يمثل هذا المقال القسم الأول من العرض الذي قدمه الباحث في ندوة: مجتمع المواطنة وترسيخ قيم الحرية، المنظم بالاشتراك بين اتحاد كتاب المغرب والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بالمقر المركزي للحزب بالرباط يوم 15 مارس 2014. ويتعلق القسم الثاني بالاجتهاد في تأويل النص التشريعي. لم يعد من الممكن الحديث عن الحرية والمواطنة وغيرهما من قيم الحداثة وكونية حقوق الإنسان دون أن تثور ثائرة الدينسيين (من يخلطون الدين بالسياسة) وجمهور الأصوليين، حيث يمتدُّ ردُّ فعلهم من تشويه المفاهيم إلى نعْت الخصوم بأبشع النعوت، وصولا إلى التكفير والقذف المؤديين إلى الجريمة، عاجلا أم آجلا. هذه الحساسية المفرطة إزاء كل القيم الإنسانية في عالم مفتوح تشكل خطرا على مستقبل المغرب. لذلك وجَب على كل المثقفين والمفكرين الديمقراطيين، يساريين وليبراليين، اتخاذُ موقف فكري واضح من الأصولية الظلامية التي تُسوِّق تصورا عاميا مُبسطا للدين، تصورا يوهم أنه (أي التصور) قادر على حل كل المشاكل التي يتخبط فيها المجتمع عامة، والشباب خاصة. يقدمون تصورا من أولى أبجدياته رفضُ مبدأ كونية حقوق الإنسان! يتسلحون لذلك بتصور لا تاريخي للهوية، محتكرين فهم الدين الإسلامي، رافعين شعار: "لا اجتهاد مع النص". ونظرا لأن مطارحة "الفكر" في المجال العملي السياسي ليست تأمُّليةً فلسفيةً تجري بين مختصين في أبراج عاجية بل هي حجاجية بيداغوجية تجري في الفضاء الطلق أمام الجماهير التي هي الهدف والمخاطبُ الحقيقيُّ فلا يمكن أن يتحقق الغرضُ المُتوخى منها إلا بإدماج المعطى الديني الإسلامي في منظومة الحجاج. وإذا كان الأمر كذلك فإن المعركة ستكون في مستوى قراءة النص المرجعي في التشريع الإسلامي، وهو القرآن أساسا، وما صح من السنة تابعا ومكملا في ضوء المعارف التشريعية والبلاغية الحديثة، دون إغفال القراءات المذهبية المعتبرة في التراث، فهي تفتح أمام المستفتي آفاقا واسعة للاختيار، وتقومُ حجة قاطعة على مشروعية الاجتهاد في كل العصور. هذا هو طريق السياسة الذي قد لا يستوعبُه العالمُ الذي اختارَ عزْلَ الظواهر ودراستها مخبريا أو رياضيا، أو حتى في ضوء التاريخ منفصلاً عن الواقع (وهذا شأن أكثر مؤرخينا)، كما لا تستوعبُه فئاتٌ من مناضلي اليسار الجذري التي تقرأ الواقع العربي الإسلامي بأليات ومفاهيم كونية دونما قدرة على تبييئها وتدريجها (بالمعنى البيداغوجي). ومن الأكيد أن السياسي الجدير بالاسم لا يُعادي المعرفة العلمية الصرف، ولا النظريات الثورية الراديكالية، بل يتغذى من الأولى ويتفاعل إيجابيا وبصبر مع الثانية باعتبارها تشنجا طبيعيا، دون أن ينسى أن مهمته الأولى هي حياة المريض الذي بين يديه، وقد تكون في حالة استعجال، ولذلك قد يضطر إلى اختيار أقل الحلول سوءا بدل الانتظار للحصول على الأحسنقل الحلول . إن المواجهة من داخل النسق الحضاري لا يعني إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، كما يعتقد بعض الثوريين الطهريين (الذين يجهلون حتى تاريخ الإخوان المسلمين وما تناسل منهم، وعلاقة الجميع بالفكر الخارجي)، بل يعني إعادة القراءة في ضوء أسئلة العصر الحديث بما يسمح بالتقدُّم نحو المستقبل. القراءة الفاهمة من الداخل (قراءة التاريخ وقراءة النص) هي التي تُجرِّد الدينسيين المغتربين عن العصر الحديث من أسلحتهم التي يضللون بها الجماهير غير الخبيرة بشؤون الدين والحياة. ولذلك فإن هذا المدخل يُثير حفيظةَ من يسعون لتجميد مفاهيم النصوص في لحظة تاريخية بعينها، لأن التاريخ يُحرجهم، ويطعن