المناسبة: حين أقول لك: نَفتحُ النقاشَ في هذه القضية أو تلك من القضايا التي تخص حياتنا الاجتماعية، أو السياسية، فترد علي بالاتهام بالزندقة، وإهانة المقدسات، والمس بالقطعيات، وتؤلِّب عليَ مَنْ يعرف سوءَ نيتك، وخطَلَ مسعاك، ولا يبالي بدعواك، أفهمُ وقتها أنك انتقلتَ من «فقه النكد» الذي تتخبط فيه عادة إلى «فقه القتل». ما العلاقة بين الدعوة إلى مراجعة حكم شرعي والزندقة، يا رجل؟ إليك درساً في تاريخ النكد والقتل: سأحكي لك قصة قتل شيوخك للمفكر الكبير فرج فودة، وتذكر أنت كيف قتلتم عمر بن جلون. 1 - فقه النكد: الخوف من التاريخ «فقه النكد» عبارة محفوظة لشهيد الدعوة إلى الدولةِ المدنية والاجتهاد في الدين، المفكر المصري الكبير، والخطيب المفوه، والمناظر الذكي فرج فودة. يرى فرج فودة أن بعض العلماء والفقهاء أضافوا إلى الإسلام بابا جديدا يمكن أن يُسمى «فقه النَّكَد»، غايتُه الوحيدة سَدُّ كل أبواب الأمل، وتعكير الآفاق بشكل يمنع الفرح وينشر الغم والألم. وذكر عينات حية من هذا القَبيل، مما راج في بداية تسعينيات القرن الماضي، فمن ذلك: 1-1 فتوى لجنة الأزهر القائلة بارتداد الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، الداعية إلى إقامة الحد عليه، لأنه غنى أغنية شجية مطربة جاءت فيها عبارة: «جينا للدنيا ما نعرف ليه». فقالوا له: أما سمعت قوله تعالى: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون؟». يقول فرج فودة: «يبقى نَعدمْ محمد عبد الوهاب!» «ليه؟ نكد!». ثم يتساءل: «هل كان محمد عبد الوهاب يُلقي موعظة دينية؟!». ويكرر: «نكد..». والخلاصة عنده أن أصحاب الفتوى كرهوا أن يروا الفرح في وجوه الناس فنكدوا عليهم...الخ 1 2 قال فقهاء النكد: «غُرف الإنعاش حرام! فتوى لفقيه شهير في مصر». لماذا؟ لأننا بالإنعاش نؤخر لقاء العبد بربه. يقول فودة مستغربا: «يَا نْهار أسود! يعني لما تجيه أزمة نْسِيبوه إموت؟!؟ «يعني أبي لما تجيه أزمة أسرعْ لإلقائه من البَلَكونَة للقاء ربه!». ومن أصابته أزمة قلبية نتركه يموت لننكد على أهله وأقاربه؟ نكد، نكد، نكد... الفقيه الشهير المقصود عنده هو الشيخ متولي شعراوي، فقد شاع وقتَها أن الله ابتلاه بعد هذه الفتوى بمرض اقتضى تدخلا طبيا، فنُقل إلى لندن، فالتحقت به الصحافة المصرية وشَهَّرت به، فتراجع عن فتواه. هذا ما قرأناه وقتها في الصحافة، والله أعلم. ومن هذا النكد تحريم غسل الكِلي لأننا نؤخر بذلك لقاء العبد بربه، والحبيب بحبيبه، والأولى أن نتركه يموت لكي ننكد حياة أقاربه. 1- 3 عندما أعلن روجي كارودي إسلامَه، لم يحتفلوا به، ولم يسْعدوا به، بل طالبوا بامتحان إسلامه عن طريق الختان، وهو ابن 75 سنة، ليموت: «نكدْ... هل الإسلام نكد؟». 1 4 قالوا، وما زالوا يقولون: «الموسيقى حرام!.. بيتهوفن حرام». «الله! ربُّنا تبارك وتعالى خلق الطيور بتصدح لله، ما كان إخليها بكما! خلق الجداول لها خرير، ما كان إخليها بام بام... الموسيقى تطربك بتسعدك»، إذن هو يريد ينكد عليك. والخلاصة حسب قوله: «هذه ليست تعاليم الإسلام، هذا فعل المسلمين، هذا النكد من المسلمين. الإسلام رحمة، الإسلام ترويح عن النفس، الإسلام سعادة روحانية. إنما على يد البعض اليوم، وباسم الإسلام، يصبح الإسلام نكدْ». ويختم كلامه: «تسألني لماذا أنا حزين؟ أنا حزين لأسباب كثيرة، منها النكد». وينصح فرج فودة مخاطبه قائلا: إنْ قيلَ لك الموسيقى حرامٌ فأقبل عليها: «نكد بنكد والبادئ أظلم... «. هذه خلاصة ما جاء في حوار قصير مع فرج فودة موجود على النيت لمن رغب في الاستماع إليه والتمتع بصوته الحي. ورحمهالله، وجازى قاتليه بما يستحقونه. وكان أحد الشيوخ المغاربة قد دعا لهم بالرحمة، فأخذه الله أخذ مقتدر. وقد قرأت في الصحافة هذا الصباح (27/12/2013) ما يلي: «نشر ع.ح. أحد من يعرفون بشيوخ السلفية الجهادية، والذي غادر السجن مستفيدا من عفو ملكي، شريط فيديو بمناسبة اقتراب رأس السنة الميلادية: حذر فيه من الاحتفال بهذه المناسبة، أو تهنئة المسيحيين بها: «نحذر إخواننا ومن يصنع الحلويات، ويبارك لليهود، ومن، ومن..، فإن معنى ذلك أنه يقرهم على دينهم، فليحذرْ. اجعل الإسلام في كفة ومباركة اليهود والنصارى في كفة»، يقول ح. م مضيفا أن النبي (ص): كان يأمرنا بمخالفة اليهود والنصارى، والله يقول: «لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء...» يقولون: سنة سعيدة! أي سعادة هذه؟ بل ويباركون لهم، وأنت حين تبارك له، وتدعو له بالسعادة، معناه أنك تقره على دينه، لذلك قال العلماء: هذا حرام، ومن تشبه بقوم فهو منهم». حلِّلْ وناقش، ففي هذا الكلام الكثير من الرسائل الصريحة والمشفرة، للقريب والبعيد. تعميم: في باب فقه النكد يدخل تدحرج الأصوليين عامة، والدينسيون منهم خاصة، وراء التاريخ: يُحَرِّمون كلَّ جديد ثم يتهافتون عليه: حرَّموا التلفون، لأنه من عمل الشيطان وخوارق الجان، ثم سبحوا في الأنترنيت وأصبحوا أقبح تجار الفضائيات السارقين لأرزاق ملايين المغفلين عن طريق الرسائل القصيرة والمكالمات الطويلة، وحرَّموا «وابور البر» (القطار) ثم سَكنوا الطائرات العابرة للقارات، بل حرموا القهوة ثم صاروا أكثر محتسيها، ... وحَرَّمُوا الأحزاب والبرلمانات والديمقراطية وصاروا أكثر متملقيها. وحرموا تعليم البنات وخُروجَ المرأة للعمل وما زالوا يحاولون إرجاعهن إلى حمى شهواتهم مستعينين ببعض المستلبات من الذكوريات المسترجلات. حرمهم الله من الخيال والقدرة على رؤية المستقبل فصاروا عبئا على تاريخ البشرية، يخربون من أجل السيطرة. حين تَعترضُ على سخافات فقيه النكد أو تتهكم من مفارقاته يتحول فورا إلى «فقيه قتل»، إلى سيف، أو بندقية، أو عُبوة ناسفة، كما سترى. 2 - فقه القتل، أو عاقبة الحوار مع المتطرفين سبقَ أنْ حَلَّيْتُ فرج فودة بمجموعة من الخصال الرفيعة في مستهل هذا المقال، وهي قليلة في حقه. وما على من استكثر عليه تلك الخصالَ والتَّحْلياتِ إلا أن يستمع إليه، (على اليوتيوب، وفي كتاب مطبوع على النيت) وهو يقارع دعاة تطبيق الحدود الشرعية («كُلاًّ» و»الآن») في مناظرة لم يعرفِ القرنُ العشرون نظيرا لها. كانت تلك المناظرة قنطرةَ العُبور من فِقْه النَّكَد إلى فقه القتْل، ولذلك سنرصد عواقبها الآن، أما مجرياتها فلها مناسبة أخرى أوسعُ، وأغنى وأنفع، بحول الله. دارتْ ندوة «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية» في جولتين: احتضن أولاهما معرضُ الكتاب بالقاهرة سنة 