عندما وطأت قدماي مدينة سبتة أول مرة تذكرت أناشيد الطفولة في التلاوة المفسرة عن الوطن، كانوا يحدثوننا عن احتلال سبتة ومليلية والجزر الجعفرية، وكنا نحفظ الدرس عن ظهر قلب حتى لا يعاقبنا المعلم وننتظر بفارغ الصبر رنين الجرس الذي كان فيه الخلاص من كل شيء، نخرج مندفعين يشد بعضنا ثياب البعض الآخر، وننسى الموضوع، لأننا لم نكن نعلم وقتها معنى كلمات "احتلال" و"وطن" التي تنتمي إلى قاموس الكبار، لأن الكبار هم الذين يصنعون النصر والهزيمة ويرسمون الخرائط التي علينا حفظها واستظهارها فقط، وعندما أصبحت أنتمي إلى عالم الكبار لم أعد أفهم كيف أن رجال الأمن المغاربة يصرون على ختم جواز سفرك في "طاراخال"-الحدود مع سبتة- وإقامة المتاريس، ثم يسمونها حدودا وهمية في قواميسهم الرسمية، وكصحافي صار يطلب مني أن استظهر تلك المصطلحات وأعيد إنتاجها حتى لا يعاقبني "الكبار"، أجراس كثيرة ترن في دواخلي عندما كبرت، لكنني غير قادر اليوم على نسيان الموضوع بمجرد سماع صوت الجرس مثلما كنت أفعل في طفولتي البعيدة بعد كل درس عن الوطن. عندما تجتاز معبر "طاراخال" الذي يعلوه الغبار، عليك أن تضيف ساعة إلى وقتك، وتنزع خمسة قرون من تاريخك، تمشي في أرض هي امتداد لك، لكنها في ملكية جارك الذي يضع أعلامه عليها في كل مكان، قضية عادلة أخرى بمحامي فاشل، ففي وزارة الخارجية المغربية يملكون من الوثائق السرية عن كيفية إعداد "البسطيلة" أكثر مما يملكون من وثائق تاريخية عن سبتة ومليلية والجزر، هنا لا يحتاج المرء إلا لبضعة أمتار يمشيها حتى يصل إلى الاتحاد الأوربي وفق ما تخبره به يافطة زرقاء موضوعة في مدخل المعبر الحدودي. وفي وسط المدينة تخال نفسك فلسطينيا في القدسالمحتلة، شعبان يعيشان على رقعة جغرافية صغيرة وبينهما حدود نفسية كبيرة، لكل منهما مقاهيه ومطاعمه التي يرتادها دون قدرة من الآخر على الدخول إليها، لأن هناك حدودا نفسية مرسومة بعناية تفرض قوانينها على الجميع، الإسبانيون ينظرون إلى المغاربة كمواطنين من الدرجة الثانية لا تأتي منهم غير المشاكل، ولو لم يكونوا على تلك الأرض لكانت الصورة أجمل... يضع الإسبانيون علم بلادهم في عربات الأطفال وعلى القمصان وأحزمة السراويل، العلم الإسباني أشبه بتعويذة تحميهم من خطر المسلمين الذين يحيطون بهم من كل جانب، هم يعيشون في كيلومتر من المسيحية وسط بحر من الإسلام، لا يربطهم شيء بمحيطهم الخارجي تقريبا، يحلمون بشبه الجزيرة الإبيرية التي يزورونها لغرض مهم أو لتمضية عطلتهم الصيفية، فطبيب إسباني أخبرني أنه يعيش منذ ثلاثة عقود في سبتة، لكنه لم يزر يوما تطوان أو طنجة، يقطع دائما البحر إلى شبه الجزيرة، هي وجهته الوحيدة، أما مغاربة سبتة فينظرون إلى الإسبانيين كنصارى، محتلين وعنصريين، يكرهونهم في أعماقهم وتسود بين الطرفين نوع من العلاقات المشوبة بالكثير من الحذر. قررت أثناء تجوالي بسبتة أن أكسر كل القواعد، اشتريت جريدة "إيل موندو" الإسبانية اليمينية رغم أنني من قراء صحيفة ":إيل باييس" عادة، وكسرت الحدود النفسية وقصدت الجلوس في مقهى كل رواده من الإسبانيين، فهمت النادلة أنني غريب عن المدينة واستغربت من وجود "إيل موندو" بين يداي، دونت طلبي ثم عادت وقدمت لي القهوة بابتسامة خفيفة، طفقت أنظر إلى المحيط من حولي، كل شيء في هذه الأرض الصغيرة يبدو نسخة باهتة لإسبانيا، بل حتى الإسبانيين الجالسين حولي لهجتهم هي خليط من كل شيء، وملامحهم تدل على أنهم مختلفون عن الإسبانيين الذين عشت معهم بمدريد، هم أقل ثقافة وإحساسا بالانتماء إلى أوربا، ويمينيون في كل تفاصيل حياتهم فشعورهم القومي زائد، فمن يعيش في سبتة لا يمكنه إلا أن يكون يمينيا أو متحدرا من عائلة عسكرية أو إدارية، فلا يمكن لشخص يملك إحساسا غير شوفيني أن يعيش هنا، لذلك لم تنتج هذه المدينةالمحتلة أي شيء لشبه الجزيرة طيلة تاريخها، فلا قادة سياسيون بارزون خرجوا من هنا ولا مثقفون متميزون، بل إن سبتة وقرينتها مليلية يتربعان على قمة الفشل المدرسي بجارتنا الشمالية، فكل شيء وصل إليهما متأخرا حتى رياح الديمقراطية الإسبانية، فصورة الجنرال فرانكو ظلت معلقة في قاعة الاجتماعات ببلدية سبتة إلى حدود عام1980، أي خمس سنوات بعد وفاة الجنرال القوي وسنتين بعد إقرار الدستور الذي نقل البلاد إلى نظام الملكية البرلمانية، وحدها الأزمة الاقتصادية جاءت مسرعة إلى سبتة ومليلية وستغادرها بشكل متأخر جدا. سياسيون كثيرون لوحوا بضرورة التفاهم مع المغرب حول سبتة ومليلية، منهم الجنرال بريمو دي ريفيرا-قائد الانقلاب العسكري الشهير في بداية القرن العشرين- ومانويل فراغا- مؤسس الحزب الشعبي الإسباني- لكنهم كانوا يعاقبون ويبلعون ألسنتهم بعدما تبدأ الجلبة من حولهم، وهو ما حصل أيضا مع الدبلوماسي الإسباني "ماكسيمو كاخال" قبل عشر سنوات عندما خط كتابا جميلا اجترح له عنوان " سبتة ومليلية وأولبينثي: أين تنتهي إسبانيا"، لكن الرجل تعرض لحملة شيطنة وتلقى صفعات وركلات وأطفأت من حوله الأضواء حتى يعود إلى رشده، لأن ما كتبه خروج عن النص التاريخي الذي قرأه في كتب المدرسة الإسبانية، و"تحريف" لخط التاريخ ، ... هكذا هي الجغرافيا والتاريخ أعقد مما كنا نتصور ونحن نحفظ الدروس و نستظهر الأناشيد على مقاعد الدراسة.