في فهمهم من عصر الرسول إلى اليوم. وهو الذي يُمِدُّ المجتهدين من داخل المنظومة بأقوى الحجج. (الشاهد الحي على ما نقول هو رجوعُ الحقوقيين المطالبين بحقوق المرأة إلى محمد عبدُه وعلال الفاسي وابن عاشور وغيرهم من المجتهدين القدماء والمحدثين لتليين الموقف المتصلب من قضية التعدد والولاية وغيرهما). ولاستكمال الصورة، واستيفاء التشخيص (لصالح المريض نفسه) نقول بأن السعيُ للخروج من التاريخ ليس الإعاقةَ الوحيدة التي يعاني منها الدينسيون، والأصوليون الدينيون عامة، بل هناك عائق آخر يُعرِّضهم للحرج والسخرية، فيدفعهم إلى العنف المؤدي إلى القتل، وهو معاداتهم المتأصلة للفلسفة والفن والتصوير واللعب، وغير ذلك من الأبعاد الإبداعية الحرة التي فُطر الله عليها الإنسان... ولذلك يرفضون التأويل، أي إعطاء الوقائع أكثر من معنى حسب السياقات الزمانية والمكانية والفكرية... فبمعاداتهم لهذا البعد الإنساني مالوا إلى الكسل الفكري والانطفاء الوجداني مغلبين شهوتي الفرج والبطن (يَجُرُّون وراءَهم حاليا تهمةَ اغتصاب الأطفال تحت قناع عقد النكاح)، ميالين للصيرفة (أي ترويج ما هو قائم) أكثر من الصناعة والتكنولوجيا التي لا يستقيم أمرها في غياب الفلسفة والفن والإبداع الفكري والوجداني. فهم يعتقدون أن بالإمكان الوصول إلى الصناعة والإبداع المادي دون العبور من الفلسفة والفن، وهذا سابع المستحيلات. إن الفكر الإنساني لا يحدث أي اختراق في أي جبهة ما لم يكن مسنودا من جميع الجبهات، هكذا خلق الله الإنسان، وهذا مغزى قصة خروجه من الجنة، وهذا معنى كونه ظلوما جهولا. لكل ما تقدم ظلوا في حالة تدحرج وراء الإبداعات العلمية الحديثة: يرفضون، ثم تُغطيهم الموجة، ويعلوهم الطمي فيقبلون، خاصة بعد تعرض المجتمعات العربية الحديثة لهزائم مُذلة، ووقوف "علمائهم" فاغري الأفواه أمام صغار المهندسين الغربين يشرحون لهم ألغاز هذا الكون التي تُصادمُ الكثير مما يعتقدون. حاشية: من الطريف أن بعض الدينسيين صار يضحك من سذاجة البعض الآخر، ويسخر من تدحرجه السريع وراء المستجدات. من ذلك سخرية وجدي غنيم، من تدحرج قادة حزب النور السلفي المصري: من تحريمه العمل البرلماني إلى المسارعة لتكوين حزب، وتحريم ظهور المرأة بأي وجه ثم ترشيحها في الانتخابات وإخفاء صورها،...الخ. والغرابة تأتي من أن هذا الغنيم هو صاحب القولة المشهورة: "الفرخة فرخة والديك ديك"، تشبيها لحال المرأة والرجل، وتدليلا على استحالة المساواة في الحقوق! لقد مرت المجتمعات الإسلامية بفترة عصيبة عند لقائها غير المتكافئ مع القوى العالمية التي بنت أسس معرفة جديدة تنتج سلاحا يسخر مما بيد المسلمين، فجربوا الاستيراد، من القرن السادس عشر إلى الآن، ولم يفكروا في بناء الذات إلا عابرا: في زحمة الاستقلال. وقتها طرح السؤال: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ (فتحت هذا الاسؤال، وفي محاولة الرد عليه أمكن أن يجري حوارٌ بين قاسم أمين وسلامة موسى والعروي، من جهة، ومحمد عبده وعلال الفاسي وآخرين، من جهة أخرى). غير أنه ما إن تعثرَ مشروعُ الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية حتى أقصي هذا السؤال، وكأنما انشقت الأرض فخرج منها الخوارج الجدد يحملون الورقة الحمراء في وجه كل من يحاول الإصلاح الاجتماعي في ضوء معطيات العصر الحديث، والورقة الحمراء هي: النصي والقطعي. و "الإسلام هو الحل"، والقرآن هو الدستور، فيه كل شيء: "لا استفتاء لا دستور، قال الله قال الرسول"، كما نسب لعلي بلحاج في حملته الانتخابية. زوبعة تسحب وراءها كل