1992، ودامت ساعتين ونصفاً. شارك فيها محمد الغزالي ومامون الهضيبي ومحمد عمارة نيابة عن المدافعين عن الدولة الدينية، وفرج فودة ومحمد خلف الله عن المدافعين عن الدولة المدنية. وجَرتْ الجولةُ الثانيةُ منها، بعد شهور، في نادي المهندسين بالإسكندرية. ودامت أربع ساعات، شارك فيها محمد عمارة وسليم العوا، عن الطرف الأول، وفرج فودة وفؤاد زكريا عن الطرف الثاني. تعددتِ العُروض والاعتراضات، وجاءت لحظة الحسم فصاغ محمد عمارة ثمانية أسئلة تفتش في العقول والضمائر كما يفتش المخبرون في البيوت، على حد تقويم الفيلسوف فؤاد زكريا لها، أسئلة تتلخص في: أيها العلمانيون! هل أنتم مسلمون؟ هل تؤمنون بصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان؟ لم يبالِ فرج فودة بطابعها الكيدي، بل أجاب عنها بلباقة قائلا: نعم، الدين عقيدة وشريعة، نعم نؤمن بالعقيدة والشريعة. ولكننا نرى أن الشريعة تتعلق بتدبير الحياة المتجددة. ولذلك لا بد من الاجتهاد وتهييئ الظروف المناسبة، بعيدا عن آراء فقهاء القرن الرابع ومن جاورهم ممن يرون أن الجنين يمكن أن يظل نائما في بطن أمه أربع سنوات، أو ثلاث سنوات، لجهلهم، وبعيدا أيضا عن التجارب المضحكة المبكية المطبقة حاليا في بعض البلاد الإسلامية: في الجزيرة العربية والسودان وإيران. وقد علق صاحب الأسئلة، محمد عمارة، على هذه الأجوبة بالإيجاب والترحيب، ودعا صاحبها إلى الالتحاق بِ»الإخوان» للاجتهاد بعيدا عن الفقهاء المتخلفين عن واقعهم، وضد النميري وأمثاله. (نذكر هنا أن مامون الهضيبي القائم مقام مرشد الإخوان قد دعا بدوره فرج فودة، في الجولة الأولى، إلى وضع برنامج سياسي للإخوان بدل الاستمرار في انتقادهم نتيجة غياب ذلك البرنامج، قائلا في نوع من اللمز الفج: «ألستَ مُسلما؟!». وكان فرج فودة قد تجاهل الطبيعة السجالية الكيدية للطلب فرحب به في الحال، ثم ذكَّر بالتزامه هذا في الجولة الثانية عندما دعاهُ محمد عمارة للالتحاق بالإخوان، وترك فؤاد زكريا في «عزلته الفلسفية»). ماذا وقع بعد هذا؟ الذي وقع يا سادة يا كرام هو إهدارُ «المشاييخ» لدم فرج فودة، وتوجيهُ ثلاثةٍ من الأميين الجَهَلَة لإطلاق النار عليه وتركه جثة هامدة، في حين بقي ابنُه الأصغر الذي كان بصحبته مدرجا في دمائه، تائها في مأساته. أفتى «المشاييخ»، كما صرح القتلة، بردة فرج فودة!!! والمفارقة الكبرى هي أنه لم يَمضِ غيرُ وقت قصير حتى تبنى القتلةُ الأغبياءُ أفكارَ فرج فودة بحذافيرها تكتيكا وتقية: تبنى «الإخوان» وجهةَ نظر فرج فودة حين قرروا الدخول في الحياة البرلمانية والمشاركة في الحكم مع «ملحدي» الأمس و»كفاره» الذين يفصلون بين الدين والدولة. وفي سبيل ذلك صاروا يُطمئنون شركاءَهم السياسيين المفترضين بعدم عزمهم على تطبيقِ الحدود الشرعية إن سُمح لهم بالمشاركة في الحكم. ويُطمئنون أتباعهم بأنهم لم يتنازلوا عن شرع الله، وإنما يحتاجون، من أجل تطبيقه، إلى الوصول إلى مقاليد الحكم، إلى التمكين أولا، ثم الشريعة تاليا، ف»الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، ويُعطي بالوزارة والبرلمان ما لا يعطى بِ»الإرشاد». عَلَّقوا تطبيق قطع يد السارق ورجم الزاني والزانية، وما إليهما، بتوفير العمل والسكن...