك العديد من الأمور، إلا أن مناظرة جرت بداية التسعينات من القرن الماضي بمصر، لم تؤد إلى مثل هذه النتائج الإيجابية رغم القيمة الفكرية الكبيرة التي حملتها، ولم تفْض إلى اتساع رقعة استخدام الحوار بِقدر ما أدت إلى انحسارها.. مناظرة أثارت إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة..فكانت من الأسباب المباشرة لاغتيال المفكر المصري فرج فودة بعيار ناري لم يندم عليه صاحبه حتى الآن، كما أشار بذلك أخيرا في عدد من البرامج الحوارية، بعد أن خرج من السجن مستفيدا من العفو عنه. كما لو أنها تتحدث عن الواقع السياسي لمصر خصوصا، والبلدان الإسلامية عموما، بعد مرحلة ما يسمى ب"الربيع العربي"، حملت تلك المناظرة عنوان: "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، وقد أقيمت على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب في الأول من يونيو 1992، واستضافت عددا من المفكرين والسياسيين البارزين خلال تلك السنوات، هم الشيخ محمد الغزالي، المأمون الهضيبي، محمد أحمد خلف الله، محمد عمارة، و"شهيد" العلمانيين المصريين فرج فودة..واعتبرت كأحد أكثر المناظرات إثارة للجدل بين الإسلاميين والعلمانيين في تاريخ اللقاءات الفكرية بالمنطقة العربية. الدولة الدينية والديمقراطية الغربية محمد الغزالي، أحد أشهر الأئمة بمصر خلال النصف الثاني من القرن الماضي، انتقد خلال تلك المناظرة الديمقراطية الغربية، بالنظر إلى أنها قد تجيز الجنس خارج الزواج، وتبيح المثلية الجنسية كما أنها تحقد على الإسلام، معتبرا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رئيس دولة، وقائد جيش، إضافة لكونه إمام المسلمين، الأمر الذي يؤكد حسب قوله، وجود الدولة في الإسلام. وذهب الغزالي إلى أن الحضارة الغربية ما كانت لتستقيم إلا بما أخذته من الدولة الإسلامية التي تعطي لجميع الأقليات حقها، ومثاله في ذلك: الأقباط المصريون الذين وصفهم بأسعد أقلية في العالم. أما الهضيبي، الناطق الرسمي باسم جماعة الإخوان المسلمين سابقا، فقد لفت الانتباه إلى أن غالبية المصريين يدينون بالإسلام، ويحتكمون إلى الشريعة الإسلامية لتنظيم حياتهم، وأن ما ينقصهم دولة لا تنفك عن عقيدة الجماعة وتقوم بتنظيم أمورهم، مشيرا إلى أن القائمين على الحكم، يسألون الناس عن كل شيء، إلا عن رغباتهم الخاصة باختيارهم لمن يحكمونهم، ومشددا على أنهم كجماعة يريدون دولة مدنية تلتزم بالأصول والأحكام الإسلامية. وبخصوص محمد عمارة، فقد أشار إلى أن العلمانية قد تكون مبررة في الغرب لأن المسيحية ليست دولة، أما الإسلام، فبمقدوره بناء دولة: "لإقامة الاشتراكية، لا بد من حكومة اشتراكية، وكذلك الأمر بالنسبة لليبرالية، فلماذا تحرمون الإسلام من حكومة إسلامية؟ لماذا تحرمون المسلم من أبسط حقوقه..وأن يحكم بالقانون الذي يريد؟" يتساءل عمارة، أحد أبرز المفكرين الإسلاميين، مفيدا بأن ازدهار العلم لدى العرب أتى بعد الخلافة الراشدة، وأن الدستور الذي وضعه الرسول ميّز فيه بين السلطة الدينية وسلطة الدولة المدنية المحكومة بالشريعة. أما العلماني خلف الله فقد لفت إلى أن الدولة الدينية هي تلك التي يستمد فيها الحاكم السلطة من الله، وأن الأنبياء حكموا بين الناس ولم يحكموا الناس، خاصة أن القرآن الكريم لم يصف الرسول بأنه رئيس دولة على حد قوله، وأن المسلمين اختلفوا يوم وفاة النبي لعدم وجود نص ديني ينظم العملية السياسية، أما الشريعة، فهي تحكم علاقات الناس بعضها ببعض. حجج فودة التي أدت إلى مقتله ورغم وجود ضيوف علمانيين، فإن غالبية الحضور كان إسلاميا أو متعاطفا مع المتدخلين الإسلاميين، وكما يدل على ذلك فيديو المحاضرة الموجود على اليوتوب، فقد كان الهتافات تعلو ب "الله أكبر" كلما قدّم ضيف إسلامي حجة يراها الحضور قوية..وهو ما جعل مسير المحاضرة يطلب من الجمهور أن يساهم في إنجاح المناظرة عبر الهدوء والإصغاء، دون انتصار لطرف أو لآخر، خاصة بين فودة والهضيبي اللذان عقبا على بعضهما البعض كثيرا. "أعطونا مثالا على دولة دينية ناجحة، هل هي إيران؟ السودان؟ السعودية؟" سؤال قدمه فودة مؤكدا في البداية أن الإسلام الدين في أعلى عِلّيين، ولا أحد يختلف على ذلك، إلا أن الدولة، فهي كيان سياسي واقتصادي، وأن استخدام الدين في السياسة، يؤدي به إلى منزلقات ومزايدات خطيرة، معتبرا أن الإسلاميين لا يقدمون برنامجا سياسيا في الحكم، وأنه طوال ثلاث عشر من عمر الخلافة الإسلامية، فشلت جميع الدول الإسلامية في الحكم لغياب اجتهادات فقهية متطورة. "أليست العِبرة بالخواتيم، إذن كيف انتهت الدولة العثمانية؟ ألستم ضد الاستبداد، إذن حدثوني عن الاستبداد الذي أطاح برؤوس المعارضين طوال أكثر من ألف عام من الخلافة الإسلامية"، يقول فودة مستطردا أنه يَقبل أن تُهان الشيوعية وأن تهان الليبرالية لأنهما مبدآن سياسيان فيهما الصواب والخطأ، ولكنه لا يقبل أن يُهان الإسلام. ودعا فودة، في نهاية حديثه، الله أن يهتدي الجميع بهدي الإسلام، وأن يضعوه في مكانه العزيز، بعيدا عن الاختلاف والمطامع، ومبديا سعادته بمثل هذا الحوار لأنه "لا يوجد أحد على صواب مطلق..ولا آخر على خطأ مطلق". وانتهت الندوة بشكل عاد، إلا أن الإمام الغزالي خرج ليعلن أن فودة كافر ارتد عن الإسلام، متفقا في ذلك مع فتوى سابقة لعلماء الأزهر. بعد المناظرة بأسبوع، وتحديدا في الثامن من يونيو، ولمّا كان خارجا من مكتبه، لم يحس فودة إلا برصاصات تخترق صدره، ليسلم الروح إلى بارئها رغم محاولات إنقاذه بالمستشفى. سأل القاضي قاتله في المحكمة: لماذا قتلته؟ فأجابه: لأنه كافر، فعاد القاضي لسؤاله: وكيف عرفت أنه كافر، هل سبق أن قرأت كتبه؟ ليجيبه القاتل: أنا أمي، لا أعرف لا القراءة ولا الكتابة.