غُثاء، وتثير كل غبار. من المعروف أن هذه الدعوة النكوصية انطلقت بقوة في العقد الثالث من القرن الماضي (1928)، إثر سقوط الخلافة العثمانية. ولذلك كانت معادية لفكرة الوطن، والدولة الوطنية، باعتبارهما نقيضين للنظام الإسلامي القائم على الخلافة، واستمر هذا الحقد إلى اليوم، ظاهرا في جهة، وكامنا في أخرى. وقد ظل العلاجُ أمنيا، ولم يُطرحْ كقضية فكرية حوارية إلا في ملتقى العقدين الأخيرين من القرن العشرين. ملتقى العقدين الأخيرين من القرن العشرين مهم جدا بالنسبة إلينا في المغرب، مهم لفهم ما جرى ويجري، مهم لتوضيح السؤال، فكأننا نجتر اليوم طعاما بائتا، أو مُضغ وهُضم وفُرغ منه: يبدو أننا نُعيد طرحَ كلِّ الأسئلة التي حُكِّكَتْ في تلك اللحظة. وقتَها وقع عنف وتطرف في أرض الكنانة، وجرت في خضمه مناظرات قوية حامية شارك فيها أقطاب شيوخ الدينسية الذين قُدِّمُوا لنا، ونحن طلبة، كمفكرين إسلاميين: درسنا وقتها مادة، أو أكذوبة، "الفكر الإسلامي الحديث"(!). شارك في تلك الندوة الشيخ محمد الغزالي ويوسف القرضاوي ومحمد عمارة ومامون الهضيبي وسليم العوا، وكان يقف في الصف المقابل لهم دعاة الدولة المدنية، وفي طليعتهم الشهيد فرج فودة، وفؤاد زكرياء، ومحمد خلف الله. فبعد مناظرتين تمهيديتين نُظمتْ مناظرة تاريخية حاسمة سنة 1992 تحت عنوان: "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية". هذا هو العنوان الذي اتفق عليه الطرفان قبل الندوة. دارت هذه المناظرة التاريخية الخطيرة في جولتين: الجولة الأولى في معرض الكتاب بالقاهرة، واستمرت أكثر من ساعتين، أعقبتها جولة ثانية في نادي المهندسين بالإسكندرية ضربت رقما قياسيا في الزمن الذي استغرقته، إذ استمرت أربع ساعات من الجدال الحاد، قُرع فيه العظم بالعظم، وانكشفت خريطة الدينسية بجلاء: انكشف اللقاءُ عن "إخوان" يقبلون فصلا "إجرائيا" (ليس مبدئيا، ولكنه من المؤقت الذي يدوم) بين العقيدة والشريعة باعتبار الأخيرة مفتوحة للاجتهاد والتدرج في التطبيق، وتكفيريون يرفضون هذا الفصل من داخل القاعة. رغم الصخب الذي صاحب الندوتين من قِبَلِ الآلاف من أنصار الدينسيين داخل القاعة وخارجها، خاصة في معرض الكتاب، حيث رُفعت الشعارات والتكبيرات الحربية، فقد تجرع ممثلوا الدينسية مرارات أمام قوة عارضة فرج فودة الذي خَبَر أساليبهم فلم يستسلم للاستفزازات الكثيرة التي مارسها المناظرون، ولا للهرج والشغب الذي مارسه الجمهور المندفع بشكل غريزي. وأعتقد أن محمد عمارة المعروف بقدرته الكبيرة على التحميس الخطابي قد تجرع كل المرارات في هذه الندوة، خاصة في جولتها الثانية التي حضرها فؤاد زكريا عِوَضا عن محمد خلف الله. تنوير: والدليل على ما أقول هو أن الدينسيين تعاونوا جميعا على قتل فرج فودة، بين مُفتٍ (شيوخ الإخوان: الغزالي مباشرة ومحمد عمارة تلويحا) ومنفذٍ (تكفيريو الجماعة الإسلامية)، ثم تبنى "الإخوان" مقولته المركزية التي دافع عنها طوال الندوة، وهي أن الشروط القائمة في العالم العربي لا تسمح بتطبيق الشريعة كما قننها فُقهاء القرن الرابع الهجري، الذين تحدثوا عن حكم "الراقد" في بطن الحامل! ولا على الطريقة التي يطبقها النميري وأمثاله من الحكام العرب المتاجرين بالدين. أما التكفيريون من جماعة الدعوة فقد رفعَ واحد منهم في نهاية الندوة المصحف الكريم، من داخل القاعة، متعجبا من حديث الإخوان والعلمانيين معا عن البرنامج الإسلامي، قائلا: "هذا هو الدستور"! القرآن هو البرنامج! وبعد أن قضوا عقودا في السجون عادوا بدورهم لتبني أفكار فرج فودة ضمن ما