الخ، وسكتوا عما هو أكثرُ إحراجاً، مثل الرق، خوفا على سمعتهم عند الغرب الكافر. وقد جلب عليهم هذا «الإرجاء» التكتيكي سُخطَ أجنحتهم المتطرفة التي اعتبرت سلوكهم انزياحا خطيرا عن «الطريق المستقيم»، وتفريطا في حق الله تعالى. فنعتوهم بأبشع النعوت، وصار «المرشد العَقَدي» للإخوان ومُفتيهم (يوسف القرضاوي) مجرد كلب يعوي في نظر السلفيين الجهاديين. ثم دارت الأيام واصطدم التكفيريون بآلة الضبط البوليسي التي ردت الصاع صاعين، من الجزائر إلى أسيوط عبر ليبيا القذافي وصولا إلى مغرب 2003، وامتلأت الزنازين بالمكفرين فبدأوا يعودون إلى رشدهم، وقنَّعوا خيباتهم بخرافة «المُراجعات»، فلم يجدوا بدورهم من حل غير أفكار فرج فودة: «الإرجاء» إلى حين توفر الظروف. قلتُ خرافة المراجعات لأنهم ما إن أحسوا بالأمن في حكومة مرسي الذي أخرج من بقي منهم في السجون ومكن لهم في الدولة حتى أفرغوا تلك المرجعات من كل معنى. ومن خلال التصادم مع فرج فودة نُسجتْ الخرافة الثانية: حزب مدني/سياسي بمرجعية إسلامية. وقد تبخرت هذه الخرافات كلها في لحظة الامتحان، ذابت كل الفروق بين تيارات الدينسية في رابعة العدوية وما تلاها: لم يبق غير فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان، ولم يبق غير الإحراق والنسف. لقد كانت تصفيةُ فرج فودة مطلبا تنظيميا وليس فكريا أو عقديا. قتلوه لأنه كان طاقة خطابية إقناعية لا تقاوم. جمع بين المعرفة والذكاء وقوة البديهة، والمقارعة من داخل المنظومة الإسلامية. كان لا يتوقف عن تمجيد الدين الإسلامي وإبراز مفارقات الفقهاء والشيوخ: لقد نجح في فصلهم عن الدين، فانكشفت عوراتهم أمام أتباعهم. اغتالوه لأنه صريح لا يهادن: سخر من بؤسهم الفكري المتمثل في «فقه النكد». وقد عبر سليم العوا عن هذا الجرح بقوة حيث ركز تعليقه على مرارة سخرية فودة من الفقهاء. كما أن ثالث القتلة الذي بقي على قيد الحياة أرجع القتل إلى «السخرية من الدين»! حسْبَ ما أفهمه «المشاييخ». والحقيقة أنها لم تكن سخرية من الدين بل من الأغبياء الذين يحجِّرونه ويتاجرون به. ولذلك فعندما سأل القاضي الذي حاكم القتلة أحدهَم عن الكتاب (من كتب فودة) الذي وجد فيه ما يدلُّ على ردته؟ فاجأه، وفاجأ المحكمة، بأنه أمي لا يحسنُ القراءة والكتابة، وأن مرجعه في ذلك هو «المشاييخ»، وذكر مناظرة معرض الكتاب. ولم يجد مناظرو فرج فودة جملة واحدة في كتبه تشكك في دينه أو تدل على ازدرائه للإسلام أو أي دين. وعلى إثر هذه الإحالة استدعت المحكمةُ الشيخ محمد الغزالي وكان يعتبر أملَسَهم لسماع رأيه، ففاجأ الجميع، هو الآخر، بأن فرج فودة مرتد، وأن حكم المرتد القتل، أي أن القتلة (سماهم الشباب) لم يفعلوا أكثر من تطبيق شرع الله! وأن العيب الوحيد الذي يشوب عملهم هو «الافتئات» على الدولة، أي القيام بمهامها. وعندما سأله القاضي عن حكم الافتئات، أجاب بأنه غير محدد في الإسلام. وانصرف إلى حال سبيله سالما آمنا مطمئنا، بل أكثر من ذلك اتصل به الرئيس حسني مبارك وهنأه على شهادته أمام المحكمة، فقد كان مبارك متضايقا من «المدنيين» أكثرَ مما كان متخوفا من الإسلاميين الذين ضبط معهم قواعد اللعبة. وقد كان فهم حُسني مبارك «للمدنية» و»منظمات المجتمع