سموه مراجعات. إن مطالبة فرج فودة بالبرنامج السياسي الإسلامي، وطلب مرشد الإخوان منه أن يضع هو (أي فرج فودة) البرنامج باعتباره مسلما، ثم قيام أحد زعماء التكفير بالاحتجاج على مجرد طرح فكرة البرنامج يخفي الكثير من الإحراجات التي يُفضل الدنسيون تركها للزمن ليفصل فيها: لأن طرحها بوضوح ضمن برنامج سياسي قائم على أرضية فكرية وأخلاقية، سيكشف عن تناقضات بين التيارات وداخل كل تيار على حدة. لقد ساهمت تلك الندوة بالنار والحديد في إحداث تقارب بين شيوخ الإخوان الذين دخلوها بأفكار متعارضة متضاربة: فالشيخ الغزالي، مثلا، دخل الندوة وهو يرى رأيَ السلفيين في أن الإسلام لم يطبق إلا في عصر الخلفاء الراشدين، إذ كان يحصر "عصر السلف" فيما سبق ظهور الخلاف السياسي والمذهبي مُدينا كل ما جاء بعده (وهذا موقف جماعة العدل والإحسان المتحدثة عن العضد). غير أن تحويلَ هذه المقولة من قِبَلِ المطالبين بِ"الدولة المدنية"، والعلمانيين عموما إلى حجةٍ تدل على أن الدين الإسلامي ليس نظاما سياسيا صالحا للتطبيق، جعلهم يشرعون في نقل حدود تطبيق الإسلام كنظام سياسي من القرن الأول الهجري إلى القرن 19 عشر الميلادي، أي ما قبل دخول الاستعمار، وإحلال المحاكم العصرية محل المحاكم الشرعية، وهو ما يعني عندهم إحلال الدساتير محل كتاب الله. فهذه في نظرهم هي لحظة سقوط الخلافة الإسلامية. لقد تولى محمد عمارة نقل أحجار المحافظة التي تحدد أرض السلف بعد الذي شاهده من استغلال فرج فودة لأقوال الشيخ محمد الغزالي في نوع من السخرية الخفية، وبذلك بدا الغزالي متجاوزا، فهو يتحدث من داخل النص القرآني مع مفكرين يقرؤونه من الواقع. فالغزالي، ومن على شاكلته، يعتقدون أن قوله تعالى: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله" كافٍ للتدليل على إمكان قيام الدولة الدينية، وأن هذه الآية يمكن أن تُفعَّل الآن حتى وإن لم تُفعَّل طوال أربعة عشر قرنا. أما المعارضون للدولة الدينية أنه ليس فيما أنزل الله نظامٌ للحكم، بدليل اختلاف حصابته في طريقة الاستخلاف، واختلاف المسلمين طوال التاريخ، وإلى اليوم، في النظام الملائم، وتبنيهم حاليا لنظام الاقتراع الجماهيري الذي عادَوْه طوالَ التاريخ. وهذه مزية وعبرة لمن يعتبر. أما بعد، فإن الأصولية الدينية مسألة عادية وطبيعية، وهي موجودة في كل الديانات، ومهمتها دق الأجراس عند الحاجة لإحداث توازن بين المكون الروحي والدنيوي، وإتاحة خيار نفسي هام لكل إنسان حسب حاجته. وهي تقيم توازنا طبيعيا مع الأصولية الدنيوية المادية الاستهلاكية التي لا تقيم وزنا للإنسان وآلامه. وهذا الدور الرقابي التنبيهي الوقائي التشفعي هو الذي لعبه رجال الدين من فقهاء ومتصوفة طوال التاريخ المغربي، بل الإسلامي، وما اقتربوا من الإمساك بزمام الحكم، أو خَلَوْا بالحكام، أي تحولوا إلى دنسيين، إلا اقترفوا أفظع الجرائم. لأنهم يرفعون في وجه خصومهم شعار النصي والقطعي ولا اجتهاد مع النص، وهم يعلمون أنهم كاذبون، لأن المسلمين اجتهدوا في توجيه النصوص نحو ما يحقق المصلحة طوال التاريخ. ومن أثبت منهم أنه غير كاذب فهو جاهل بالتاريخ، مجترئ على الخوض فيما ليس أعلا له. وسنحاول، في مقال لاحق، تقديم تصور نسقي جديد لبلاغة النص التشريعي، وهي بلاغة تستوعب كل الإشكالات الأصولية الفقهية واللغوية البيانية. وهي بقدر ما تكشف تدليس المدلسين المتسترين وراء النصي والقطعي بقدر ما تحرر الدينسيين أنفسهم من عقدة الحرج أمام المتغيرات التي يقفون أمامها مشدوهين، يبلعون ريقهم ولا يجيبون، مثل قضية الرق وملك اليمين.