المدني» موضوع تندر المثقفين والصحفيين، فهو لا يعرف غير مدني وعسكري. كان السياق أشبهَ بالذي اغتيل فيه عمر بن جلون: تبادل الخدمة بين الإخوان والأجهزة، ولذلك وقفتْ المتابعات في ملف فرج فودة، هو الآخر، عند «حطب جهنم»، كما يسمونهم، أي الأميين المنفذين. وعندما عوتب الشيخ الغزالي على إفادته أمام المحكمة، اعتذرَ بالشفقة على الشباب. دارت الأيام ووصل الإخوان للحكم فتذكروا أن هناك شابا من القتلة الثلاثة مازال في السجن، قضى 20 سنة من 55 التي حُكِمَ عليه بها في عدة جنايات (مجرم متسلسل)، فأطلقوا سراحه، وهيأوا له من أسباب الحياة ما يعوضه عن سنوات «المحنة»، وصار نجما في الفضائيات. وقد استقر في ذهنه أنه قام بعمل بطولي فرفض مجرد الاعتذار لعائلات ضحاياه، وهم كثر، وأصر لجهله وقساوة قلبه على ردة فرج فودة بدون أي دليل. وعندما سئل عن ذنب الجنود الأبرياء الذين صفاهم هو وجماعته بدم بارد في عملية إجرامية أخرى احتج بقوله تعالى: «إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين». وهذا النوع من فقه القتل والعماء هو الذي كان يستعمله الخوارج في عصور قوتهم وتجبرهم، فقد كانوا، كما تواتر في أخبارهم، يوقفون القافلة ويقومون بعملية فرز، فيصرفون غير المسلمين آمنين، لأنهم أهل ذمة مُكاتبين تطبيقا لقوله تعالى: «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه»، ثم يقتلون الذكور من المسلمين ويبقرون بطون الحوامل تحسبا لكون الجنين ذكرا، ويسبون النساء والأموال تطبيقا لفهمهم السقيم لقوله تعالى على لسان نبيه نوح: «رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارا،ً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً» (نوح 2627). ومعروف أن عنفَ الحركات الدينية المتطرفة، ودمويتَها خرجا، في العصر الحديث، من أفكار سيد قطب «شهيد الحركة»! وقد حاول محمد عمارة ومامون الهضيبي، في هذه الندوة، شرعنة ذلك العنف وتلك الدموية ب»الدفاع عن النفس» ضد عنف الدولة: سماه محمد عمارة مخالب الظلم، وسماه الهضيبي اندفاع شباب. تقرب إلى الله بعمل الجهاز السري الخاص الذي أطلق النار على جمال عبد الناصر، واغتال عددا من المسؤولين الكبار، من بينهم قاض. وهذا هو الدرس الأول من فقه القتل: يمكنك أن تمارس العنف ضد الدولة متى شئت، لأنها مبتدئة، والدرس الثاني هو الافتئات، فهو من باب النهي عن المنكر الذي يمارس باليد. بيت القصيد ذكرنا في ما سبق أن فقه النكد ناتج عن العجز عن مسايرة تطور التاريخ الذي يؤدي إلى الوقوف في وجه التطور. ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن الإنسان ريشة في مهب التيار: «الريح اللي جا يديه»، ولكننا نؤمن أنه قادر على التقويم والفرز، وتعديل مساره في كل لحظة. ومن العجز الذي تعبر عنه فئة منغلقة في المجتمعات الضعيفة الخائفة اعتناقها لمبدأ «سد الذرائع»، واعتباره ذكاء، وهو عين الغباء. فعظمة الإنسان لا تكمن في الامتناع عن استعمال الدواء لأن البيانات المرافقة تتحدث عن إمكانيات حدوث مضاعفات، بل تكمن في قدرته على التحكم في تلك المضاعفات والتقليل من آثارها. فقهاء النكد يقبلون أنصاف الحلول بعد فوات الأوان، ويأكلون الأطعمة البائتة التي لا طعم لها، ويساقون إلى جنة الحياة الدنيا بالسلاسل، وحين يدخلونها ويستحلون ملذاتها ينامون فيها، ويرفضون التحرك إلى جنات أخرى. أتساءل هل يخافون فعلا على المرأة أم يخافون منها، أم يعتبرونها عصفورة إن طارت من أيديهم لن تعود. مازال فقهاء النكد يتحدثون عن المرأة التي نفقتها على أبيها وأخيها وزوجها وأبنائها ليحرموها من استكمال حقوقها. يقولون هذا وأمام أعينهم (أو وراء ظهورهم) الإحصاءات التي تظهر النسبة الكبيرة من النساء اللواتي يُعِلْن أسرهن مائة بالمائة، واللواتي تساهمن بنسب مختلفة متصاعدة كما يساهم الرجل. وهم يعلمون، أو لا يعلمون، أن هذا هو المسار الحتمي للتحول من البداوة إلى المدنية، ومن الجهل إلى المعرفة، فالمعرفة كرامة، وهي أحسنُ مال، وأفضل «رَسْمَالْ». لماذا لا نكف عن النفاق؟ أعرف شخصيا حالات عديدة من الأزواج الذين أكرمهم الله بالبنات دون البنين، وفي كل خير، وقلوبهم تخفق خوفا عليهن من هبة النسيم. كما أني أعْمَلْتُ التلفون، عند كتابة هذا المقال، ووسطت الوسائط، في الوجهات الأربع من المغرب، فتأكد لي أن جميع الآباء الذين أمكن الوصول إليهم اتخذوا الإجراءات الضرورية لتفويت ممتلكاتهم لبناتهم خوفا من الورثة الذين ينزلون عليهن نزول العقبان والرخم على الفريسة ليلة موت الأب، فيحولون الجنازة إلى مجزرة. وخلال هذا البحث البسيط علمت أن هذا يقع أيضا للزوجات عند موت الزوج الذي لم يخلف ذكورا. وقد ذكر لي أن إحداهن أخفت خبر موت الزوج حتى تمكنت من نقل حاجياتها وفراشها بمساعدة الجيران الذين تكفلوا بإخفائها، لأنها عايشت تجربة مريرة أخرج فيها ورثةٌ لئام ٌأرملةً مسنة من المنزل الذي أفنتْ فيه زهرة شبابها وكهولتها ساعات بعد موت الزوج، بعد أن تقاسموا الصحون والملاعق. اتقوا الله. نداء يا عقول «الكَلَخْ»! وقُلوبَ المَلَخْ! طلع الفجر، وصاح الديك، واستيقظ «الراعي» فوجد الحظيرة مصانع وكراجات، والمراعي جامعات ومستشفيات... والسيوف دبابات والخيول طائرات... شدوا سراويلكم لعل التيار يصل إلى أدمغتكم. أمام كل طبيب اليوم طبيبة أو أكثر، وأمام كل أستاذ أستاذة أو أكثر، وأمام كل خبير خبيرة أو أكثر.... وقل مثل ذلك، أو شبيها به، عن الفن والشعر والرواية والمسرح والسينما. تزداد حصة النساء بزيادة تحضر المجتمعات وغلبة الحوار على العنف، والأمانة على الغدر. صح النوم! ذهبت تلك العصور التي يقف فيه الرجال وحدهم مؤلفين للكتب وممسكين بزمان الحكم، وتقف النساء في المطابخ وأمام المرايا في الحريم ... ذهبت تلك الأزمنة... المرأة اليوم ليست أُختي وأختَك، وأمي وأمك، وبنتي وبنتك فحسب، كما تقولون، بل هي إنسان مثلي ومثلك، ندُّ لي ولك. تنتظر منك احتراما، قبل أن تطلبَ رحمة أو عَطْفا. المرأة المثقفة المقتدرة لا تقبل النصف ولا الثلث ولا الربع لا من مال أبيها ولا من حب زوجها. المرأة الحرة المقتدرة لا تقبل اليوم أن تتخيل زوجها، ورفيق دربها، في أحضان امرأة أخرى إلا بالقدر الذي تتخيل فيه أنت زوجتك في حضن رجل آخر، إن كانت لك نخوة وغيرة. وإن جهلتَ كيف تتعامل مع النصوص الشرعية فاسأل الفاروق كيف تعامل مع «والمؤلفة قلوبهم..»، ومع «فاقطعوا أيديهما»، وغيرهما من محكمات الذكر الحكيم. هل تفهم الإسلام أحسن من الفاروق؟